التحيزات والعواطف المقاومة للزلازل
الزلزال لا يهزّ الأرض ويدمر الأبنية التي شيدت بأساسات مغشوشة ومواد لا تستوفي المعايير فحسب، بل يهزّ أيضا كل شيء ويمنح الناس فرصة جديدة كي يتغيروا ويراجعوا أنفسهم ومعتقداتهم وطريقتهم في الحياة وأخطائهم، إنها فرصة مراجعة شاملة للنفس. إنه يهز المشاعر، وحياة الناس، والعلاقات الإنسانية وحتى الدولة بكل أجهزتها. وفي حين جعلت هذه الرجّة البعض يُراجع نفسه، أصبح البعض الآخر في وضع أسوأ كثيراً.
في الواقع، هناك حكمة واضحة يستحضرها كل شخص حكيم بعد كل زلزال، لكن بعض أصحاب التحيزات والأيديولوجيات وكل من يشوب الكره والطمع قلبه لا يمكن أن يهزّهم أي زلزال وإن كان بشدة 20 درجة.
رغم أنهم رأوا بأم أعينهم آلاف الضحايا وشهدوا اهتزاز الأرض من تحتهم، فإن كل هذه الحقائق لم تستطع أن تغير وجهات نظرهم قيد أنملة. بل هم قادرون على تحويل تلك الحقائق إلى أداة للتمييز بين الناس وتأجيج الكراهية تجاه الآخرين، واستغلال مأساة شعبنا لخدمة نظراتهم الكريهة وتصرفاتهم المريضة.
هل كان أينشتاين هو القائل: "تفكيك التحيزات أصعب من تفكيك الذرات"؟ في الحقيقة، لدى البعض تحيزات لا يمكن لزلزال بقوة 500 قنبلة ذرية أن يهزها
شهدنا اليوم عمليات نهب وضيعة مثل تلك التي تحدث عادةً خلال الكوارث، وقد يكون من بين مرتكبيها سوريون ولكن بالنظر إلى النسب تبيّن أن غالبيتهم من مواطنينا الأتراك. ومثل هؤلاء خبيثون لدرجة التملص مما فعلوه في حق شعبهم أثناء هذه الكارثة من خلال إلقاء اللوم على بعض السوريين لإبعاد الشبهات عن أنفسهم. إنه شرّ لم يستطع هذا الزلزال -رغم قوته- أن يهزّ أركانه. لم تستطع أن تغيرهم هذه الآية العظيمة التي تفتح عيني كل إنسان، يبدو أن حتى الكوارث الكبرى تزيد بعض العميان عمى إضافياً على عيونهم.
إن المشاعر الجياشة التي تحفز الناس من جميع أنحاء البلاد والعالم الإسلامي لتقديم يد العون، تجعلنا نشعر بالتقصير أمام الله مهما شكرناه، فالحمد لله حمدًا كثيرًا. لنتذكر أن من نِعم الله تعالى علينا أن جعلنا إخوة بعد ما كان بيننا من عداوة وما كان يملؤنا من كراهية ورغم المسافات والاختلافات التي تفرق بيننا. هذه الزلازل التي تهزّ حياتنا بكل ما تحمله من آلام، تجسِّد كذلك جانبًا من سنة الله في الكون وتردّ الناس إلى جوهرهم الأصلي الذي انفصلوا عنه. إننا نرى هذا المشهد اليوم في تركيا وفي العالم الإسلامي بشكل عام عقب هذا الزلزال.
ولكن كما قلنا، رغم كل الدمار والموت الذي خلفه هذا الزلزال العنيف فإنه لم يستطع أن يبدد أحقاد البعض وكراهيتهم. هل كان أينشتاين هو القائل: "تفكيك التحيزات أصعب من تفكيك الذرات"؟ في الحقيقة، لدى البعض تحيزات لا يمكن لزلزال بقوة 500 قنبلة ذرية أن يهزها.
لعلّ خير مثال على ذلك، التصريحات التي أدلى بها مراد يتكين -الصحفي المعارض والمقرب من حزب الشعب الجمهوري- في برنامج تلفزيوني في إسطنبول كما لو أنه كان من أوائل من توجهوا إلى المواقع التي ضربها الزلزال، وبدل نقل ما رآه أخذ يتحدث عن أمور لم يرها. وقد تساءل مستهزئا "أين هم أصحاب العمائم ودورات تحفيظ القرآن؟ أليس بإمكانهم القيام بشيء؟ أين هم؟ ألن يخرجوا إلا للصلاة؟ هل سيظهرون بعد الموت فقط بدلًا من إنقاذ الأرواح؟".
بالطبع، إذا لم ينظر فلن يرى، لكن المشكلة تكمن في عدم رؤيته حتى ولو نظر، أو بالأحرى هو لا يريد أن يرى. إنه لا يحتاج حتى لأن ينظر بعيدًا ليرى أن جميع المحافظين أو الإسلاميين تقريبًا قد كانوا هناك في الميدان. عند كل حطام وخلال توزيع المساعدات كانت هناك جماعات وجمعيات محافظة وإسلامية. لكن بالنسبة ليتكين وأمثاله فإنه بإمكانهم التشدق بتلك الادعاءات خلف شاشات التلفاز دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث أو الذهاب بأنفسهم إلى المواقع المنكوبة.
إنهم يظهرون ما يشعرون به من خوف وقلق تجاه حفلات التخرج الجماعية التي تُقام لتكريم حفظة القرآن. والشعور بعدم الراحة تجاه القرآن في مجتمع إسلامي. هذه الشخصيات وأمثالها إنما هي للأسف أحد مخلفات الإسلاموفوبيا التي لا تزال راسخة لدى بعض الأحزاب العلمانية، ويتجلى هذا الشعور على هذا النحو من وقت لآخر.
أعرب صديق آخر ليتكين على القناة نفسها يدعى ميردان يانارداغ -أحد الموالين لحزب الشعب الجمهوري- عن انزعاجه من أصوات التكبير عند كل عملية إنقاذ شخص ما من تحت الأنقاض. هذا الانزعاج من سماع حقيقة أن الله تعالى بيده الحياة والموت، وأننا ما زلنا نتنفس حتى هذا اليوم بمشيئة منه سبحانه، مثال آخر للاستياء تجاه الإسلام في مجتمع إسلامي.
إذا سألتهم قالوا ليس هناك حرية تعبير، كأنهم لو تكلموا نطقوا بالدرر، ويزعمون أن الدولة تقيدهم. لكننا نراهم إذا تكلموا ألحقوا العار بأنفسهم ومن مصلحتهم بالأساس ألا يتكلموا، مع أنه لا يوجد لدينا ما يمنعهم من التعبير.
في هذا السياق، إن النهج الأقوى والأكثر فاعلية للسلطة لا يكمن في إسكات الخصوم وإنما في حثهم على الحديث أكثر. وأي سلطة قد تستاء من كلام أولئك الذين يحطون من قيمة أنفسهم كلما تفوهوا بكلمة، ومن المضحكات المبكيات في هذا الموضوع أن هؤلاء الأشخاص عندما لا يجدون ردا من السلطة على تصريحاتهم يصابون بالجنون ويصدحون قائلين: "لا نستطيع التحدث". إن ما يفعلونه لا ينبع من رغبة في السلطة وإنما رغبة في الإيذاء، في وقت تمر فيه أمتهم بهذا الحدث الشديد الأليم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق