الحرب الروسية الأوكرانية تكشف أزمة التسليح العربي
عدم مجاراة التطورات في مجال التسليح سيتسبب في كوارث عند أول مواجهة، ولن يجدي الندم طالما غاب الاستعداد الحقيقي في عالم لا يعرف الرحمة، حيث تتقاتل الدول الكبرى في لعبة الصراع على قمة النظام الدولي، ولا اعتبار للدول الضعيفة التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها، فلا مكان للنيات الحسنة، ولا احترام للوعود والاتفاقيات، ولا قيمة للتصريحات الكاذبة عن الأدوار المحورية والأهمية الاستراتيجية والعلاقات المتوازنة؛ فالعالم اليوم لا يحترم غير الأقوياء الذين استعدوا بشكل جيد للدفاع عن أنفسهم.
من أهم الرسائل التي تكشفها الحرب في أوكرانيا أن اتفاقية منع الانتشار النووي التي وقّع عليها معظم دول العالم إنما هي لصالح حفنة صغيرة من الدول، التي سبقت وحازت الأسلحة النووية، وتمنع أي دولة أخرى من الانضمام إلى النادي النووي، وتتحكم دول لا يزيد عددها على أصابع اليد الواحدة من ضمنها “إسرائيل” في بقية العالم، وتمنع استخدام التقنية النووية حتى في البرامج المدنية السلمية، وقد أثبت الغزو الروسي لأوكرانيا عدم مصداقية الضمانات الأمنية المقدَّمة من الدول النووية لبقية الدول التي لا تمتلك أو تنازلت عن حيازة الأسلحة النووية.
أوكرانيا درس لمن تخلى عن سلاحه النووي
لقد تم الضغط على أوكرانيا للتخلص من أسلحتها النووية التي ورثتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكان بها ثالث مخزون للأسلحة النووية في العالم، وتم تقديم ضمانات دولية باحترام حدودها وسلامة أراضيها، وعدم العدوان عليها أو استخدام الأسلحة النووية ضدها، وأمام الضغوط والإغراءات وافقت أوكرانيا في مؤتمر منظمة الأمن والتعاون في أوربا الذي عُقد في بودابست عاصمة المجر في 5 ديسمبر/كانون الأول 1994، وقبلت التخلي عن أسلحتها في ما يُعرف بمذكرة بودابست، ووقّعت على الوثيقة الدول الضامنة الثلاث وهي روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا، وأعطت الصين وفرنسا تأكيدات فردية خارج الوثيقة.
وقامت روسيا ومعها أمريكا وبريطانيا بتجريد بيلاروسيا وكازاخستان من أسلحتهما النووية باتفاقيتين مماثلتين، وتم تفكيك الصواريخ والرؤوس النووية وشحنها إلى موسكو، وكانت هذه الاتفاقيات من الأسباب التي دفعت المزيد من الدول إلى التوقيع على اتفاقية منع الانتشار النووي، حتى في العالم العربي حيث وافقت مصر والدول العربية على التوقيع رغم الاحتجاج على البرنامج النووي الإسرائيلي وامتلاك الكيان الصهيوني أكثر من 200 رأس نووي.
ما حدث مع أوكرانيا رسالة واضحة لكل الدول التي تعيش تحديات وأطماعا من خصوم يملكون السلاح النووي، فالدرس أن من لا يملك القنبلة النووية عليه أن ينتظر الهزيمة من الجار المسلح نوويا في أي صدام، ولا قيمة لأي اتفاقيات دولية أو ضمانات أمنية، ولهذا فإن كلا من كوريا الشمالية التي لديها ترسانة من القنابل والصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، وإيران التي طورت سلاحها الصاروخي ولديها برنامج نووي غير مكتمل، وجدتا أن مصلحتهما الاستراتيجية في امتلاك السلاح النووي، وليس تفكيكه أو تسليمه.
يبدو أن الدول العربية لم تستوعب الدرس، وتُكرر ما فعلته من قبل مع السلاح النووي الإسرائيلي بالهروب من خوض التحدي، وترديد مقولات للاستهلاك الداخلي مثل “إخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي” يقصدون الكيان الصهيوني، واليوم يتم ترديد المقولة نفسها ضد إيران، وهي مقولة لا تعني غير القبول بإبعادهم عن حيازة التقنية النووية حتى في الأغراض المدنية السلمية.
“الدرونز” سلاح المستقبل
كشف عام من الحرب في أوكرانيا أن الأسلحة الروسية لم تستطع حسم المعركة كما كان يريد بوتين، بل تعثّر الجيش الروسي عن احتلال كييف، واضطر إلى التوقف عن التقدم، وبدأ يخسر ما احتله من أراضٍ في الاندفاعة الأولى (خاركيف وخيرسون والفشل في احتلال باخموت)، وخسر الروس الكثير من المعدات وعددا كبيرا من الجنود (يقول الجيش الأوكراني إن عدد القتلى الروس يقترب من 150 ألفا، ولا يفصح الروس عن عدد القتلى الأوكرانيين) بسبب التفوق الأوكراني في استخدام الطائرات المسيّرة التي استطاعت قصف قواعد الطائرات الاستراتيجية داخل الأراضي الروسية.
يمتلك الروس الدبابات والطائرات والمدفعية والصواريخ بأنواعها لكن نقطة ضعفهم كانت في الطائرات المسيّرة، مما اضطرها إلى اللجوء لإيران وشراء مئات المسيّرات الإيرانية لضرب البنية الأساسية في المدن الأوكرانية، وهي مبادرة أساءت كثيرا إلى سمعة القوة العسكرية لروسيا، ثاني أكبر مصدر للسلاح في العالم وتعتمد عليها جيوش كثيرة في آسيا وأفريقيا.
التطور في تكنولوجيا الطائرات المسيّرة هو التغير الأكثر أهمية في المعركة الدائرة في أوكرانيا، فهذه الأسلحة الصغيرة والأقل كلفة أكثر فاعلية من الطائرات المقاتلة التي تم تحييدها بنسبة كبيرة، ولم يعد لها دور مؤثر في الحسم كما كان في السابق بسبب تطور منظومات الدفاع الجوي، وهذا التغير الجديد ترتب عليه انكشاف القوات البرية والمعدات الثقيلة على الأرض، وحتى أسلحة المدفعية والصواريخ المتطورة تقل فاعليتها إذا كانت عمياء لا تخدمها أسراب “الدرونز” وما تفعله من استطلاع قبل المهام وفي أثنائها وبعدها، والبث المباشر والتوثيق كما نرى الآن.
التأخير يفضي إلى كوارث
لكي نعي حجم التطورات في طبيعة التسليح، نأخذ ما حدث في كوريا الجنوبية نموذجا، سيتكرر في الكثير من الدول التي لا تجاري التطور في مجال التسليح، فمع أنها كانت في قائمة أكبر 10 دول مصدرة للسلاح في 2020، ورغم تقدمها الرائد في تصنيع الرقائق الإلكترونية والهواتف المحمولة والأجهزة الذكية وتكنولوجيا الجيل الخامس؛ فإنها وقفت عاجزة عندما أرسلت كوريا الشمالية 5 طائرات مسيّرة إلى سماء العاصمة سيول في ديسمبر 2022، وظل الكوريون الجنوبيون في حالة من الذهول وهم يشاهدون المسيّرات تطير فوق رؤوسهم وعجز المقاتلات والمروحيات الهجومية لمدة 5 ساعات عن إسقاطها حتى غادرت، مما أحدث حالة من الغضب دفعت الرئيس الكوري الجنوبي إلى توبيخ وزير الدفاع علانية على هذا الفشل المهين.
في العالم العربي، تشير تقارير تجارة السلاح العالمية إلى أن منطقة الشرق الأوسط تشتري ثلث صادرات السلاح في العالم، وإذا أخذنا المملكة السعودية مثالا، فهي أكبر مستورد للسلاح (اشترت 12% من إجمالي الصادرات العالمية خلال الفترة من 2015 إلى 2019)، وهي من الدول العشر الأعلى إنفاقا عسكريا بالنسبة لإجمالي الدخل القومي (6.6% في عام 2021 وفقا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام)، وأكبر مستورد للسلاح الأمريكي الذي لم يوفر لها التفوق ولا الأمن في المعركة ضد الحوثيين في اليمن، ورغم أن المملكة اشترت أسلحة تصل إلى نصف تريليون دولار خلال العقدين الأخيرين، فإن الطائرات المسيّرة التي أعطتها إيران للحوثي وتكلفتها زهيدة تخطت كل الدفاعات وقصفت الرياض وحقول النفط!
التعاون العربي مع تركيا أصبح ضرورة
هذا التطور في تكنولوجيا الدرونز يقتضي تغييرا في طبيعة التسليح وتعديل الميزانيات المرصودة لشراء الأسلحة، فالمليارات تُنفق في شراء معدات معظمها لم تعد فعالة، ولا تحقق الأمن في الصراعات الدائرة، وتتعمد الدول المصدرة مثل الولايات المتحدة والدول الأوربية منع بيع الأسلحة المتطورة وذات التكنولوجيا المتقدمة لتظل “إسرائيل” متفوقة على كل الدول العربية مجتمعة، إذَن فما قيمة الدبابات والمدرعات والسماء مكشوفة؟ وما قيمة الطائرات المقاتلة في مواجهة خصوم يملكون منظومات تسقطها بمجرد ارتفاعها عن الأرض؟ وما جدوى المدمرات والسفن الحربية وهي غير محمية من القصف القريب والبعيد؟
بالتأكيد لن تقدّم أمريكا وأوربا إلى الدول العربية منجزاتها في المجال النووي، ولن يبيعوا للعرب التقنيات العالية في مجال الطائرات المسيّرة ومنظومات الدفاع الجوي وغيرها من الصواريخ والمدافع الذكية، لكن حالة التفكك العالمي واتساع التمرد على الهيمنة الغربية يفتح الباب أمام من يريد التحرر والاستقلال، وبناء برامجه الدفاعية، والاعتماد على التصنيع المحلي لأسلحته واحتياجاته، كما فعلت تركيا.
الخروج من حالة التبعية في مجال التسليح ليس سهلا كما أنه ليس صعبا، ولكن يحتاج إلى التفكير بشكل مختلف، والابتعاد عن الفردية، والتحرك بشكل جماعي، والخطوة الأولى هي تحرك الدول الراغبة في التحرر حتى لو كان عددها قليلا، وتعجيل الاستفادة من الخبرة التركية التي تُعَد الآن في مقدمة الدول التي قطعت شوطا مذهلا في تصنيع أسلحة المستقبل الذكية، وهي ترحب بالتقارب مع العرب وليس لها شروط كما يفعل الآخرون، ومن مصلحة الدول العربية استغلال الفرصة التاريخية لكسر قيود التبعية، حيث تنشغل الدول الكبرى بمعارك الزعامة وحروب الاستنزاف وتكسير العظام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق