رغم ذلك، ظلَّ المغول يتحرَّشون بالمماليك، وعملوا بكل قوتهم على القضاء عليهم وإنهاء دولتهم. وقد دام الصراع المملوكي-المغولي لأكثر من نصف قرن دارت فيه معظم المعارك ببلاد الشام، وسقط أثناءها من المسلمين الشوام الآلاف حتى مجيء السلطان الناصر "محمد بن السلطان المنصور قلاوون" في ولايته الثانية. ويلفت النظر في هذا العصر دور العلامة "تقي الدين بن تيمية" أثناء المواجهات على المستوى الفكري وأيضا على المستوى العسكري والتعبوي. فقد حار الناس بين المغول والمماليك، ظنًّا منهم أن إسلام المغول نقي لا غبش فيه، فاضطلع ابن تيمية بدور حاسم في ترجيح كفة المماليك. فلماذا إذن استمر الصراع المملوكي-المغولي لأكثر من نصف قرن؟ وكيف أدَّت المواجهات بين الفريقين إلى معركة شقحب؟
المغول يحتلون الشام
لطالما رأى المغول أن السلطنة المملوكية في مصر والشام والحجاز تُمثِّل خطرا جديا على بقائهم؛ ذلك أن المماليك عملوا على دعم العباسيين لاسترداد ملكهم وعاصمتهم بغداد منذ عهد السلطان الظاهر "بيبرس". وظل هذا الهاجسُ حقيقيا يُصرَّح به أحيانا في المراسلات الندية بين الفريقين، ولذا لم يغب عن خان المغول "محمود غازان" هذا التحدي الخطير. وكانت خطة "غازان" الهجوم على بلاد الشام سنة 697هـ، ولتنفيذ خطته أرسل إلى الأناضول جيشا مغوليا قُدِّر بعشرة آلاف فارس مع خمسة وعشرين ألف مقاتل. وانطوت الخطة المغولية المعتادة على مهاجمة المماليك من الشمال الرومي (الأناضول) الخاضع لهم، ومن الشرق بعد عبور الفرات، لكن قائد المغول "سلامش" خرج عن طاعة "غازان" وأراد الاستقلال بالأناضول، وساعده في ذلك التركمان من أهل المنطقة فضلا عن المماليك([1]).
ولهذا السبب اضطر "غازان" إلى إرسال جيش لقتال "سلامش" فأنزل الهزيمة به، ومن ثمَّ هرب "سلامش" ولجأ إلى دولة المماليك التي أعانته بفرقة عسكرية حاول من خلالها استعادة أسرته، لكن قوات "غازان" حاصرته في مضايق بلاد الروم/الأناضول فقُتِل هناك. ولم تتوقف مساعدة المماليك لكبار القادة المغول المنشقين، إذ أرسل "نيروز"، القائد العسكري لـ"غازان"، رسالة إلى سلطان المماليك آنذاك المنصور "سيف الدين لاشين" (لاجين) يطلب منه إرسال فرقة عسكرية تحميه أثناء هروبه من بلاد المغول إلى دولة المماليك في الشرق، لكن الرسائل وقعت في يد "غازان" فأمر بقتله على الفور([2]).
منحت هذه الحادثة مبرِّرات كافية لـ"غازان" من أجل التحرُّك وقتال المماليك، فبدأ التجهيز لحملة عسكرية ضخمة ضمَّت بجانب المغول فرقا عسكرية من البلدان الخاضعة للسيادة المغولية، مثل الأرمن والكُرج في شمال إيران (كُرجستان أو جورجيا اليوم)، بالإضافة إلى الأمراء والجنود المماليك المنشقين الذين لجأوا إليه وقُدِّر عددهم بخمسمئة أمير تقريبا. وأخيرا، وبعد أشهر من التجهيزات والاستعدادات، عبرت القوات المغولية الضخمة القادمة من العراق وإيران نهرَ الفرات، ولما رأت القوات المملوكية في حلب ألَّا قدرة لها على المواجهة انسحبت، ومن ثمَّ تقدَّمت القوات المغولية حتى دخلت حماة ومنها اتجهت نحو وادي الخازندار، وبالتحديد منطقة مجمع المروج شرقي حِمْص، حيث التقت طلائع الجيش المملوكي في سنة 699هـ/1299م([3]).
على الجانب الآخر، أمر سلطان المماليك الناصر محمد كبار الأمراء بالتجهُّز والخروج لملاقاة العدو، وقد خرجوا بالفعل من القاهرة مرورا بفلسطين حتى وصلوا دمشق، ثم تابعوا تقدُّمهم إلى الشمال حتى عسكروا قرب حِمْص، وبدأوا في إرسال القوات الاستطلاعية (الكشَّافة) لمعرفة أخبار وأعداد وعتاد المغول. وفي منطقة وادي الخازندار شرقي حِمْص التقى الجيشان المملوكي والمغولي وجها لوجه، وبسبب قوة وكثرة ومهارة الجيش المغولي هربت الميمنة والميسرة المملوكية، وثبتت الفرقة العسكرية في القلب، لكن المغول أحاطوا بهم، "وتأخر السلطانُ إلى جهة حِمْص حتى أدركه الليل، فولَّت العساكر الإسلامية تبتدر الطريق، وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصر المحروسة، وتبعهم التتر"، كما يذكر المؤرخ "أبو الفدا" في "المختصر في أخبار البشر"([4]).
تمكَّن المغول إذن من الاستيلاء على حِمْص بعد هزيمة المماليك، ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم من القرى والضياع، وارتكبوا المذابح، واتجهوا جنوبا فاستولوا على بعلبك والبقاع، ثم إلى دمشق بغية الاستيلاء عليها، ولذا هرب من دمشق الآلاف باتجاه مصر وغيرها، ولم يبقَ في المدينة التي امتلأت باللصوص والنهَّابة إلا شرذمة من أهلها اتفقوا على إرسال وفد من العلماء إلى "غازان" على رأسه قاضي القضاة "بدر الدين محمد بن جماعة" والشيخ "تقي الدين أحمد بن تيمية" طالبين منه الأمان.
كان من جملة ذلك الوفد شيخ من صلحاء دمشق اسمه "عمر بن أبي بكر البالسي" الذي ذكر قوة وشجاعة "ابن تيمية" في مواجهة "غازان" قائلا: "قال (ابن تيمية) لترجمانه: "قل لقازان أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذنون، وقاضٍ، وإمام، وشيخ، على ما بلغنا، فغزوتنا، ودخلتَ بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدَّك هولاكو كانا كافرَيْن، وما غزوا بلاد الإسلام، بل عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت". قال (ابن تيمية) الحقَّ، ولم يخش إلا الله عز وجل.. وقُرِّب إلى الجماعة طعام فأكلوا منه إلا ابن تيمية، فقيل له "ألا تأكل؟"، فقال: "كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟"، ثم إن قازان طلب منه الدعاء، فقال في دعائه: "اللهم إن كان عبدك هذا محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا، وليكون الدين كله لك فانصره، وأيِّده، وملِّكه البلاد والعباد، وإن كان إنما قام رياء وسمعة، وطلبا للدنيا، ولتكون كلمته هي العليا، وليذل الإسلام وأهله، فاخذله، وزلزله، ودمِّره، واقطع دابره"، فجعلنا نجمع ثيابنا خوفا من أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله".([5])
لم يلتزم "غازان" بالأمان الذي أعطاه للعلماء، حيث جاءت عساكره إلى دمشق فنهبوها، وظلوا يحتلون الشام طيلة أربعة أشهر، ولما سمعوا بتجهُّز القوات المملوكية في مصر من جديد لمهاجمتهم واستعادة الشام، اضطروا إلى الانسحاب عائدين إلى دولتهم في العراق، وتركوا حامية مغولية على دمشق بقيادة الأمير المملوكي المنشق "قبجق"، الذي طرد المغول وأعلن ولاءه مرة أخرى للمماليك، ومن ثمَّ عاد الشام إلى الحكم المملوكي مجددا بعد أكثر من مئة يوم قاسية، ارتفعت فيها الأسعار، وسخط الناس على تدني مستوى الأمن، وتسلَّط المغول([6]).
الطريق إلى شقحب
رغم خروج المغول من الشام بعد هذا الدرس القاسي الذي أنزله بالمماليك، فإن "غازان" استعد للهجوم مُجددا في العام التالي (700هـ)، لكن سوء الأحوال الجوية وهطول المطر والثلج أعاقه عن استمرار التحرُّك، فرجع إلى بلاده بعد أن نهبت قواته أنطاكية وبعض المناطق القريبة منها. وبعد بضعة أشهر في رمضان من العام نفسه، علم "غازان" أن المماليك يستعدون استعدادا حثيثا للأخذ بثأرهم، فأرسل وفدا على رأسه قاضي الموصل "كمال الدين موسى بن يونس" إلى دمشق، ومنها أُرسل ثلاثة منهم إلى القاهرة فوصلوا في نهاية العام. وقد قرأ الناصر وكبار الأمراء رسالة "غازان" التي كشف فيها عن أسباب هجومه على الشام، وعزاها إلى هجوم المماليك على أطراف دولته، واتهم حكام مصر بالظلم والخروج على مقتضيات الدين، وأظهر نفسه حاميا لحمى الإسلام، وهدَّد المماليك بعدم إقحام أنفسهم في مواجهة لا طاقة لهم بها([7]).
من جهته أرسل الناصر رسالة إلى "غازان" أورد فيها أسبقية المماليك في اعتناق الإسلام والذبِّ عنه من المغول، ورفض التنازل عن مكانتهم في العالم الإسلامي، وكشف كذلك أن المغول هم الذين بدأوا بالغدر والشر، وأنه تعامل معه معاملة النِدّ بالنِدّ([8]). ولم تأتِ هذه المراسلات بثمارها المرجُوَّة، فاستؤنفت الحرب من جديد بعد عام واحد وتحرَّك المغول بجيوشهم الجرارة التي بلغت 130 ألف مقاتل بقيادة "قطلوشاه" حتى عبروا نهر الفرات، واتجهوا صوب حماة فاستولوا عليها، ومنها انطلقت فرقة عسكرية مغولية باتجاه "القريتين"، وهي منطقة قرب حِمْص، وفيها تمكَّن المماليك من الانتصار على الفرقة المغولية وأبادوها، وهي معركة مهَّدت للمعركة الفاصلة في شقحب.
كان هذا الانتصار مهما لرفع الروح المعنوية للمماليك، لكن المغول قرروا الاستيلاء على حماة، ومنها انطلقوا إلى دمشق، حيث لم يكن السلطان الناصر "محمد بن قلاوون" قد وصل بالجيش المصري إلى الشام بعد، وكان العبء كله على عاتق الجيش المملوكي الشامي، مما اضطر أهل الشام للهرب. بيد أن الجيش المصري بقيادة الناصر التقى بالجيش الشامي أخيرا في منطقة مرج الصفر، وبالتحديد في قرية تُسمى شَقْحَب جنوب دمشق (تتبع محافظة ريف دمشق اليوم)، وانتظر لقاء الجيش المغولي([9]).
قُبيل اللقاء شرع السلطان والخليفة العباسي "أبو الربيع سُليمان المستكفي بالله" في شحذ الهِمَم، وترتيب الجيش، وكان للفقهاء والعلماء وعلى رأسهم العلامة ابن تيمية دور محوري في رفع الروح المعنوية، فقد بشَّر الناس وثبَّتهم وهُم على خط القتال قائلا: "إنكم لمنصورون، والله إنكم لمنصورون!"، ولم يكتفِ ابن تيمية بذلك، بل سار إلى السلطان الناصر "محمد بن قلاوون" يدعوه للقتال ويثبت قلبه، وكان السلطان الناصر قد أصابه وهن شديد عن لقاء التتار، فشدَّ ابن تيمية من أزره وجلس يُذكِّره بفضل الجهاد ووجوب حماية بلاد الإسلام، ثم دخل شهر رمضان يوم الجمعة، وتضرَّع الناس في صلاة التراويح أن ينصر جيش المسلمين، وجلسوا يرتقبون الأخبار. وقد وقفت العساكر الشامية قريبا من قرية تُسمى الكسوة في ريف دمشق، فجاء قادة الجيش وطلبوا من ابن تيمية أن يسير إلى السلطان يستحثُّه على السير إلى دمشق، فسار إليه وحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، وسأله السلطان أن يقف في معركة القتال، فقال له ابن تيمية: "السُّنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم"([10]).
انسحاق المغول على غباغب
كان المؤلف الموسوعي والمؤرخ "شهاب الدين النويري المصري" من المشاركين في المعركة، وقد ذكر في موسوعته "نهاية الأرب في فنون الأدب" أسماء ثمانية عشر أميرا مملوكيا كبيرا قاد كل واحد منهم مئة فارس وألف جندي. وكان النويري في ميسرة الجيش المملوكي، ووصف لنا بالتفصيل مشهد الإعداد والالتحام، وهزيمة ميمنة الجيش المملوكي في بادئ الأمر ثم تقوية السلطان لها بعساكر وأمراء من القلب. أما الميسرة فاستطاعت أن تهزم ميمنة الجيش المغولي الذي قدَّره النويري بعشرين ألف مقاتل، فولَّت منهزمة. ثم فَصَل نزول الليل بين الفريقين، ولجأ المغول إلى جبل في المنطقة اسمه "غباغب"، فأحاط بهم المماليك وحاصروهم، واستمر الحصار حتى اليوم التالي الأحد 3 رمضان 702هـ/إبريل/نيسان 1303م([11]).
بعد ذلك، فتح المماليك ثغرة في الدائرة التي أحكموها على المغول، بُغية الاستفراد بالفرق العسكرية المغولية المنسحبة، ونجحت خطتهم في التفريق بين جموع المنسحبين، ما سهُل معه قتلهم والإيقاع بهم كما وصف "النويري": "فلما فرُّوا حملت العساكر عليهم وأبادوهم قتلا وأسرا، وتبعتهم العساكر بقيَّة النهار إلى الليل. ولما كان في يوم الاثنين رابع شهر رمضان جرَّد (أمر) السلطانُ الأميرَ سيف الدين سلَّار، والأمير عز الدين أيبك الخازندار، وغيرهم من العساكر يقفون آثارهم"([12]).
وقد ذكر الأمير والمؤرخ المملوكي "بيبرس الدوادار"، الذي شهد المعركة أيضا، أن عدد القوات المغولية التي كانت محاصرة في جبل "غباغب" بلغت 80 ألف جندي مقسَّمة على ثلاث فرق، وأنها أُنهِكَت بسبب الحصار وقلة الأقوات والمياه، مما سهَّل على المماليك الفتك بهم([13]). وعلَّق المؤرخ المعروف "صلاح الدين الصفدي" على حال المغول البائسة بعد هزيمتهم في تلك المعركة بقوله: "والذي أعتقده أنه من حين ظهر جنكيزخان، ما جرى للمغول بعد واقعة عين جالوت ولا إلى يومنا مثل واقعة شقحب، كادت تأتي على نوعهم فناء، فإن الموت أهلَّ بهم ورحب، وما نجا منهم إلا من حصَّنه الأجل، أو اختار الأسر لِما وَجَد من الوَجَل"([14]).
في نهاية المطاف، هرب قائد المغول "قطلوشاه" مع نفر قليل من أنصاره باتجاه الفرات، فغرق بعضهم ومات البعض الآخر في صحراء العراق. وكان انتصار المماليك على المغول بشرى عارمة في العالم الإسلامي، لا سيما في دمشق والقاهرة اللتين استقبلتا السلطان الناصر والجيش المملوكي و1600 أسير من المغول استقبالا حافلا، علت فيه الزينة والأضواء، ودُقَّت فيه البشائر والأفراح، ونظَم فيه الشعراء أشعارهم وأهازيجهم[15]. وهكذا كانت معركة "شقحب" الفصل العسكري الأخير في إنهاء أسطورة المغول العسكرية في المنطقة، فلم تمر على ذكراها سوى ثلاثين عاما فقط حتى سقطت دولة المغول الإيلخانيين في العراق وإيران، وقامت على أشلائها دول تركمانية ومغولية أخرى انشغلت بصراعاتها وخلافاتها الداخلية، ومن ثمَّ تمكَّن المماليك بعد أكثر من نصف قرن من المقاومة من القضاء على أسطورة المغول، بلا رجعة.
—–
المصادر:
(1) النويري: نهاية الأرب 31/372، 373.
(2) النويري: نهاية الأرب 27/410.
(3) المنصوري: التحفة الملوكية ص156.
(4) أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 4/43.
(5) ابن كثير: البداية والنهاية 18/182، 183.
(6) السابق.
(7) المقريزي: السلوك 2/340، 341.
(8) طقوش: تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام ص245، 246.
(9) الدواداري: كنز الدرر 9/83 – 85.
(10) ابن كثير: البداية والنهاية 18/27.
(11) النويري: نهاية الأرب 32/30- 32.
(12) النويري: نهاية الأرب 32/32، 33.
(13) المنصوري: زبدة الفكرة ص377.
(14) الصفدي: أعيان العصر وأعوان النصر 4/6.
(15) ابن حبيب: تذكرة النبيه 1/246، 247.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق