محمد الجوادي … صِدِّيق النخبة وطبيب أدواء مصر
كانت الردة السياسية التي زلزلت أركان مصر والعالَم منتصف سنة 2013، لحظة مفصلية في تاريخ المواقف والمفاصلات الحادة بين الشجعان أصحاب المبادئ المؤمنين بها حقا، وبين نخب الخيانة والجبن والنكوص عن قيم الحق والحرية خوفا أو طمعا، كما كانت اختبارا حقيقيا لمروءات الرجال وطيب معادنهم واحترامهم لذواتهم، وكان الدكتور أبو المواهب مؤرخ مصر ونسابتها الطبيب المرحوم محمد الجوادي أبرز الناجحين في ذلك الاختبار الحاسم برفضه الصارخ للانقلاب الدموي في مصر التي حملها بين جنبيه طبا وفكرا وتاريخا وأعلاما وسياسة.
حقا لقد كانت مواقف النخب المصرية والعربية من الانقلاب العسكري في الكنانة خافضة رافعة؛ ففي أتونها تهاوت أسماء كبيرة كان ضجيجها يملأ الأفق لكنها فشلت في الاختبار الأكبر فتلاشت، وعلى وقعها ارتفعت أسماء أخرى سيمت خسفا فقالت لَا لَا بملء أفواهها فخلدها التاريخ لصبرها عند الصدمة الأولى، ولاستمرارها على ذلك النهج الرافض للانقلاب وما ترتب عليه.
وكان الدكتور محمد الجوادي المأسوف عليه نموذجا مضيئا لرافضي الانقلاب بموقفه الصادق، ومبدئه الصِّدِّيقي في وجه تلك الفتنة العمياء والردة السياسية الهوجاء، وصبر على ذلك وصابر حتى لقي ربه مهاجرا في سبيله، يقاسي الغربة والأمراض، مجافيا للظلم وأهله، غير آبه بطول الطريق ووحشته، موقنا أن النصر صبر ساعة، وأن ما عند الله خير وأبقى، وأن الباقي من حياة كل إنسان هو مواقفه المشرفة.
مقدمات الرفض
موقف الدكتور الجوادي المتصدي للانقلاب العسكري في مصر مركب من مقدمات أدت إلى تلك النتيجة البطولية المشرقة، الجامعة بين الصرامة في الموقف، والبسالة في الدفاع عنه، والصبر على ضريبته، والألمعية في ترقب مآلاته، والخبرة في تفكيك مشتبهاته.
وهي مقدمات تعبر بصدق عن حقيقة الجوادي طبيب أوجاع مصر السياسية، ونُطاسي أدوائها الاجتماعية المزمنة، كما تعبر عن موسوعيته الفذة، وتفننه في معارف شتى استطاع الجمع بينها وصهرها في بوتقة واحدة فكان بعضها ينجد بعضا في كتبه وأحاديثه ومقالاته ومقابلاته.
أولى تلك المقدمات التي دفعت الجوادي إلى التصدي الباسل للانقلاب؛ إيمانه القوي بالله وصدق تدينه، وما تربى عليه دينيا من بغض الظلم واحتقار الظالمين، سيما بعد تدفق أنهار دماء الأبرياء في ميادين مصر ومجازر رابعة والنهضة والحرس الجمهوري.
وكان الجوادي يمتح من بئر تدينه العميق دلاء من اليقين يواجه بها طغيان الانقلابيين وآلتهم الإعلامية المنكرة، وكان بذلك اليقين يستقبل آلام المرض الذي أرهقه لسنوات طويلة في غربته بالرضى والتوكل والاستعانة بالله، ولذا لم تحدثه نفسه الأبية بالتراجع ولا الرجوع.
وثانية المقدمات: اعتداده بنفسه، واحترامه لذاته، فهو إنسان مكرم لا يليق به ابتذال نفسه، ولا النكوص عن آرائه لمجرد أن ضباطا متآمرين ينفذون مخططا رديئا رسمه لهم أعداؤهم الإقليميون والدوليون للإضرار بشعبهم وبلدهم، وكل من خالط الجوادي يدرك مدى اعتداده بنفسه، وهو اعتداد محمود في أزمنة الابتذال والاسترخاص والميوعة المبدئية.
وثالثة المقدمات: حسه التاريخي المرهف، وعلمه أن أعمار الناس في الدنيا قصيرة مهما طالت، وأن خير ما يورث المرء لنفسه وبنيه وقومه مواقف صادقة، وكان الجوادي مغتبطا بهذا الموقف يعتبره توفيقا من الله ومنة منه لا يستطيع شكرها، وكان كلما ادلهمت الخطوب الانقلابية في وجهه تذكر أنه “يقف في الجانب الصحيح من التاريخ” فيجدد سعادته وتشبثه بموقفه وعنفوان دفاعه عن الشرعية ورمزها الرئيس الشهيد محمد مرسي.
ورابعة المقدمات؛ تشبعه الصادق بقيم الحرية والعدل والشورى، فهذه قيم يكثر ادعاؤها في أحاديث النخب العربية والمصرية أيام الرخاء، لكن حين يجد الجدُّ يقل المؤمنون بها ويتخلون عنها عند أول مطبات الطريق، سيما إن اختارت الشعوب من لا يوافق التوجهات التفصيلية للإيدلوجيات السوداء المتحكمة في تلك النخب.
وكان الجوادي في التشبث بهذه القيم منسجما مع مبادئه صادقا مع نفسه، فلم يكن من الإخوان المسلمين ولا حتى من الإسلاميين بالمعنى الحركي لكن خيارات الشعب المصري عنده واجبة الاحترام ومستحقة الدفاع، وهو ما قام به حتى رحيله.
والمقدمة الخامسة: إدراكه لأهمية الفرصة التاريخية العظيمة بانتقال مصر من الحكم العسكري إلى الحكم المدني بقيادة رئيس في مثل إخلاص ومبدئية ونقاء الدكتور الرئيس الشهيد محمد مرسي، وكانت حسرته على تضييع هذه الفرصة مضاعفة بحجم عظمتها.
وكان ناقما أشد النقمة على تلك النخب العلمانية واليسارية المتطرفة التي اتخذها الجيش مطايا ذلولة إلى الإطاحة بمرسي، وإدخال مصر في نفق مظلم من التخلف والرجعية والاستبداد والمنافي والسجون.
والمقدمة السادسة: وهي الأهم والأبقى والأكثر تأثيرا؛ خبرته بأحابيل العساكر ومآلات أحكامهم التسلطية في مصر والعالم العربي، فلا أحد في الدنيا يعرف مثالب العسكريين المصريين في الحكم كما يعرفها الدكتور الجوادي.
فقد تتبع أخبارهم وجمع مذكراتهم، واطلع على حقائقهم، وميز بين وطنييهم وعملائهم، فكانت خلاصات دراساته الطويلة ومؤلفاته الكثيرة أن أخطر معضلة تواجه مصر حاضرا ومستقبلا هي الحكم العسكري، وقد صدقه الواقع وشواهد التاريخ، وبراهين الحاضر، ومعطيات المستقبل.
طب وتاريخ
لم تكن مواقف الجوادي وحدها المخلدة لذكره في العالمين بعد رحيله، بل إن علمه وآثاره تجاري مواقفه ليكونا دعامتي خلود تتذكرها الأجيال اللاحقة؛ فالدكتور الجوادي عالم موسوعي جدد طريقة السلف في الجمع بين العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية بإتقان، فهو طبيب محترف في طب القلب والأمعاء الدموية، وأستاذ مبرز لهذا التخصص في جامعة الزقازيق، وهو مؤرخ مصري بصير ونسابة معاصر خبير، ومفكر سياسي رفيع.
أحب الجوادي ألمانيا، وكتب عن حياته فيها، وكانت أول بلد خارجي يزوره، وقال في مذكراته “حياتي في ألمانيا” عن الأثر الباقي في شخصيته من حياته الألمانية “فإنني أستطيع أن أقول إنني تعلمت في ألمانيا كيف يمكن تنمية الثقافة والمعرفة عند أصحاب المهن قبل أن يصبحوا أصحاب مهن”.
بالفعل كان هذا الأثر في حياة الجوادي بليغا فلم تمنعه دقة تخصصه الطبي من الاشتغال بالتاريخ والعلوم الإنسانية، وكان عطاؤه الكبير في التأريخ لمصر وأعلامها، وهو تاريخ نابع من وطنية صادقة، وتقدير للرجال، ووفاء للأجيال القادمة، والتأريخ عمل لا يقوم به إلا أولو البصائر من الرجال الذين يتمتعون بحس مرهف وإدراك خارق للزمن، وكأن الزمن يصالحهم فيهبهم بركة في أعمارهم فيكتبون من الكتب والمصنفات ما تضيق عنه الأعمار العادية.
كتب الدكتور الجوادي كثيرة وجديرة بالدراسة لمن يريد معرفة تاريخ مصر في القرن المنصرم والحالي، وهو موسوعي متمكن يكتب في الفكر والسياسة والأدب والثقافة، والاجتماع والأمن والتنمية، ويمكن أن تصنف مبدئيا كتبه على النحو التالي؛ سبعة في “الدراسات الأدبية واللغوية”، وستة في “أدب الرحلات”، وأربعة وعشرون في “الفكر السياسي”، وتسعة وعشرون في “التاريخ”، وستون كتابا في “التراجم”، بعضها عن شخصية واحدة، وبعضها عن عشرات الشخصيات.
كما كتب أربعة كتب “علمية” عن أمراض القلب والصحة والطب والعلاج في مصر، والقاموس الطبي، وخمسة كتب في “الأمن القومي والسياسي”، وأحد عشر كتابا عن “الفكر التنموي”، وخمس موسوعات عن “الأقباط في الثقافة المصرية”، و”المحافظين” في مصر، و”البنيان الوزاري في مصر بين 1878-1996″، وعن الوزارات المصرية، والتشكيلات الوزارية في عهد الثورة، وكتابين عن الوجدانيات، ومئات المقالات الأخرى الكتابية والصوتية في السياسة والتعريف بالأعلام.
ومنهج الجوادي في التاريخ للأعلام أنه يختار في العنوان صفة مميزة للعلم المترجم له، أو قضية بارزة في أعماله، مثل كتابه عن شيخ الأزهر “محمد الخضر حسين وفقه السياسة” الذي يقول فيه “اخترت للكتاب هذا العنوان، الذي اخترت له منتهجا في هذا النهج ما سبق لي حين اخترت لكتابي عن الشيخ محمد الأحمدي الظواهري عنوان القضية الكبرى التي أثره البارز فيها”، وذلك العنوان هو “الشيخ الأحمدي الظواهري والإصلاح الأزهري”، ففقه السياسة عند محمد الخضر حسين والإصلاح الأزهري عند الظواهري هما القضيتان البارزتان في جهود هذين العلمين عند مؤرخنا العظيم محمد الجوادي.
يستوقف المتصفح السريع لكتب الجوادي الكثيرة تنوع إهداءاته المعبرة عن كثرة صداقاته ووفائه لأساتذته وخلانه ومعارفه؛ فمذكراته في ألمانيا أهداها إلى الدكتور جمال نوارة، وحواراته في الدين والطب والسياسة أهداها إلى محمد حسام الشاعر، وكتابه عن الشيخ محمد الخضر حسين مهدى إلى مجدي سمير.
وسفره الضخم عن أحمد زكي حياته وفكره وأدبه إلى والديه الجليلين: الدكتور عبد الستار مصطفى، والأستاذ علي محمود البطراوي، ثم أهدى كتابه أدباء التنوير والتاريخ الإسلامي إلى المهندس أحمد حافظ أمين، وكتابه “سلطة الحضارة المستنيرة” إلى صديقه الكريم المهندس محمد إسحاق حمدي “تحية لكل الذكريات النبيلة”.
وبعد؛ فمحمد الجوادي ينتمي إلى أسرة عريقة بهذا الاسم، وقد جاء عنها في كتاب “تراجم أعيان الأسر العلمية في مصر خلال القرن الرابع عشر الهجري” للشاب الهمام جلال حماده” ما يلي “أسرة الجوادي عريقة الاشتغال بالعلم بمدينة فارسكور بمحافظة دمياط” ج1، ص 151، وجاء عن دمياط في “معجم البلدان” لياقوت الحموي: “دمياط مدينة قديمة بين تنّيس ومصر على زاوية بين بحر الروم الملح والنيل، مخصوصة بالهواء الطيب وعمل ثياب الشرب الفائق، وهي ثغر من ثغور الإسلام”.
ففي ذلك الثغر الإسلامي الذي كان ملتقى حرب وسلم بين المسلمين وأعدائهم الأبديين في أوروبا المسيحية قدم الجوادي إلى العالم يوم الخميس الحادي عشر من ربيع الأول عام 1378هـ، وفي يوم الجمعة عشرين من شهر ذي القعدة عام 1444هـ، ودع محمد الجوادي الدنيا في كعبة المضيوم ليشيع إلى مقبرة مسيمير جنوب الدوحة حيث يرقد إمام الثوار وفخر الأمصار العلامة يوسف القرضاوي، وحيث تُنعَّم -بإذن الله- الفتاة المجاهدة آلاء الصديق، ولَكَم كانت قطر مأوى فسيحا لأحرار المسلمين أحياء وميتين حين ضاقت بهم أوطانهم بما رحبت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق