صناعة التّأثير لمواجهة إفساد الشّذوذ المُنظَّم والتّفاهة المتغوّلة
من المُسلّم به أنّ محض الصّلاح غير قادرٍ على مواجهة الإفساد، بل لا بدّ من مدافعة الإفساد المتدحرج بالإصلاح المتعدّي، ولا ينتصرُ على الإفساد المنظّم إلّا إصلاحٌ منظّم، فالإصلاح العشوائيّ في ظل هذا الإفساد المنظّم يغدو محض جهدٍ عبثيّ.
اعتماد الإفساد المعاصر على الشّذوذ والتّفاهة المنظّمة
إنّ الإفساد المعاصر يعتمدُ على صناعة الشّذوذ بمعناه الواسع في الفكر والسلوك، وترسيخ نظام التّفاهة من خلال التأثير الواسع في جيل الشّباب.
ولقد كان التّأثير يعتمدُ في مراحل مختلفة من تاريخ البشريّة على المحتوى التّافه، لكن بطريقة غير منظمة، ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن قتيبة في “تأويل مختلف الحديث” إذ قال: “إنّ القصّاص على قديم الزمان كانوا يُمِيلون وجوه العوام إليهم، ويستدرّون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الحديث. ومن شأن العوام القعود عند القاصّ، ما كان حديثه عجيبًا، خارجًا عن فطر العقول أو كان رقيقًا يحزن القلوب ويستغزر العيون”.
لكنّ هذه التفاهة غدت اليوم نظامًا مدعومًا يوصل مجتمعاتٍ شبابيّة كاملة إلى فقدان المعنى، كما يقول الفيلسوف الكندي “آلان دونو” في كتابه “نظام التّفاهة”: “التّفاهة تشجّعنا بكلّ طريقةٍ ممكنة على الإغفاء بدلًا من التّفكير، النّظر إلى ما هو غير مقبول وكأنّه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروريّ؛ إنّها تحيلنا إلى أغبياء”.
سبيل الإطاحة بتأثير التّفاهة والشّذوذ الواسع
يرى الفيلسوف الكندي أنّ الإطاحة بنظام التفاهة لا يمكن أن تتم إلا بكيفيّة جماعية أو ما يصفه بـ”القطيعة الجمعية”، وليس عبر نُشدان الخلاص الفردي، مع ما يستلزمه ذلك من طرق تفكير لإنهاء وجود المؤسسات والقواعد التي تضر بالصالح العام عبر ترسيخ التفاهة من خلال التأثير الواسع.
إنّ صناعة الشّذوذ الفكريّ بنشر الإلحاد والتشكيك في الثّوابت الدينيّة وهدم المُسلّمات الشرعيّة، والشذوذ السّلوكيّ من خلال نشر أفكار الجندر والمثليّة والتّطبيع مع الشّذوذ، والشّذوذ المجتمعيّ من خلال هدم بنيان الأسرة المسلمة عبر أفكار النسويّة الرّاديكاليّة، والشّذوذ السّياسيّ من خلال التطبيع مع الكيان الصّهيوني وفرض أمر واقع في القدس ومسرى النبيّ صلى الله عليه وسلّم وتقبّل الاستبداد السياسي؛ كلّ ذلك يتمّ عن طريق صناعة التأثير وتصدير المؤثرين في العالم الواقعي والعوالم الافتراضيّة، لينفّذ هؤلاء المؤثرون اختراقًا للعقول الشّبابيّة الجمعيّة عبر وسائل التأثير المنظّمة.
إنّ السبيل إلى مواجهة هذا التأثير الواسع للإفساد يكون بتأثير مضاد يُصنع بطريقة منهجيّة، ويتمّ العمل عليه بطريقةٍ جمعيّةٍ من شبابٍ حملوا همّ الإصلاح في حياتهم لمواجهة الإفساد، ولبناء المجتمعات القادرة على الحياة الرّاشدة في ظلّ هذا الطوفان من التفاهة المنظّمة والشّذوذ الممنهج.
نماذجُ لأهميّة صناعة التّأثير
إنّ صناعة التأثير لا تزال تكسب أهميتها منذ القِدم إلى اليوم مع اختلاف واضح في المنهجيات والأدوات.
وإذا سألنا أنفسَنا لماذا رفض نبيّ الله موسى عليه الصلاة والسلام أن يُفحِم فرعون وملأه وسحرته في قصره وأمام حاشيته فحسب؟ وأصرّ على أن يكون ذلك أمام الجمهور و”قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى”؟
إنّها الحاجة إلى صناعة التأثير في أكبر قدرٍ من الجماهير؛ فليسَ فرعون هو المقصود بالإفحام فحسب؛ بل أن تصل الرّسالة إلى المخدوعين به والخاضعين له.
وكذلك نتلمّس هذا في سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم، من خلال مواقف كثيرة، منها إعلان دعوته والجهر بها على الصّفا، وإرسال الوفود المهاجرة إلى الحبشة، ومحاولة التأثير في الأغنياء والوجهاء، وابتعاث مصعب بن عمير رضي الله عنه سفيرًا إلى المدينة قبل الهجرة وكيف استطاع التأثير في أهلها، ونصبه صلى الله عليه وسيلّم المنبر لحسّان في المسجد، واتخاذه شاعرًا له هو حسّان بن ثابت، وخطيبًا هو ثابت بن قيس، ورفضه قتل عبد الله بن أبيّ بن سلول، وإرسال الرّسائل إلى الملوك والأمراء، وغير ذلك الكثير من وسائل التأثير وصناعة الرّأي العام.
لكن دخول عالَم اليوم في الحالة الافتراضيّة ونزوح كثير من الشباب من العالم الواقعي إذ نصبوا خيامهم في الفيس بوك وإنستغرام وسناب شات وتويتر، وحصلوا على جنسية وطن جديد في التيك توك، مع هيمنة الرّأسماليّة على العالم وطغيان الماديّة وسيولة المفاهيم؛ كلّ ذلك أدخل صناعة التأثير مرحلة حادّة وجارفة.
صناعة التّأثير وهندسة الحياة
إنّ الحاجة إلى صناعة التأثير تقودنا إلى هندسة الحياة على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي، يقول الدّكتور علي الحمادي: صناعة التّأثير هي أن يكون لك دورٌ رياديّ في هذه الحياة، هي أن تكون فاعلًا في حركة الحياة وقيادة المستقبل، هي أن تكون شيئًا نافعًا في دنيا النّاس، هي أن تضيف شيئًا جديدًا إلى هذه الحياة، إذ إن مَن لم يزد هذه الحياة شيئًا فهو زائد عليها. هندسة الحياة وصناعة التأثير هما أن تكون رقمًا صعبًا لا يُستهان به، وأن لا يكون حالك كحال من ذكرهم القائل حين قال:
وَيُقضى الأمر حين تغيب تيمٌ * ولا يُستأذنون وهم شهود
هندسة الحياة وصناعة التأثير أن تكون قائدًا فذًّا تقود الآخرين وتؤثر فيهم، أن تترك بصماتك في هذا الكون، وأن تُخلِّف لك أثرًا جميلًا وذكرًا عطرًا ينفعك في الدنيا والآخرة، إذ إن لكل إنسان وجودًا وأثرًا، ووجوده لا يغني عن أثره، ولكن أثره يدل على قيمة وجوده، ورحم الله أمير الشّعراء أحمد شوقي إذ يقول:
دقّات قلب المرء قائلة له * إن الحياة دقائق وثوانِي
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها * فالذكر للإنسان عمر ثانِي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق