ما الذي يجمع النوستالچيا مع الجغرافيا؟!
في أبسط تعريف لها تتضمن النوستالچيا «حنينا إلى الماضي»، بشرط أن يكون ذلك الماضي محملا بالذكريات السعيدة أو التي نتوهم أنها سعيدة. ويرى البعض أن النوستالچيا لا تخلو من لمسة من التحسر والأسى على ما فات.
أما الجغرافيا فعلم تعيس الحظ في بلادنا، بل هو عند البعض «تخصص سيء السمعة» تسببت المناهج المدرسية في جعله قرينا بحفظ العواصم والأرقام، وقصرت أهميته في استذكار أين يزرع القمح والشعير والشوفان وأين يتوزع الفوسفات والحديد والنفط والغاز.
والحقيقة أن الجغرافيا علم الحياة، علم لا تذاكره بقدر ما تمارسه.
انظر إلى نفسك الآن تجدك مهموما بالجغرافيا في أي «موقع» تجلس فيه لتقرأ هذه السطور، من فراش نومك إلى طائرة تستعد للإقلاع في الفضاء الجوي.
بل إن وسائل التواصل في هذا العالم الافتراضي هي مقلوب الجغرافيا التقليدية، أو هي جغرافيا جديدة..
افتراضية تخيلية تحاكي الواقع بل وتتفوق عليه، تجمعنا معا وكأننا في «موقع واحد» رغم ما يفصل بيننا من آلاف الآميال.
يولد المرء موهوبا بالجغرافيا بطبعه، الطفل الذي يحبو يكتشف أولا جغرافية الغرفة ثم البيت،
والزعيم الذي يبحث لوطنه عن مكان تحت الشمس لابد أن يكون خبيرا بجغرافية بلاده،
على دراية بأهمية كل حبة رمل فيها، مدركا لخصوصية التميز والتنوع والتفرد في شعوبها وقبائلها وقراها وعزبها وكفورها.
والجغرافيا علم الحرب كما هي علم السلام، لا يمكنك أن تنتصر في حرب إلا بالجغرافيا،
ولا يمكنك أن تحسن إدارة السلام من دون جغرافيا.
وهذا العلم في أبسط تعريف له هو «علم المكان» و«علم العلاقات بين الأمكنة» و«علم التوزيعات المكانية» و«علم التفاعلات والترابطات بين الأمكنة»
وهو فوق ذلك «علم الأقاليم» بمعنى «علم التفرد الإقليمي» بحثا عما به من خصوصية الثروة والتفوق أو حتى اكتشاف جوانب القصور من اعتمادية واتكال هذا الإقليم على أقاليم أخرى.
وحين تضم الدولة بعض الأقاليم الغنية وأخرى فقيرة تبرز هنا واحدة من صفات علم الجغرافيا باعتباره علم «التكامل الإقليمي».
ما علاقة ذلك بالصورة المرفقة؟
الذين يعمرون طويلا تتجمع لديهم طبقات متراكبة من المعارف المكانية، وتمتزج في أخيلتهم علاقات عاطفية مع هذه الأماكن.
والصورة التي معنا دليل على هذا الارتباط العاطفي أو ما يمكن أن نسميه «الحنين إلى الماضي».
تعود الصورة إلى عام 1963 أي قبل 60 سنة بالتمام والكمال من نفس الموقع الذي أخذت منه صورة المقال السابق عن ساحل الإسكندرية.
وحين نشرت مقالي تفضل أحد السادة المعلقين بوضع هذه الصورة في تعليقه على المقال الذي كنت قد تحدثت فيه عن التوازن البيئي والنحت والإرساب.
ما الذي يجمع النوستالچيا مع الجغرافيا؟!
وقد قمت بالبحث عن أصل هذه الصورة عبر خدمة اكتشاف الصور في محرك جوجل
فأحالني إلى صفحة على الفيسبوك تحمل اسم «الإسكندرية عام 1900»
والذي نشر هذه الصورة قبل ثلاثة أعوام وتفضل عدد من أهل الإسكندرية بالتعليق على الصورة،
بينما الحنين للماضي يكاد يستبد بهم.
من بين ما قاله المعلقون على هذه الصورة قبل ثلاث سنوات شرح تفصيلي للخطوط المتوازية لشاطئ سيدي بشر
والذي كان يتألف من البحر نحو اليابس من خطوط متوازية من السباحة إلى الاستجمام إلى الكبائن
ثم إلى تناول المشروبات والمأكولات في كازينو «البسفور»،
الذي تم هدمه ولم يتبق من البسفور اليوم سوى تلك القوائم الحديدة الغارقة التي أوضحتها في مقالي السابق على هذه الصفحة،
كما أن توسعة الكورنيش التهمت الشاطئ وأكمل النحت البحري على ما تبقى منه.
وبما أن عمر هذه الصورة يعود إلى 60 سنة مضت فلابد أن الذين يشعرون تجاهها بالحنين أو النوستالچيا هم أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة.
والحقيقة أن نوستالچيا الأماكن ليست حكرا على كبار السن والمعمرين،
بل يمكن أن ينتقل تأثيرها إلى الجيل الأحدث عمرا عبر التعليم والتنبيه والتربية وتنمية الحس الجمالي مقارنة بالتدهور البيئي الحالي.
وفي بعض الدول المتقدمة التي تعتي بالبيئة هناك برامج تسع إلى «استرداد» البيئات التي تدهورت،
إذ تقوم بعض الدول بإعادة تأهيل السواحل بناء على ما كانت عليه في الماضي
وتتخذ من مثل هذه الصور الأرشيفية دليلا على إمكانية استعادة الوضع البيئي السابق.
بل إن هناك مدارس جغرافية أوروبية لا تستعين فقط بالصور الفوتوغرافية
بل باللوحات الفنية التي أبدعها رسامون نقلوا بريشتهم جماليات المكان قبل أكثر من قرن أو يزيد من الزمن.
الجغرافيا علم ثنائي الهوية،
يمسك في يد بالأرقام والإحصاءات والحقائق والمعلومات الصلبة،
وبتماس بيده الأخرى مع الموصلات الروحية المؤدية إلى الفنون والآداب والأفكار الفلسفية والإنسانوية والاجتماعية والتاريخية.
وهو في كل الأحوال -وكما سيثبت المستقبل في بلادنا طال الزمن أو قصر- ليس علما للخواص بل علم الجميع..علم المواطن العام!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق