في ألمانيا لا يهدمون المقابر القديمة!
لم أكن أعرف شيئا عن التنزه في المقابر التاريخية في ألمانيا قبل أن أزور مقبرة مدينة فوسين التاريخية، موطن رأس الملك لودفيج الثاني، التي بها قصره الأسطوري “نيو شفانشتاين” المبنيّ عام 1869 والذي يزوره أكثر من 12 مليون زائر في السنة، إضافة إلى قصر والده الملك ماكسميليان الثاني.
سياحة المقابر القديمة
تأخذ المدينة سمعتها السياحية من وجود هذين القصرين الكبيرين، لكن أحد معالم السياحة الأخرى في المدينة هو مقبرتها التاريخية، كثيرون لا يعرفون شيئا عن هذه المقبرة، لكن عندما يزورون المدينة سيجدون أنفسهم بداخلها حتما، بالنظر إلى أنها تقع في قلب المدينة النابض، قد لا تبدو مقبرة بالشكل المتعارف عليه لكثرة الأشجار والأزهار التي تغطيها، فهي أقرب إلى الحديقة منها إلى المقبرة.
كل شيء قديم في المقبرة؛ الأشجار، شواهد القبور، آرائك الجلوس، السياج الحديدي المحيط بها، أما السياح فهم يجلسون على العشب الأخضر، ويتجولون بأعينهم بين شواهد القبور القديمة، وباقي الناس يستظلون بالأشجار الوارفة فنحن في فصل الصيف.
قيمة المقبرة ترجع إلى أنها من أقدم المقابر في ألمانيا، لأنها ما زالت تحتفظ بكل تفاصيلها التي بُنيت على أساسها في سنة 1528، في البداية كانت مقبرة صغيرة ثم راحت تتوسع بعد ذلك في سنة 1725 حتى أخذت شكلها الحالي، وهي الآن تُعَد أحد معالم مدينة فوسين البافارية الجميلة. الدفن متوقف فيها منذ مدة طويلة، وهي مفتوحة للسياح الذين يزورون المدينة والمهتمين بالحياة القديمة.
من أجمل ما فيها بعض شواهد القبور القديمة جدّا التي كُتبت بالغة الألمانية القديمة، كثير من أصحاب القبور كانوا من العاملين في البلاط الملكي البافاري القديم، وفي موسم السياحة الصيفية عندما تكتظ المدينة بالسياح، فإنهم يفترشون جوانب المقبرة ويجلسون فيها لينعموا بقسط من الراحة أو الاحتماء من حرارة الشمس.
مقارنة بين مقابر ألمانيا ومقابر مصر التاريخية
كنت أتابع وأعقد مقارنة بين ما أراه هنا وما يحدث للمقابر في مصر، وإن كانت مقابر مصر التاريخية تحكي قصصا وأساطيرعن المدفونين تحت الثرى فيها تفوق ما تحكيه مقابر ألمانيا القديمة، لما تمتلكه مصر من ثراء حضاري كبير.
ما كان يجب هدم المقابر القديمة في مصر بهذا الشكل الدرامي، لقد رأينا كنوزا أثرية من شواهد القبور عثر عليها الناشطون الباحثون عن توثيق تلك الكنوز قبل إزالتها بالجرافات، أشياء نادرة يجب الحفاظ عليها بشتى الطرق والوسائل.
شواهد قبور إسلامية بمتحف الحضارة في ألمانيا
قبل سنوات عدة، رأيت هنا في متحف الحضارة في ميونخ عرضا خاصا للفنون الإسلامية، وكان من بين المعروضات شواهد قبور في باكستان وأفغانستان استعان بها المتحف ليعرض لزواره جانبا من فنون المقابر عند المسلمين، وشاهدت أساتذة يشرحون لطلابهم العلاقة بين رسوم وزخارف بعض القبور في باكستان وحدائق الجنة الغنّاء الموعودة للمسلمين.
في كل الديانات القديمة، شواهد القبور لها أهمية خاصة، وهي ترجع إلى العصور القديمة عندما كان شاهد القبر يُنصب للدلالة على وجود شخص متوف هنا. وفي مقابر أوربا، شاهدت صورا للمتوفين على الشاهد، والبعض قد يكتب تفاصيل شخصية أخرى عن الشخص المتوفى مثل مهنته والأشياء التي كانت تعني له أهمية في حياته.
شواهد القبور في كل الديانات تعكس الحالة الاجتماعية للمتوفى، فكلما كان ثريّا منعَّما يكون الشاهد كبيرا ومميزا، وفي كل الأحوال عند الفقراء والأغنياء هو حالة رمزية تدل على الحب والوفاء من قِبل أهل المتوفى.
مقبرة أسرى الحرب العالمية الأولى
لا أحد يهدم المقابر القديمة في ألمانيا، وقد رأيت مقبرة أخرى موجودة بوسط الكتلة السكانية في محيط مدينة ميونخ، وهي مقبرة خاصة بالجنود الروس الذين قُتلوا أثناء الحرب العالمية الأولى ما بين 1914 و1918، وكانوا رهن الاعتقال وقتها في أحد معسكرات الأسرى في ميونخ، المثير أن من بين هؤلاء العسكريين جنودا مسلمين وفق سجلات المقبرة التي تشير أيضا إلى أن عدد المدفونين فيها 321 جنديا.
تقوم الجالية الروسية كل عام بأداء صلوات في المقبرة بحضور أسقف من روسيا وأخر من ألمانيا، وتجري الصلوات باللغتين الألمانية والروسية وسط غياب أي طقوس إسلامية تختص بالجنود المسلمين الراقدين في المقبرة.
ليست المقابر فقط، بل حتى معتقلات النازي التي شهدت جرائم في تلك الحقبة من تاريخ ألمانيا هي أيضا مفتوحة للسياحة، بغضّ النظر عن المتاحف التي تقوم بالمهام التعليمية لتاريخ الأمم، فإن في المقابر أيضا تاريخا يُذكّر بمن رحلوا وتركوا أثرا لا يمكن محوه. مثلا في مصر، طه حسين والشيخ محمد رفعت اللذان نجت مقبرتاهما من قرار الإزالة بعد جدل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق