العلماء يموتون في السجون والمنافي.. لماذا؟
من يريد أن يعرف المعني الحقيقي للوطنية، فليراجع معي سيرة محمد الجوادي
إن أردت أن تعرف نهاية الدول فانظر إلى حال علمائها؛ فعندما يكره الحكام العلم، فإن السياسة يصيبها الجمود والركود، وتتوقف التنمية والتطور.
انظر إلى حال دول العرب تجد العلماء في السجون والمنافي، لأن الحكام لا يريدون أن تسمع الشعوب صوت العلماء، خاصة أولئك الذين صانوا العلم وعظموه، وتمسكوا بوظيفة العلماء في قيادة الأمة بالمعرفة لتحقيق الحرية والديمقراطية والاستقلال الشامل.
السؤال الذي يجب أن تجيب عنه الأمة هو: لماذا يموت العلماء بعيدا عن أوطانهم، يعانون مرارة البعد عن ديار بنوها بجهدهم وعرقهم طوال سنين، وعن مدرجات جامعاتهم، وعن جماهيرهم التي تعرف قدرهم وتحبهم وتحترمهم، وتقدر عطاءهم.
الجوادي نموذجا!
هل يمكن لضمير إنسان أن يتقبل فكرة نفي العالم لأنه صاحب رأي أراد بالتعبير عنه أن يرفع شأن وطنه، ومكانة دولته، وأن يدافع عن حق شعبه في الحياة الكريمة؟
هناك آلاف العلماء الذين قدموا للبشرية إنجازات حضارية، لكنهم وجدوا أنفسهم يعيشون في المنفى؛ لأنه لا بديل سوى السجن والتعذيب. ولا يجرؤ أحد على الدفاع عنهم، فالجميع الآن عقد الخوف ألسنتهم، وشلّ تفكيرهم.
هل تريد مثالا؟ ودّعت الأمة اليوم عالما كبيرا قدم الكثير من الإنجازات العلمية في مجال الطب، وبشكل خاص في علاج القلب، لكن يبدو أن قلبه لم يحتمل قسوة المنفى، ولم يجد في الطب علاجا لقلب يعشق الوطن.
ونحن نودّع محمد الجوادي نوجه السؤال إلى كل عقل وضمير في عالمنا البائس: لماذا تم حرمان الجوادي من الحياة في بيته على أرض وطنه؟!
الوطنية الحقيقية
يمكنك أن ترى على شاشات التليفزيون الكثير من الذين يتلاعبون بمشاعر الجماهير واتجاهاتها بالحديث عن الوطنية، التي زيفوا معانيها، فاستخدموها لقهر الناس على تأييد مستبد ظالم.
لكن من يريد أن يعرف المعنى الحقيقي للوطنية، فليراجع معي سيرة محمد الجوادي، الذي عاش يبحث في تاريخ مصر ليبني صورة حقيقية لشعبها الذي كافح ضد الاحتلال ليحقق الجلاء والاستقلال.
وقدم الجوادي مئة كتاب عن تاريخ مصر، وعن رجالها الذين دافعوا عن حقها في أن يكون لها مكانة عالمية تستحقها بجدارة، وإن كان هناك من حاول أن يطمس ذلك التاريخ ليصور للشعب أن مصر لم يكن لها وجود قبله، وأنه الذي حقق الجلاء، فلا ينسب فضل إلا له.
لكن محمد الجوادي أثبت أن هناك الكثير من الرجال في تاريخ مصر قاوموا الاستعمار، ودافعوا عن الدستور والديمقراطية، وأن من حق شعب مصر أن يعرف التاريخ الحقيقي.
فمن الذي يمكن أن ينطبق عليه وصف الوطنية، إن لم يكن ذلك العالم الذي عمل ليعيد الذاكرة لشعب مصر، وليحول تاريخها إلى مصدر قوة لها.
أين تاريخنا؟!
إن الوطني الحقيقي هو الذي يعرف التجارب التاريخية للوطن، ويقدم للعالم القصة الحقيقية لشعب لم يستسلم للاحتلال الإنجليزي الذي استخدم قوته الغاشمة ضد هذا الشعب. فما بالك بمؤرخ قضى عمره، وضحّى بصحته ووقته في تجميع عناصر الصورة الصحيحة لكفاح شعبه، وبناء القصة التي يمكن أن تتحول إلى مصدر قوة.
ولأنني عانيت كثيرا من عدم وجود فرص لنشر الكتب بسبب إغلاق أبواب وزارة الثقافة في وجه المثقفين الوطنيين الحقيقيين، فإنني أعتقد أن محمد الجوادي قد أنفق ماله على نشر كتبه، ولأنه أستاذ في كلية الطب، فقد توفرت له من مهنته أموال تكفي لنشر كتبه.
الوطني يعتز بلغته!
من أهم البراهين على صدق الوطنية الاعتزاز بلغة الوطن، وإجادة الحديث بها، لكي تفهم الجماهير خطاب المثقف الذي يتقدم للقيادة. وهناك الكثير من الذين يدعون الوطنية زورًا ولا يستطيعون كتابة جملة مفيدة بلغة العرب، فما بالك بنطقها بمخارج حروف صحيحة، وبالالتزام بالإعراب.
أما محمد الجوادي الوطني الذي مات في المنفي؛ فقد عشق اللغة العربية، لذلك أصبح عضوًا بمجمع اللغة العربية (مجمع الخالدين) ليقوم بتعريب الكثير من المصطلحات الطبية.
وعشق اللغة العربية دليل على الأصالة، وهي من أهم أركان الهوية، فمن يقدم إنجازات حضارية يجب أن يقدمها بلغته. لذلك عمل الجوادي لتعريب المصطلحات العلمية، وهذا يعبر عن طموح الأمة لأن تعود اللغة العربية لغة للعلم والمشروع الحضاري القادم.
لماذا تم نفي الجوادي؟!
مات الجوادي غريبًا لأنه تمسك بحريته في التعبير عن رأيه، وامتلك الشجاعة ليقول كلمة حق، ويدافع عن المظلومين، والمثقف الحقيقي تظهر أصالته في المحن والأزمات، عندما يخاف الناس، فيتقدم ليرفض الجور والضيم.
والجوادي مثقف أثبت أنه يمتلك الحكمة وشجاعة القلب والضمير، لذلك عبر الناس عن حبهم له، وتقديرهم لشجاعته. والشعوب تتطلع لمثقفيها الحقيقيين عندما تشتد الكروب، ويضيق الخناق على رقاب الناس.
أما الموت فإنه حتمًا سيأتي، وعند الله تجتمع الخصوم، فهل يتذكر الجميع الموت، فإنه الحقيقة التي يجب أن يقف الجميع أمامها بأدب وتواضع.
ولأن كل الناس سيموتون، فإن موت العالم الشجاع الذي يدافع عن دين ومبادئ وقيم وأخلاق، هو موت جميل.. وحسن الخاتمة أمل لكل مسلم.
الموت قادم بلا ريب.. فليكن في ميدان الدفاع عن الحق، في مواجهة الباطل، فتلك هي النهاية التي تليق بحياة مسلم كريم صاحب رسالة ووظيفة حضارية، ويستحقها عالم يصون كرامة العلم، ويقوم بواجبه.
وداعًا يا جوادي، وندعو الله أن يثبتنا على الحق حتى نلتقي على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق