أعوان الظلمة
حرّم الله تعالى الظلم على نفسه وجعله بين الناس حرام فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا ».
قال ابن الجوزي: ” مساعد الظلم ظالمٌ ” فكل من ساعد ظالمًا أو قدم له عونًا أو دعمًا أو حتى تأييدًا هو ظالم مثله وشريكٌ له في الإثم والوزر بقدر ما قدم وبقدر ما أيّد وساند.
يقول الله تعالى ﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾ فمن ركن إلى ظالم انتفى عنه أن يكون وليّ الله ولن يتولاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم .
يُروى عن الامام الإمام أحمد بن حنبل، حينما كان مسجونًا في محنة “خلق القرآن” سأله السجّان عن الأحاديث التي وردت في أعوان الظلمة، فقال له: الأحاديث صحيحة، فقال له: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له: لا، لست من أعوان الظلمة، إنما أعوان الظلمة من يخيطوا لك ثوبك، من يطهو لك طعامك، من يساعدك في كذا، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم!”.
وروي أيضا أنه جاء خياطٌ إلى سفيان الثوري فقال: “إني رجل أخيط ثياب السلطان (وكان السلطان ظالمًا)، هل أنا من أعوان الظلمة ؟ فقال سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط ..!!”.
ويدخل في زمرة الظلمة أو أعوان الظلمة من يركن إليهم بالتبريد والوشاية والتحريض ومن يكتب التقارير ويرصد حركة الناس ليشي بهم لحاكم ظالم لا يتوانى عن سجنهم أو قتلهم.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: { وقد قال غير واحد من السلف، أعوان الظلمة من أعانهم ولو أنهم لاق لهم دواة أو برى لهم قلما} حتى لو كنت تقدم القلم للظالم ليكتب به، فأنت من أعوان الظلمة!.
الحديث هنا ليس عن الظَلَمَة، بل عن أعوان الظلمة، والذين لا يقل إثمهم أو عذابهم عن الظلمة، لأنهم لولاهم لما تمكن الظلمة عبر التاريخ من فعل الفظائع وارتكاب الجرائم واستحلال الدماء المعصومة .
وكما حرّم الله الظلم حرّم إعانة الظالم على ظلمه؛ بل حرّم مجرد الركون إلى الظالم وتوعد من يركن إليه بالنار. قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾ [هود : 113] ، وقال الله جلّ وعلا على لسان موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص : 17] ومعنى ظهيرًا يعني معينًا فالتعاون لا يكون على الظلم والإثم والعدوان وإنما يكون على البر والتقوى ونصرة الحق ونصرة المظلوم وعمل الخير قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة : 2].
نحن نتذكر دائمًا الظلمة ، ولكننا ننسى أعوانهم، الجنود المجهولون لحروب الشر ضد الخير، فالإنسان مسؤول أمام الله عن كل ما يفعل، عن كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ سورة الزلزلة 7-8.
ولا يُقال أن الظالم أمرني بفعل كذا ففعلته، كأن يقول أن الظالم أمرني بقتل فلان أو اغتصاب أمواله ففعلته عبدًا مأمورًا، لا يُقال ذلك. لأن نفسك ومالك ليست أهمّ من نفس ومال المظلوم. فإن هددك الظالم، فقل له افعل ما شئت فوالله لا أخطئ في حق إنسان لأجلك أبدًا.
هناك أصناف وأنواع وصور من التحريض والمحرضين على الظلم متجسدة في كل عصر ومصر. من يحرض على الظلم والعدوان على الأبرياء من خلال مواقعه ومنابره سواءً كانت دينية أو صحفية أو إعلامية أو فنية وهؤلاء أيضًا لا يقلون إثمًا ولا جرمًا عن النوع السابق وفي هؤلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ، لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا، فَيَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفًا » أخرجه ابن ماجه من طريق أبي هريرة.
يُضاف صنف آخر يلي هؤلاء الأعوان بالميل القلبي إلى ما يفعله الظالمون بالأبرياء والرضا به بل منهم من يفرح ويشمت بظلم الأبرياء والعدوان عليهم بغير حق، وعلى هؤلاء أن يراجعوا إيمانهم وأن يقفوا طويلًا أمام حديث النبي صلى الله عليه وسلم: « لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ » أخرجه البخاري من طريق أنس. فمن كمال الإيمان وتمامه أن تحب للناس العدل كما تحبه لنفسك وتكره لهم الظلم كما تكرهه لنفسك.
نصرة المسلم حقٌ وواجبٌ
من حق المسلم على المسلم النصرة والمؤازرة وعدم الخذلان قال تعالى: ﴿ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ﴾ [الأنفال : 72] ، وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: « تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ » أخرجه مسلم، فرد الظالم عن ظلمه ومنعه منه عده النبي صلى الله عليه وسلم نصرةٌ للاثنين معًا للظالم وللمظلوم ، نصرةٌ للظالم بمنعه عن الظلم ونصرةٌ للمظلوم بدفع الظلم عنه.
تبرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعوان الظالمين وحرمهم من الورود على حوضه، فعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ تِسْعَةٌ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعَةٌ، أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْآخَرُ مِنَ الْعَجَمِ، فَقَالَ: « اسْمَعُوا، هَلْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ سَتَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ » أخرجه النسائي.
سجّل التاريخ مواقف بعض الرجال الذين حققوا ما جاء في القرآن الكريم وما ورد في نصوص السنة ووقفوا أمام الحق دون خوفٍ ولا مواربةٍ بل صرّحوا بأنهم لن يكونوا للظلمة أعوانًا ولن يؤيدوا الطغيان مهما كان الثمن وإن كان عسيرًا.
فهذا عمرو بن عبيد” ولد سنة ( 80هـ) ، وهو مولى لبني تميم، في مجلس ” المنصور ” ثاني خلفاء دولة بني العباس. بويع له في أول عام 137 هـ. وكانت بينهما علاقة ودّ وتواصل قبل أن تقوم دولة بني العباس ويلي المنصور الخلافة .
ولم ينقطع حبل الودّ بين الرجلين مع تحفظ وحذر من قبل “عمرو “، ونصح ووعظ شديد في المجالس التي كان عمرو يشهدها عند المنصور .
وفي أحد هذه المجالس عند المنصور وبين حاشيته طلب ” المنصور” من ” عمرو أن يناوله الدواة، فأمتنع عمرو عن مناولة الخليفة للدواة، فقال له المنصور أقسمت عليك إلا ناولتني. فقال عمرو: أقسمت لا أناولك. فقال له المهدي ولي عهد المنصور : أمير المؤمنين يُقسم عليك يا عمرو أن تناوله الدواة، وتُقسم أنت ألا تناوله !! فقال أمير المؤمنين أقوى على كفارة يمينه مني، وبعد خروجه من عند المنصور سأله أصحابه: ما منعك أن تناوله الدواة؟ قال: لم آمن أن يكتب في خطب مسلم فأكون قد شاركته في قتله بمناولته الدواة ؛ فإذا كان يوم القيامة نادى منادِ : أين الظلمة وأعوان الظلمة ؟ فأكون ممن أعانه .
في حين ظهر نوع من الفقهاء أو العلماء مالوا إلى أبوب الحكام، وصاروا علماء وفقهاء للسلطة القائمة يُبررون لها كل المظالم، ويُحسنون ويُجمّلون كل المساوئ والخطايا ويُشيطنون كل خصم أو معارض بل تجدهم في خطابهم للحاكم يُوظّفون الآيات القرآنية التي خُوطب بها الرسول صلى الله عليه وسلم لتأييد أفعاله وتبريرها وتحسين تصرفاته وتمريرها بإعطائها الصبغة الشرعية.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَا مِنْ أَحَدٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ , وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ , إِلَّا خَذَلَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُ فِيهِ نُصْرَتَهُ , وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ , وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ , إِلَّا نَصَرَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ » أخرجه البيهقي. فمن خذل مسلمًا وقت احتياجه للنصرة عاقبه الله بنفس الجزاء بالخذلان والتخلّي عنه وقت شدّته وبلائه، ومن نصر مظلومًا نصره الله على من ظلمه.
ما أحوج الأمة في هذه الأيام إلى التبرؤ من الظلمة والركون إلى المظلومين وقول الحق وتبيانه والوقوف معه والدوران معه أينما دار وما أحوج الأمة إلى علماء الحق ليسجّلوا ما سجّله عمرو بن عبيد لتكون شاهدة لهم لا عليهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق