بين علاج الجسد وغذاء الروح.. أطباء برعوا في مجال الأدب
عبد الرحمن أحمد
"والناس تسأل والهواجس جمة طبٌ وشعر كيف يتفقان
الشعرُ مرحمة النفوس وسِرّه هِبة السماء ومِنحة الدَّيان
والطبُ مرحمة الجسوم ونبعُهُ من ذلك الفيض العليّ الشان
ومن الغمام ومن معين خلفه يجدان إلهاما ويستقيان"
بهذه الأبيات، قدم الطبيب والشاعر المصري الشهير إبراهيم ناجي الإجابة عن تساؤل طالما طرحه الناس كلما نبغ طبيب في مجال الأدب والكتابة، رغم التفاوت والاختلاف بين طبيعة العالمين الطبي والأدبي.
وإذا كانت ظاهرة الأطباء الأدباء معروفة في التراث العالمي والعربي عبر التاريخ، فإن مصر كان لها نصيب كبير من الأطباء المبدعين في مجال الأدب والكتابة، فنظموا الشعر وألفوا القصص والروايات والمسرحيات وأبدعوا في الكتابة الأدبية قبل العلمية.
أدب الـ"بالطو"
وخلال الأيام الماضية، عاد الحديث عن الأطباء المصريين المبدعين في مجال الأدب إلى الواجهة، مع بداية عرض مسلسل "بالطو" (إشارة إلى رداء الأطباء الشهير) المستوحى من رواية ساخرة بعنوان "بالطو وفانلة وتاب" كتبها طبيب العظام المصري الشاب أحمد عاطف فياض.
الرواية المكتوبة بالعامية المصرية صدرت عام 2016، وحظيت بإعجاب كثير من الشباب، إذ تقدم بأسلوب كوميدي ساخر معاناة الأطباء حديثي التخرج.
الطبيب الشاب له كتابان آخران، هما "الحياة على سطح البطيخ"، و"الإنس والجبس"، إلى جانب منشوراته الساخرة على صفحته على فيسبوك، التي تحظى بمتابعة قرابة مليون شخص.
بين الطب والأدب
يمارس فياض الطب إلى جانب الكتابة الساخرة، وهو في ذلك يسير على خطى أطباء مصريين استمروا في ممارسة مهنة الطب، بينما كانت قريحتهم تجود بدرر أدبية خالدة، وآخرين مهدت لهم دراسة الطب والقرب من معاناة المرضى طريقا إلى الكتابة الأدبية التي تفرغوا لها، موقنين بأنه إذا كان الطب يبرئ البدن فإن الأدب يبرئ الروح، ونستعرض سير بعض منهم في الفقرات الآتية:
أحمد زكي أبو شادي (1892-1955)
شاعر مبدع وطبيب ماهر، جمع بين عالمي الأدب والطب، أسس مدرسة "أبولو" الشعرية المعروفة بالرومانسية والقافية المتغيرة، التي ضمت مشاهير الشعراء مثل أحمد شوقي وإبراهيم ناجي.
وأبو شادي لم يمنعه تخصصه في علمي الأمراض الباطنية والجراثيم، ثم علم الحشرات الطبية وعمله طبيبا وأستاذا بكلية الطب، عن الانخراط في الكتابة الأدبية.
ظهرت موهبة أبو شادي الأدبية مبكرا، وأصدر ديوانه الأول "أنداء الفجر" عام 1910، ثم توالى إنتاجه الأدبي، ليكتب عددا من الدواوين مثل "الشفق الباكي" و"أشعة وظلال" و"أطياف الربيع" و"الينبوع" و"شعر الريف" و"قطرة يراع"، كما ألف شعرا بالإنجليزية، حتى وصفه النقاد بالموسوعة الشعرية.
إبراهيم ناجي (1898-1953)
طبيب وشاعر وأديب، عرف بشاعر "الأطلال"، وكان من مؤسسي رابطة الأدب في مصر وأول رئيس لها، ووكيل جماعة "أبولو".
كان ناجي طبيبا متميزا وإنسانا رقيقا، وكان رؤوفا بالمرضى ويعالج الفقراء مجانا، وتوفي وهو يعالج أحد مرضاه، ويظهر أثر ممارسته للطب في تعبيره الدقيق عن المشاعر الإنسانية.
بدأ ناجي نظم الشعر في الـ12 من عمره، ويقول عن نفسه "نشأت أديبا قبل أن أكون طبيبا، فالأدب يجري في دمي، وطريقتي في النظم أني لا أكتبه، وطالما قلت لأصحابي إنني لا أنظم الشعر وإنما أتنفسه"، وفقا لما نقله محمد الخليلي في كتابه "معجم أدباء الأطباء" (1946).
له إنتاج أدبي غزير في الشعر والقصة وعلم النفس وعلم الاجتماع وفن التراجم والسير والخواطر العامة والترجمة، وعرف بخفة ظله.
سعيد عبده (1901-1983)
طبيب متخصص في الصحة العامة والطب الوقائي، وأديب وناقد وشاعر، ظل يمارس الطب إلى جوار الأدب حتى نهاية عمره.
تخرج في كلية طب قصر العيني عام 1930، وعمل طبيبا وأستاذا جامعيا في كليات عدة في مصر والدول العربية.
ظهرت براعته الأدبية مبكرا، وكتب في مجالات عدة بين العلم والنقد والشعر والزجل والقصة، وتناول قضايا السياسة والاجتماع والنفس، ودخل في مساجلات نقدية مع طه حسين، والكاتب المعروف محمود كامل المحامي.
ومن أشهر أعماله القصصية "هياكل في الريف" و"الجمعة اليتيمة" و"فاتنة الشيطان"، وله كتابات سياسية أبرزها "خطابات مفتوحة إلى العظماء والصعاليك"، بجانب عشرات المقالات العلمية في مجالات الطب.
محمد كامل حسين (1901-1977)
رائد طب العظام في مصر وأديب وفيلسوف بارز، صاحب رواية "قرية ظالمة" التي يعدها نقاد من روائع الأدب العالمي، وأول من جمع بين جائزتي الدولة التقديرية في الأدب وفي العلوم.
كان أول مصري يجمع بين زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية وماجستير جراحة العظام، ومؤسس قسم العظام بكلية طب قصر العيني، وأول رئيس لجمعية جراحة العظام، وأول رئيس لجامعة إبراهيم باشا (عين شمس لاحقا) عام 1952.
تميز بدراساته اللغوية والفكرية وإبداعه الأدبي، وأثرى المكتبة العربية بكتب عدة، منها "التحليل البيولوجي للتاريخ" و"وحدة المعرفة"، و"الوادي المقدس"، و"الذكر الحكيم" و"اللغة العربية المعاصرة"، بجانب القصص القصيرة، والبحوث والدراسات المتنوعة.
مصطفى محمود (1921-2009)
طبيب وأديب وفيلسوف، اشتهر ببرنامجه الموسوعي "العلم والإيمان"، وكتاباته في الفكر والفلسفة والاجتماع والأدب.
كتب القصص القصيرة والشعر والزجل في مرحلة دراسته الثانوية، بجانب ميوله الموسيقية.
درس الطب في جامعة القاهرة وتعلق بشدة بالعلوم والتجارب العلمية، وتخرج عام 1953 متخصصا في الأمراض الصدرية، وعمل في عدد من المستشفيات قبل أن يقدم استقالته عام 1960 ليتفرع للكتابة والأدب.
ألّف ما يقارب 89 كتابا متنوعا في العلم والفلسفة والسياسة والفكر الديني وأدب الرحلات بجانب القصة القصيرة والرواية والمسرح، وكان برنامجه التلفزيوني "العلم والإيمان" هو الأكثر شهرة وانتشارا في عصره، وحاز جائزة الدولة التقديرية عام 1995.
يوسف إدريس (1927-1991)
طبيب وكاتب شهير، اعتزل الطب وعلا نجمه في الأدب والصحافة، وأصبح أحد أهم كتاب القصة القصيرة في الوطن الأدب العربي حتى إنه يلقب بـ"أمير القصة القصيرة".
حصل على بكالوريوس الطب عام 1947 وتخصص في الطب النفسي، وعمل طبيبا لعدة سنوات قبل أن يقرر التفرغ للأدب والكتابة، وتميزت قصصه بالواقعية وأهلته دراسته الطبية إلى سبر أغوار النفس البشرية في أعماله.
بدأ نشر قصصه القصيرة عام 1950، وصدرت أولى مجموعاته القصصية "أرخص ليالي" عام 1954، ثم توالت مجموعاته القصصية مثل "جمهورية فرحات"، و"قاع المدينة"، و"بيت من لحم"، بجانب روايات مثل "العيب"، و"الحرام"، و"العسكري الأسود"، ومسرحيات "ملك القطن" و"المهزلة الأرضية".
نبيل فاروق (1956-2020)
طبيب وكاتب مصري اشتهر بأدب الجاسوسية والخيال العلمي، وحظى بشعبية جارفة بين الشباب في العقدين الأخيرين من القرن الماضي.
تخرج فاروق في كلية الطب بجامعة طنطا عام 1980، وبدأ عمله طبيبا في الوحدة الصحية بقرية أبو دياب في محافظة قنا.
اشتهر في أوساط الشباب بسلسلة المخابرات والجاسوسية "رجل المستحيل" وبطلها "أدهم صبري"، وسلسلة الخيال العلمي "ملف المستقبل"، وبعد نجاحهما قرر ترك الطب والتفرغ للكتابة.
كتب فاروق عديدا من السلاسل القصصية الأخرى مثل "زهور"، و"فارس الأندلس"، و"كوكتيل 2000″، و"سيف العدالة"، و"بانوراما"، و"حرب الجواسيس"، وغيرها من الأعمال الأدبية والمقالات.
أحمد خالد توفيق (1962-2018)
"أما أنا فأريد أن يكتب على قبري (جعل الشباب يقرأ)"، كانت هذه أمنية الطبيب وكاتب أدب الرعب الشهير أحمد خالد توفيق، وتحققت بعد وفاته عام 2018، التي شكلت صدمة لجمهوره الواسع من الشباب المصري الذي يلقبه بـ"العرّاب".
ارتبطت كثير من أعمال توفيق الأدبية بالطب، الذي درسه في جامعة طنطا وعمل بها أستاذا جامعيا، وحصل على الدكتوراه في تخصص طب المناطق الحارة عام 1997.
كان توفيق رائدا في مجال كتابة أدب الرعب والخيال العلمي، وحقق جماهيرية واسعة بين الشباب، بدأت مع سلسلة "ما وراء الطبيعة" في مطلع التسعينيات، ثم توالت سلاسله القصصية "فانتازيا"، و"سفاري" و"WWW"، بجانب ترجمة الروايات العالمية وروايات الرعب.
وكتب توفيق عددا من الروايات أشهرها وأهمها "يوتوبيا" (2008) التي ترجمت إلى لغات عدة، و"سنجة"، و"إيكاروس"، و"ممر الفئران"، و"شآبيب"، فضلا عن مجموعات قصصية وعشرات المقالات المنوعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق