ما سر حبنا لأردوغان؟
حلمي الأسمر
زرت تركيا عدة مرات، وفي كل مرة كنت أزورها أزداد حبا لها، أنا لا أعرف شكل تلك البلاد -بشكل فعلي وشخصي- قبل أردوغان، ولكنني عرفت تلك الصورة عبر قراءاتي ومسموعاتي المباشرة من الأصدقاء والمسؤولين الأتراك. باختصار شديد، تركيا قبل أردوغان كانت تحارب هوية الشعب التركي بشكل شرس، ابتداء من منع النساء من ارتداء الحجاب، وانتهاء بالتنكر لكل ما هو مسلم، أو حتى عربي إلى حد كبير!
في إحدى أهم زياراتي، كنت جزءا من وفد عربي ضم نخبة من كتاب وصحفيي العرب، وكان منهم المرحوم جمال خاشقجي، وأتيح لنا حينها أن نلتقي نخبة الحكم في البلاد، ما دون رئيس الوزراء آنذاك أردوغان، وقد كانت تلك فرصة ذهبية للتعرف على "العقل" الذي يدير الدولة. وابتداء من ذلك التاريخ، وما قبله، كان واضحا أن الرجل يجدف عكس التيار الذي يحكم العالم، وقد اجتهدت خلال تلك الفرصة التي أتيحت لي، محاولة الوصول إلى أحد أهم أسرار التجربة التركية الفريدة.
وظل ذلك الهاجس يخيم عليّ فترة طويلة، خاصة أن سلوك الرجل ورجاله وصناع التجربة، لهم سمات معينة هي أقرب ما تكون لرجال الحركة الإسلامية المعاصرة، على الرغم من حرص الجميع على الإعلان عن عدم وجود أي علاقة بينهم وبين أي من تنظيمات ما يسمونه "الإسلام السياسي"، أو ما نسميه الحركات السياسية التي تتكئ على إحياء الهوية الإسلامية و"ترميم" صورة المسلم المعاصر، علما بأن البحث في النظرية الأردوغانية ورجالاتها توصلنا ببساطة إلى معرفة "الإناء" الذي يشرب منه هؤلاء.
وعلى مدار سنوات طويلة من متابعة هذه "النظرية" أو التجربة العملية بالأحرى، كنت أبحث عن "المرجعية" التي تحكم فعل الرجل وقراراته، هو وفريقه الحاكم، وما إذا كان له "شيخ" أو "شيوخ" أو "هيئة شرعية"، يقدمون له النصح و"الاجتهاد" المعاصر. وقد كنت في كل مرة أسأل هذا السؤال لا أجد جوابا شافيا، إلا أن الصمت أو "المراوغة" أعطاني انطباعا شديدا بأن هناك هيئة شرعية تضيء لأردوغان طريق عمله في كيفية إدارة الدولة، وسط بيئة دولية معادية لهذه المرجعية، فضلا عن وجود حراس شرسين للأتاتوركية في الداخل، وكان من هؤلاء قوى ذات شوكة في الجيش والقوات الأمنية، تمكن أردوغان بنفسه الطويل من تحييدهم، وتلك كانت علامة فارقة في تجربة الرجل، فقد كان هؤلاء حراسا أمينين على إرث أتاتورك، وكلما برز زعيم سياسي تمرد أو حاول التمرد عليها، كان مصيره السجن أو الإعدام، وما شهده الراحلان أربكان ومن قبله مندريس ليس ببعيد.
تركيا اليوم، بعد نصر الأردوغانية السابع عشر على مدار أكثر من عقدين، تبدأ عقدا جديدا، له آثاره البعيدة ليس على تركيا فقط، بل على كل بلاد الإسلام، السني تحديدا، ليس لأنها حملت تركيا من الهامش إلى المركز، بل لأن التجربة ترسي قواعد جديدة لما يسمى "الإسلام السياسي"، وهو اصطلاح أتحفظ كثيرا لدى استعماله، ولكن لا مندوحة كما يبدو من هذا الأمر، بسبب دلالته التي استقرت في العقل الجمعي العربي.
الدراسة المعمقة للأردوغانية، تقدم فقها سياسيا شرعيا جديدا، يستحق أن يكون جزءا من منهج كل من يريد أن ينهض بالأمة، التي أمضت قرنا كاملا في غيابة الاستعمار؛ لأن تركيا اليوم هي أكثر البلاد تطبيقا للفقه الإسلامي المعاصر، الذي يراعي خصوصية هذا العصر، المحكومة بمنظومة محكمة وممتدة وشرسة تناصب الإسلام والمسلمين العداء. تركيا اليوم تمضي بمرجعية إسلامية معاصرة جديدة، تشق طريقا لم يُسلك من قبل، فيه من فقه الواقع والموازنات الكثير، وفيه مبادئ جديدة في كيفية النضال من أجل النهوض بهذه الأمة، التي يراد لها أن تكون ممزقة محكومة من قبل نخب يمتد ولاؤها إلى خارج بلادنا، وبمرجعيات لا تمت بصلة للهوية الإسلامية، وتحارب بشكل مباشر أو غير مباشر تلك المرجعية التي تستمد منها الأردوغانية حياتها، وهديها، ومبادئها. وهنا تكمن المفارقة الكبرى بين تطلع ملايين المسلمين في أصقاع الدنيا لما تعيشه تركيا، وبين ما تعيشه تلك الملايين من استلاب وانتهاك لحقوقها من قبل تلك النخب الرابضة على صدورها، بلا انتخابات ولا ديمقراطية!
أعلم أن كثيرين لن "يستسيغوا" ما أقول، وسأجد منهم من يقول لي أن الرجل "صالَحَ" كيان العدو، وتعامل معه تجاريا، ومد يده لفلان وعلان من حكام ظلمة، وأن لديه قوانين لا تمنع الخمر ولا حتى الدعارة، وأن وأن.. وكل هذا مناقض لتعاليم الإسلام الصريحة، وأقول لهؤلاء ولغيرهم، لو لم يسلك أردوغان تلك الطريق الوعرة، المحاطة بكل هؤلاء الأعداء في الداخل والخارج، لما تمكن من الوصول إلى وصل إليه، ولو قسنا حجم ما تم إنجازه لتركيا وللمستضعفين في العالم الإسلامي، بما يقوله هؤلاء، لعرفنا أهمية ما تم تحقيقه. والمجال يعجز هنا عن الحديث بتوسع أكثر عن تلك المعادلة التي تكاد تكون مستحيلة، بين الحفاظ على هوية الدولة وتجنيبها مخاطر الوحوش المتربصين بها داخليا وخارجيا، بل وضعها أيضا على خارطة الدول الكبرى والمؤثرة وبهوية إسلامية لا تخطئها العين، إلا إن كان بها رمد.
في إحدى أهم زياراتي، كنت جزءا من وفد عربي ضم نخبة من كتاب وصحفيي العرب، وكان منهم المرحوم جمال خاشقجي، وأتيح لنا حينها أن نلتقي نخبة الحكم في البلاد، ما دون رئيس الوزراء آنذاك أردوغان، وقد كانت تلك فرصة ذهبية للتعرف على "العقل" الذي يدير الدولة. وابتداء من ذلك التاريخ، وما قبله، كان واضحا أن الرجل يجدف عكس التيار الذي يحكم العالم، وقد اجتهدت خلال تلك الفرصة التي أتيحت لي، محاولة الوصول إلى أحد أهم أسرار التجربة التركية الفريدة.
وظل ذلك الهاجس يخيم عليّ فترة طويلة، خاصة أن سلوك الرجل ورجاله وصناع التجربة، لهم سمات معينة هي أقرب ما تكون لرجال الحركة الإسلامية المعاصرة، على الرغم من حرص الجميع على الإعلان عن عدم وجود أي علاقة بينهم وبين أي من تنظيمات ما يسمونه "الإسلام السياسي"، أو ما نسميه الحركات السياسية التي تتكئ على إحياء الهوية الإسلامية و"ترميم" صورة المسلم المعاصر، علما بأن البحث في النظرية الأردوغانية ورجالاتها توصلنا ببساطة إلى معرفة "الإناء" الذي يشرب منه هؤلاء.
وعلى مدار سنوات طويلة من متابعة هذه "النظرية" أو التجربة العملية بالأحرى، كنت أبحث عن "المرجعية" التي تحكم فعل الرجل وقراراته، هو وفريقه الحاكم، وما إذا كان له "شيخ" أو "شيوخ" أو "هيئة شرعية"، يقدمون له النصح و"الاجتهاد" المعاصر. وقد كنت في كل مرة أسأل هذا السؤال لا أجد جوابا شافيا، إلا أن الصمت أو "المراوغة" أعطاني انطباعا شديدا بأن هناك هيئة شرعية تضيء لأردوغان طريق عمله في كيفية إدارة الدولة، وسط بيئة دولية معادية لهذه المرجعية، فضلا عن وجود حراس شرسين للأتاتوركية في الداخل، وكان من هؤلاء قوى ذات شوكة في الجيش والقوات الأمنية، تمكن أردوغان بنفسه الطويل من تحييدهم، وتلك كانت علامة فارقة في تجربة الرجل، فقد كان هؤلاء حراسا أمينين على إرث أتاتورك، وكلما برز زعيم سياسي تمرد أو حاول التمرد عليها، كان مصيره السجن أو الإعدام، وما شهده الراحلان أربكان ومن قبله مندريس ليس ببعيد.
تركيا اليوم، بعد نصر الأردوغانية السابع عشر على مدار أكثر من عقدين، تبدأ عقدا جديدا، له آثاره البعيدة ليس على تركيا فقط، بل على كل بلاد الإسلام، السني تحديدا، ليس لأنها حملت تركيا من الهامش إلى المركز، بل لأن التجربة ترسي قواعد جديدة لما يسمى "الإسلام السياسي"، وهو اصطلاح أتحفظ كثيرا لدى استعماله، ولكن لا مندوحة كما يبدو من هذا الأمر، بسبب دلالته التي استقرت في العقل الجمعي العربي.
الدراسة المعمقة للأردوغانية، تقدم فقها سياسيا شرعيا جديدا، يستحق أن يكون جزءا من منهج كل من يريد أن ينهض بالأمة، التي أمضت قرنا كاملا في غيابة الاستعمار؛ لأن تركيا اليوم هي أكثر البلاد تطبيقا للفقه الإسلامي المعاصر، الذي يراعي خصوصية هذا العصر، المحكومة بمنظومة محكمة وممتدة وشرسة تناصب الإسلام والمسلمين العداء. تركيا اليوم تمضي بمرجعية إسلامية معاصرة جديدة، تشق طريقا لم يُسلك من قبل، فيه من فقه الواقع والموازنات الكثير، وفيه مبادئ جديدة في كيفية النضال من أجل النهوض بهذه الأمة، التي يراد لها أن تكون ممزقة محكومة من قبل نخب يمتد ولاؤها إلى خارج بلادنا، وبمرجعيات لا تمت بصلة للهوية الإسلامية، وتحارب بشكل مباشر أو غير مباشر تلك المرجعية التي تستمد منها الأردوغانية حياتها، وهديها، ومبادئها. وهنا تكمن المفارقة الكبرى بين تطلع ملايين المسلمين في أصقاع الدنيا لما تعيشه تركيا، وبين ما تعيشه تلك الملايين من استلاب وانتهاك لحقوقها من قبل تلك النخب الرابضة على صدورها، بلا انتخابات ولا ديمقراطية!
أعلم أن كثيرين لن "يستسيغوا" ما أقول، وسأجد منهم من يقول لي أن الرجل "صالَحَ" كيان العدو، وتعامل معه تجاريا، ومد يده لفلان وعلان من حكام ظلمة، وأن لديه قوانين لا تمنع الخمر ولا حتى الدعارة، وأن وأن.. وكل هذا مناقض لتعاليم الإسلام الصريحة، وأقول لهؤلاء ولغيرهم، لو لم يسلك أردوغان تلك الطريق الوعرة، المحاطة بكل هؤلاء الأعداء في الداخل والخارج، لما تمكن من الوصول إلى وصل إليه، ولو قسنا حجم ما تم إنجازه لتركيا وللمستضعفين في العالم الإسلامي، بما يقوله هؤلاء، لعرفنا أهمية ما تم تحقيقه. والمجال يعجز هنا عن الحديث بتوسع أكثر عن تلك المعادلة التي تكاد تكون مستحيلة، بين الحفاظ على هوية الدولة وتجنيبها مخاطر الوحوش المتربصين بها داخليا وخارجيا، بل وضعها أيضا على خارطة الدول الكبرى والمؤثرة وبهوية إسلامية لا تخطئها العين، إلا إن كان بها رمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق