السعيد الخميسى
**وسط أكوام النسيان وأطلال الغفلة وركام التوهان وغرور الطغيان، تطلق سورة الأعراف إنذاراتها لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد بل للعالم كله لكي يستفيقوا من غفلتهم وتمسكهم بأحبال الدنيا المقطعة حتى لايأمن أحد مكر الله، مهما كان شأنه كبيرا أو صغيرا غنيا أو فقيرا حاكما أو محكوما. فيقول ربنا تعالى في سورة الأعراف ” أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ . أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ . أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ . أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:97-100].
قول محمد رشيد رضا في (تفسير المنار):
** ” هذه الآيات الأربع إنذارٌ لأمة الدعوة المحمدية عربها وعجمها من عصر النور الأعظم إلى يوم القيامة، لِتَعتبِر بما نزل بغيرها كما تُرشِد إليه الرابعة منها، و{أَهْلُ الْقُرَى} فيها يُراد به الجنس؛ أي: الأمم، ويحتمل أن يكون المراد به من ذكر حالهم فيما تقدّم وضع المظهر فيه موضع المضمر؛ ليدل على أن مضمونها ليس خاصًا بأقوامٍ بأعيانهم فيذكر ضميرهم، بل هو قواعد عامةً في أحوال الأمم، فيُراد بالاسم المظهر العنوان العام لها، لا آحاد ما ذكر منها، ولو ذكرها بضميرها أو اسم الإشارة الذي يعينها؛ لدل على أن العقاب كان خاصًا بها لا داخلًا في أفراد سنة عامة، وهذا عين ما كان يَصرف الأقوام الجاهلة الكافرة عن الاعتبار بعقاب من كان قبلها..
* وفي تفسير آخر يقول صاحب التفسير ” تقييد التعجب من حال أهل الكفر في أمنهم لمجيء البأس بوقتي البيات والضحى وبحالي النوم والتعب لأن الوقتين أجدر بأن يحذر حلول العذاب فيهما لأنهما وقتان للدعة والراحة. فالانسان يكره أن ينغِّص عليه وقت راحته فكيف إذا علم مسبقاً أن هذا الوقت هو مدعاة للعذاب والغضب؟ لا شك أنه سيجعله خالٍ من المعصية.”
** ومهما فسرت الزلازل والبراكين وغيرها بتفسيرات علمية بحتة فإن هذا لايعني ابدا حدوث شئ في ملك الله بغير إرادة الله. فزلزال تركيا وسوريا داهم القوم بياتا وهم نائمون، وضحى وهم يلعبون، فدكت الأرض دكا دكا وتبعثرت أشلاء الإنسان وتحطم البنيان وكان عنوان اللحظة المريرة” كل من عليها فان” فلاكبير ولا صغير ولا وزير ولا غفير ولا غنى ولا فقير ولا حاكم ولا محكوم، الكل تحت الأنقاض يصرخ ويبكي ويستغيث ويرجو الإغاثة ولكن لامغيث إلا من رحم ربك وكتب له الحياة مرة أخرى لكي يخرج من تحت اطلال الركام واكوام الحجارة وكأنه في يوم البعث والنشور وسبحان الحي الذي لايموت.
** إن في الكوارث والمصائب لعبرة لمن يخشى، إن أراد أن يخشى، وعظة لمن أراد أن يتذكر. فهناك قلوب صلبة قاسية كالحجارة أو أشد قسوة، وهناك نفوس متمردة ملتوية التواء الأفعى في يوم بارد، تفسر كل شئ “بالطبيعة” وكأن الطبيعة هي التي خلقت نفسها بل وأنشأت نفسها من العدم ونسوا ان ” الطبيعة” خلق من خلق الله وأمرها وأمر الكون كله بين الكاف والنون إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون. لا ملجأ من الله إلا إليه فسبحان من بيده ملكوت كل شئ.
** وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ سئل عن الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله. قال علماء ودعاة إن «المكر الذي وصف الله به ذاته في قوله تعالى «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين»، ليس كمكر المخلوقين، لأن مكر المخلوقين مذموم، ويعني الخداع والتضليل، وإيصال الأذى إلى من لا يستحقه، أما مكر الله فهو محمود، لأن فيه حفظ الله لعباده المؤمنين الطيبين، وإيصال العقوبة لمن يستحقها، لذلك فهو عدل ورحمة».
**إن هلاك الأمم وفناء الشعوب مهما أوتوا من أسباب القوة وعوامل الحماية، حتى أنهم ظنوا انهم قادرون عليها، مرتبط بقضاء الله وقدره ومشيئته. ففي لحظة واحدة تصبح مدن كاملة ببنيانها وسكانها وأموالها وكل مالها تحت الأنقاض. إنها لحظة قاسية تشخص فيها الأبصار وينسى الصديق أن له صديق وينسى الجار أن له جار ويحاول كل إنسان أن ينجو بنفسه، وهذا يوم من أيام الدنيا، فما بالكم بيوم القيامة؟ لا بد من العودة مرة أخرى إلى الله قبل فوات الاوان ومرور الزمان حيث لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم. إن إنذارات “الأعراف” تأتي حتما لمواجهة إنحراف بوصلة القوى العظمى في كل زمان ومكان لغرورهم بقوتهم وكأنهم يقولون:من أشد منا قوة والتصدي لإنجرافات الأمم والشعوب حتي لا يسبحوا في محيط التوهان والنسيان حين يعتقدون إنهم في مأمن من مكر الله وعذابه وبطشه. الله أسأل الأمن والأمان لنا جميعا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق