دروس من الزلزال
آيات كثيرة يعيشها البشر كل يوم بل كل لحظة، آيات من حولنا بل في أنفسنا؛ لكن قليلا من الناس من يلتفت إليها أو يتعظ بها.
وحتى عندما تنزاح الحُجب، وتنكشف حقيقة الموت، يتعجب المرء من الذين لا يرون هذه الحقيقة. والزلزال الذي ضرب عشر ولايات جنوبي تركيا، ومدنًا عدة في الشمال السوري؛ فخلّف عشرات الآلاف من القتلى، وأضعافهم من المصابين والمتضررين، وقع فجأة في اللحظة التي يشعر الناس فيها بالراحة والأمان وبأنهم أقوى وأكثر ثقة.
لقد أظهر الزلزال، ليس للمتضررين وحدهم؛ بل للبشرية جمعاء عجز الإنسان وضعفه وأنه لا يملك من أمره شيئًا، كشف لنا الزلزال أن الثروات والممتلكات والطبقية والانتماءات الثقافية والجغرافية، كلها تتساوى أمام مثل هذه الكوارث الكبرى، ويمكن لكل هذا أن يذهب سدى في وقت واحد وعلى حين غرة.
إنا لله وإنا إليه راجعون. ماذا نملك في هذا العالم؟ إلى أي مدى سنحتفظ بما نملك؟! إلى أي وقت يمكن أن يشعر المرء بالأمان؟! كم نعرف عن هذا النظام الذي تحت الأرض، والذي نعتقد أنه توازن في خطوط الصدع؟ هل هذا النظام وهذا التوازن يتخذ قراره فقط لأسباب علمية مادية خارج إرادة الله؟!
نرى من خلال الزلازل ما الذي يمكن أن تسببه حركة بسيطة في طبقة صغيرة من قشرة الأرض. بكل تأكيد، يجب الحذر من الزلازل، وتشييد مبانٍ قوية مقاومة لها، وهذا درس مهم يجب أن نعيه جميعا. ولكن أليس هناك درس آخر يمكن أن نستخلصه من وراء هذا الابتلاء؟
الجميع سواء
ألا يمكن أن نتعلم الدرس؟ ألا يجب أن يتواضع الناس بعضهم لبعض ولا يكونوا متعجرفين؟! ألا نتعلم ألا يفخر بعضنا على بعض؟! ولا يستعلي بعضنا على بعض؟! وندرك أننا جميعنا سواء، وسواسية أمام الموت وأمام الابتلاء.
لا أحد يستحق العبادة إلا الله العلي القدير الذي يبقي أجسادنا حية عبر آلاف المعجزات التي تحدث في كل لحظة.
إن المولى القدير أمر الناس أن يحب بعضُهم بعضًا، ومن خلال الأُلفة والمحبَّة، يصبح العالم أكثر جمالًا. الحب البشري ليس بديلا عن محبة الله، بل هو من تمام حب الله تعالى.
يوضح الزلزال، رغم كل آلامه، معجزة أخرى عن سبب وجودنا وهي محبة الناس وتضامنهم وتعاونهم فيما بينهم، وأن يدعم بعضُهم بعضًا ويساند القوي الضعيف، ويأخذ الكبير بيد الصغير، وينفق الغني على الفقير. إن يد الرحمة والتعاطف التي ولدت من هذه المحبة تقرب الإنسان من ربه، حيث يصل بإذن ربه إلى الناس الذين ينتظرون المساعدة.
من المشاهد المهمة التي أتوقف عندها في هذا الزلزال مشاهد رجال الإنقاذ والعاملين بالإغاثة، فهؤلاء أيضا يحتاجون إلى مد يد العون لمساعدتهم، وأن نشدّ على أيديهم، ونقدّر لهم الدور العظيم الذي يقومون به لإنقاذ الضحايا وانتشال الجثث من تحت الأنقاض.
هؤلاء المتطوعون الذين فتحوا قلوبهم وأعينهم إلى أقصى حد والذين يمتلكون ضمائر حية يهرعون لمساعدة المنكوبين وإغاثة المتضررين.
الزلزال هو أيضًا دعوة لأولئك الذين تركوا خلفهم كل المآسي والمشاهد المرعبة والوفيات، أي دعوة إلى عمل من شأنه أن يساهم في عملية الإحياء هذه. المتطوعون الذين يستجيبون لهذه الدعوة ويهرعون للمساعدة هم في الواقع ينقذون أنفسهم ويعملون لأنفسهم.
أما الذين يعتقدون أنه لا يقع على عاتقهم شيء من المسؤوليات الناجمة عن هذا الزلزال، فهم في الحقيقة تحت الأنقاض ومن الصعب جدا إنقاذهم. حتى الذين ينتهزون فرصة تقديم المساعدة للتباهي أمام الآخرين وبناء ميزة فوقهم. هذا واحد من أكثر المواقف انحطاطًا.
بعض الأشخاص لم يدركوا بعدُ كارثة الزلزال بكل أبعادها، بل أُغلقت أعينهم وطُمست وأظلمت قلوبهم أكثر، حيث أصبحوا يظهرون العداء تجاه السوريين، في حين أن الزلازل والوفيات أظهرت نفسها على أنها حقيقة واضحة مع مساواتها بين الناس، وعدم التمييز بينهم.
الكذب البواح
وفي برنامج تلفزيوني قال أوميت أوزداغ الذي كان غير صادق لدرجة الافتراء، إن فرق البحث والإنقاذ تعطي أولوية لإنقاذ المنتمين لحزب العدالة والتنمية! فأي كذب هذا وأي خداع للرأي العام؟! وأي استغلال لمصائب الناس ومحاولة توظيفها توظيفا سياسيا رخيصا؟!
أوميت أوزداغ يكشف عن نيات حقيقية مفادها أنهم لو كانوا هم القائمين على إدارة شؤون البلاد فسيمارسون مثل هذا التمييز العنصري الذي يرمي به رجال الإنقاذ. من الواضح أن السوريين المظلومين يتوقعون هذا الشر من أمثاله. لهذا السبب كان أحدهم على وشك الموت تحت الأنقاض، وعند سؤاله هل يوجد أحد؟ كان يخاف من الإجابة كي لا يُعرَف أنه سوري فيُتخلَّى عن مساعدته. هذه قمة البؤس الإنساني، أن يفضّل المرء البقاء تحت الأنقاض بدلا من الخروج لحياة مليئة بالحقد والكراهية والتمييز العنصري.
الذين لا يخجلون من إنسانيتهم أمام هذه الكلمات هم بالفعل تحت أنقاض ذلك الزلزال. إن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء وسيحاسب كل إنسان بالعدل سواء كان تركيا أو كرديا أو عربيا، فقيرا كان أو غنيا حاكما أو محكوما.
لكن الإنسانية لم تُترك لأمثال هؤلاء العنصريين؛ فبعد وقوع الزلزال اندفع الملايين من الناس، الذين فُتحت أعينهم واستيقظت ضمائرهم، لتحرير وحماية تركيا والبشرية التي دنسها العنصريون. وقاموا بتقديم الحماية لأنفسهم وللبشرية جمعاء، والحمد لله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق