لا غرابة في العنوان؛ فحديثي عن مجتمعات منتشرة في عالمنا، تنعدم فيها وسائل الحماية الذاتية ولا وقاية فيها، ولهذا أسميتها “المجتمعات العارية”. 

واحدها مجتمع عارٍ، وهو المجتمع الذي لا يقيه شرع ولا عرف، ولا شيء يحميه من عوادي السياسة، ولا من عوادي الاقتصاد، ولا من الاجتياحات الاجتماعية المفاجئة. 

فليس هناك قانون يحد أي متسلط عليه ويمنعه من أن يسومه العذاب، أو ينهب ماله، أو يفرض عليه سلوكًا اجتماعيًّا لا يقبله؛ إذ يمكن أن يكون يومًا ليبراليًّا ويومًا آخر شيوعيًّا ويومًا ثالثًا إسلاميًّا، حسب قرار من يغلب عليه ويعريه من كساء ويلبسه غيره، أو يتركه عاريًا في مهامه الضياع.

تسود هذه الظاهرة في المجتمعات الضعيفة التي تُعرّى باستمرار ولا تجد وسيلة تقيها الشرور التي تجتاحها. ومثال ذلك سيطرة تطرف ديني أو تطرف علماني، فكلاهما لا يراعي ولا يحترم ضعف المجتمع، ويجد من القوة وسيلة دائمة للتعرية وإنهاك الضعفاء، فلا حد لقوة من يقوم بالتعرية، ولا حد لضعف المجتمع الذي سوف تُصب عليه عوامل التعرية. وهي ليست فقط تعرية من الملابس، بل تعرية من الأخلاق والدين والدنيا، فلا لباس يقيه، ولا ثقافة تحميه، ولا مال له معصوم من الاستباحة، وكل شيء كان له أصبح مستباحًا. هذه الحال التي تصيب بعض البشر هي أقسى مما تتعرض له الحيوانات العارية؛ ذلك أن العري الحيواني تكيف على مدار آلاف القرون ليقي نفسه شرور العري ومآسيه، بينما المجتمع البشري العاري لا وقاية له إلا الاختيار الطوعي، لكنه جُرّد منه؛ إذ لم يذهب يومًا لصندوق انتخاب يختار من قومه من ينسجم مع إرادته في تصويت حر، فهو مرن إلى درجة الميوعة، يأخذ شكل من يقرر تشكيله؛ لأنه يتعرض لحال جديدة لم يسبق له أن اعتاد عليها أو أن يصنع لها وسائل وقاية من التي نسميها طبيعية، ولم يطور طرقًا للتحايل على قرارات التعرية ليتجنبها. 

مثلًا قد يصدر قرار تعريته من ماله، أو فرض ضرائب جائرة عليه، أو يجبر على أن يتدين، أو يجبر على أن يتعلمن، أو يجبر على أن يتخلى مما كان يراه دينه. لباسه لا قرار له، وكلامه ولغته لا قرار لها، وكل شيء بلا حماية قانونية ولا طبيعية.

من حيل المجتمع العاري للتستر

يمارس المجتمع العاري حيلًا يحاول ستر نفسه بها، منها الاختفاء من الظهور بالمظهر الحقيقي الذي هو عليه. ولهذا فقد يتظاهر بتأييده العري الجديد، أو يعتذر بأنها قوانين مفروضة، أو يتظاهر بمبررات للقناعة بقرارات التعرية؛ فالزمان يتغير والحال يحول وللعصر اشتراطاته، ثم يستعرض فوائد الحالة الجديدة ويزعم أنه حين كان له جلد واق كان يفكر في صوابية بعض قرارات التعرية. كما يجهد المجتمع العاري نفسه لتبرير وضعه الذي آل إليه، وقد يكشف عن أسباب أوصلته لهذه الحال، لكنه يخشى المواجهة لحقيقة حاله، فيتدبر الهروب من كشف ضعفه ويخشى العقوبة لو ثلب من عرّاه.

ومن الوهم أن نرى المجتمع تحت لباسه الذي تخيله في السابق كثيفًا ساترًا كان مرتاحًا لما كان عليه. لا ليس كذلك، فهو يعلم أنه معرض دائمًا للتعرية، إذ لا حيلة له فيما يراه سترًا ولا ما انكشف عليه فصار عاريًا، فغيره كساه وغيره عرّاه، وما كان له دور في القرار وليس له قرار، فقط كان يقترب ممن منّ عليه بلباس فيشكره عليه، تمامًا كما يقترب حين يتعرى ليبارك ويشكر من عرّاه، ولا قيمة لموقفه مؤيدًا أو معارضًا، والدنيا تعلم ذلك. لكن مجتمعات العري مجتمعات موضة، وهي قابلة جدًّا للانتقام، لكنها تنتظر من يقدح النار لتستدفئ من عريها بمن يقول لا لمن عراها، وهي مغرورة مغزوّة بلا وعي في زمن تتخيله زمن الستر، ذلك الزمن الذي كان يراعي ما اعتادته، وليس مراعيًا لحضورها، فلو كانت تلك المجتمعات موجودة ولها حضور لما سهلت تعريتها ولما كانت قابلة لما فرض عليها من لباس في الماضي.

ليس من الوارد الاعتراف بمجتمع تمت تعريته ولا تم إلباسه، فهو لا شيء في وجه من يعريه ومن يلبسه، ليس له قرار في الحالين، لكن إيقاظه لكشف واقعه وحاله ممكن لينتقل من حال السلبية إلى حال الاعتراف بأن له حقًّا في أن يلبس أو يتعرى بنفسه، بقرار منه لا من خارجه، وله الحق في أن يختار لباسه وطعامه وثقافته ومصيره. والحق أنه لن يرتفع لهذا المستوى حتى يعلم أنه لم يكن شيئًا مذكورًا في الحالين، ولا بد من كشف حيله لستر نفسه، فهذا مهم جدًّا لأن يصنع مصيره. 

أما بقاء ثقافة التحايل فإن ذلك يجعله عاريًا على طريق الثقافات والاحتلالات، هذا يلبسه لباسًا وذاك يعريه منه ويكتفي بأن يصفق له دعاة سلبيته ويمتدحه من يراه قد كُسي بلباس مختلف.