وِزْر الحرب في عنق البرهان
حدث أول انقلاب عسكري على السلطة في السودان المستقل وتشكيل حكومة عسكرية في عام 1958، ثم حدثت محاولتان عسكريتان للإطاحة بذلك الحكم العسكري، وتم إجهاضهما بدون اقتتال، ثم حدث انقلاب أبيض (غير دموي) في عام 1969 وأتى بجعفر نميري رئيسا، وفي تموز/ يوليو 1971 نجح الضباط الشيوعيون في الإطاحة بنميري، وبعدها بثلاثة أيام تحرك عسكريون موالون لنميري بدبابات تي 55 السوفييتية، ونجحوا في إجهاض الانقلاب الشيوعي، بعد معارك دامت لساعات طويلة في شوارع الخرطوم بالأسلحة الخفيفة.ثم في تموز/ يوليو 1976 اجتاحت العاصمة السودانية قوات تتبع لما كان يسمى بالجبهة الوطنية، التي شكّلها حزب الأمة والحزب الاتحادي والجبهة الإسلامية، وشهدت الخرطوم حرب شوارع ضروسا، وكانت الغلبة للجيش الموالي لنميري. وفي عام 1989 نفذت الجبهة الإسلامية انقلابا أبيض ناجحا، وظلت تحكم حتى نيسان/ أبريل 2019، وواجهت خلال ثلاثة عقود العديد من المحاولات الانقلابية وحركات التمرد.
في جميع الوقائع التي كانت الخرطوم ساحتها، لم يستخدم أي طرف الدبابات أو المدافع أو الطائرات ضد الطرف الآخر، ثم كانت الحرب الحالية التي تدور معاركها داخل مدن العاصمة السودانية المثلثة (الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان)، بين الجيش الوطني وقوات الدعم السريع، فإذا بالجيش يلجأ إلى الأسلحة الميدانية والقصف الجوي داخل المدن لاستئصال قوات الدعم السريع، التي بعد أن فقدت معسكراتها، انتشرت داخل الأحياء والمباني السكنية، متخذة من المدنيين دروعا بشرية. وفي هذا، فالطرفان يرتكبان، بموجب القانون الدولي، جرائم حرب؛ فاستهداف المدنيين وتعذيب الأسرى أو قتلهم وقصف المباني المخصصة لأغراض مدنية، كلها تقع تحت طائلة القانون.
منذ اندلاع تلك الحرب في منتصف نيسان/ أبريل المنصرم، وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، وهو رأس الدولة بحكم أنه رئيس مجلس السيادة، مختف تماما عن الأنظار، ولم يُشاهَد وهو يتفقد جنوده لحثهم على الثبات والنصر، ولم يوجه خطابا إلى الشعب يشرح فيه ما يحدث، وكيف حدث وإلامَ سينتهي، بل صار يتواصل مع وسائل الإعلام كما الصحفيين و"المراقبين" عبر الهاتف، ليرتجل كلاما حسب التساهيل. وإذا كان عذره في ذلك أن هيئة التلفزة والإذاعة الرسمية وقعت في قبضة الدعم السريع، فقد كان بمقدوره استخدام وسائل البث المملوكة للجيش ليخرج إلى الناس ويخاطبهم، كما يليق بقائد في ظروف الحرب.
وفي تقديري، فإن صمت وانزواء البرهان مرده إلى الإحساس بالخزي؛ لأنه ظل الراعي الرسمي لقوات الدعم السريع على مدى سنوات طوال، وهو الذي منح قائد تلك القوات محمد حمدان دقلو (حميدتي) رتبة فريق أول، رغم أن القانون الذي تم إنشاء قوات الدعم السريع بموجبه كرديف للجيش الوطني، ينص على أن أعلى رتبة فيها هي "فريق"، ثم جعله نائبا له في رئاسة مجلس السيادة، وغض البصر عن ترهل تلك القوات وتمددها في الخرطوم وغيرها، ولم يفتح الله عليه بكلمة وحميدتي يأتي بـ17 ألف مقاتل إلى الخرطوم قبل الحرب بأسابيع قليلة.
وبغض النظر عمن أشعل شرارة الحرب الأولى، فقد أثبتت مجريات الأمور أن حميدتي كان يعد العدة للانقضاض على الجيش والبرهان، فخلال الساعات الأولى من بدء القتال، كان الدعم السريع قد سيطر على مقرات القوات البرية والبحرية والجوية ومعهد الاستخبارات العسكرية ووزارة الداخلية والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ثم منظومة التصنيع الحربي وعدد من مراكز التحكم في خدمات الماء والكهرباء، ومصفاة البترول الرئيسية في أطراف مدينة الخرطوم بحري. وحقق الدعم السريع كل ذلك بدون قتال؛ لأن البرهان أوكل إليها على مدى السنوات الأربع الأخيرة حراسة زهاء ستين موقعا استراتيجيا داخل العاصمة السودانية، فجلب بذلك هزيمة معنوية للجيش الوطني.
غالبية الرأي العام السوداني يريد للجيش الوطني أن ينتصر على قوات الدعم السريع، لكون الأخيرة سيئة السمعة عن استحقاق، ولأنه بانهيار الجيش ستنهار الدولة السودانية المخلخلة الأوصال سلفا كليّا، ولكن مهما حشد الجيش من أسلحة ثقيلة وجنود لسحق خصمه الحالي، فلن يُكتب له نصر حاسم، فالجيش الذي ظل يخوض حروبا ضد مختلف حركات التمرد في مختلف أنحاء السودان، لم يحقق نصرا نهائيا في أي منها، ليس لعلة في أدائه، ولكن لأنها طبيعة الأشياء خلال الحروب المتحركة. فأمريكا بكل جبروتها لم تحقق نصرا في فيتنام وكمبوديا ولاوس، وبشار الأسد مسنودا بالطيران الروسي ظل يدك معاقل خصومه منذ عام 2011، وما زالت مساحات شاسعة من سوريا خارج سيطرته، وظل حزب البعث العراقي يمطر الجحيم على كردستان لسنوات طوال، وها هي كردستان اليوم تنعم بالحكم الذاتي.
ويبدو أن البرهان يدرك استحالة تحقيق نصر حاسم على قوات الدعم السريع، ولهذا فإنه يرهن التفاوض لوقف القتال نهائيا بخروج تلك القوات من العاصمة، لكن في الوقت نفسه، فإن أبواقا كثيرة في الجيش الوطني تقول؛ إن كل من يطالب بوقف الحرب خائن للوطن. وبما أن قوات الدعم السريع وبشهادة البرهان وكبار جنرالات الجيش خرجت من "رحم" القوات المسلحة، فإن من يخوّنون دعاة السلام من العسكريين كمن أتى بذئب صغير ورعاه وأحسن تغذيته، وظل يستخدمه لعض وقتل خصومه، ثم كبر الذئب و"رجع إلى أصله"، وهاجم صاحبه الذي بات يصرخ: كل من لا يقف ضد الذئب المتوحش خائن وعدو لبني الإنسان.
عن حال السودان الراهن تحت قيادة البرهان، الذي لا يبشر بالخير، يقال إن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور استجوب أحد قادة بني أمية، وسأله عن سبب سقوط دولتهم، فأجاب الرجل: سلّمنا صغار الأمور للكبار، وعظائم الأمور للصغار، وقَرَّبنا العدو طمعا في كسب صديق، وعادينا الصديق خَطْبا لود العدو، فضِعنا بين إفراط وتفريط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق