ما الموقف الشرعي من إحراق التّوارة والإنجيل والإساءة إليهما؟
بعدَ أن قامت حكومة السويد بحماية جريمة إحراق نسخةٍ من المصحف وركلها والإساءة إليها حاول البعض أن يثير مسألة إحراق التوراة والإنجيل ردًّا على هذه الجريمة، وفعلًا تقدّم أحد الشباب المسلمين بطلب لإحراق التوراة أمام السفارة الإسرائيليّة في ستوكهولهم غير أنّه تراجع عن عزمه ولم يقم بالتنفيذ.
وهذا يوجب بيان الموقف والحكم الشرعيّ في مسألة إحراق التوراة والإنجيل والإساءة إليهما سواءً في إطار الردّ على إساءة حرق نسخة من المصحف أم غير هذا الإطار.
مُسلّمات حول التّوراة والإنجيل
من المُسلّمات الشرعيّة التي يؤمن بها كلّ مسلم أن التوراة والإنجيل من الكتب السماويّة التي أنزلها الله تعالى على نبيَّيه موسى وعيسى عليهما الصلاة والسّلام، والإيمان بالكتب السماوية أحد أركان الإيمان التي لا يصحّ إيمان مسلمٍ من دون أن تستقرّ في قلبه واعتقاده.
كما أنّ من المُسلمات عند المسلمين أنّ التوراة والإنجيل قد طالهما التحريف وتدخّلت فيهما اليد البشريّة زيادة وإنقاصًا وتبديلًا وتحريفًا؛ فالتوراة والإنجيل الموجودان اليوم ليسا هما تمامًا التوراة والإنجيل اللّذان أنزلهما الله تعالى على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسّلام.
ومن المُسلّمات أيضًا أنّ هذا التحريف لا يعني أنّ نسخ التوراة والإنجيل الموجودة هي نسخ بشريّة خالصة بل إنّها تحوي كلامَ الله تعالى المنزل على أنبيائه في جزء منها غير أنّ التحريف البشريّ دخل عليها ولم يقم بإلغائها بالكليّة فقد أخبرنا الله عزّ وجل أنّ أحبار ورهبان أهل الكتاب قاموا بتحريف التوراة والإنجيل وتبديل كلام الله تعالى، غيرَ أنّ هذا التحريف ليس شاملًا لكلّ كتبهم فلا تزال في كتبهم أشياء من الحق المنزل من عند الله عزّ وجلّ.
قال الهيتمي في “تحفة المحتاج”: “الحقّ أنّ فيهما ما يظنّ عدم تبديله لموافقته ما علمناه من شرعنا”.
الحكم الشرعيّ في الإساءة للتوراة والإنجيل
لقد بيّن الله تعالى في كتابه الكريم أنّ أيّ فعلٍ يصدرُ من المسلم يكون مآلُه أن يدفع غير المسلمين إلى الإساءة إلى الإسلام فهو فعلٌ محرّم غير مشروع سدًّا للذّريعة.
قال تعالى في سورة الأنعام: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
قال الإمام القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن”: “نهى سبحانه المؤمنين أن يسبّوا أوثانهم؛ لأنّه علم إذا سبّوها نفرَ الكفّار وازدادوا كفرًا، قال ابن عباس: قالت كفّار قريش لأبي طالب: إمّا أن تنهى محمدًا وأصحابه عن سبّ آلهتنا والغضّ منها وإمّا أن نسبّ إلهه ونهجوه؛ فنزلت الآية.
قال العلماء: حكمُها باقٍ في هذه الأمّة على كل حال؛ فمتى كان الكافر في منعةٍ وخيفَ أن يسبّ الإسلام أو النّبي عليه السّلام أو الله عز وجل؛ فلا يحلّ لمسلمٍ أن يسبّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرّض إلى ما يؤدّي إلى ذلك لأنّه بمنزلة البعث على المعصية”.
وهنا لا بدّ من تأكيد أنّ السبّ المقصود هو الإساءة والشتم والإهانة أمّا إبطال الحجج بالبرهان وبيان الباطل الموجود فهو ليس من السبّ، وقد بيّن ذلك الطّاهر بن عاشور في “التحرير والتّنوير” إذ يقول: “ليس من السبّ إبطال ما يخالف الإسلام من عقائدهم في مقام المجادلة، ولكن السبّ أن نباشرهم في غير مقام المناظرة بذلك”.
فإن كان سبّ الأصنام التي هي رجسٌ خالصٌ وأوثان تُعبد من دون الله تعالى أمرًا محرّمًا سدًّا للذّريعة لأنّه يؤدّي إلى قيام عبّاد الأوثان بسبّ الله تعالى اعتداءً وجهلًا؛ فإنّ سبّ وشتم وإحراق وركل التّوراة والإنجيل والإساءة إليهما ولو بالسبّ والشّتم والبذاءة القوليّة والكتابيّة محرّمٌ من باب أولى.
ثمّ إنّ الإساءة إلى التّوراة والإنجيل محرّمةٌ أيضًا لأنّها تشتمل على الإساءة إلى كلام الله تعالى الذي ما زال موجودًا في هذه الكتب، فحكم احترام هذا الكلام الذي لم يدخله التحريف كحكم احترام المصحف تمامًا.
قال الإمام الخرشي المالكيّ في شرحه على مختصر خليل: “مِثْلُ الْمُصْحَفِ -يعني في الاحترام والتّقدير والتّبجيل- أَسْمَاءُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ لِحُرْمَتِهَا”.
فمن قصدَ بإساءته إلى التوراة والإنجيل الإساءة إلى كلام الله تعالى المتضمن فيهما وإهانته فقد حكم على نفسه بالكفر والخروج من الإسلام، وأمّا من قصد بفعله محض الإساءة والاستفزاز أو الردّ على إساءات الآخرين إلى المصحف أو إلى مقدّسات المسلمين؛ فإنّه ارتكب محرّمًا بإساءته إلى التوراة والإنجيل بأيّ شكلٍ من أشكال الإساءة والإهانة.
إنّ هذا الموقف والحكم الشرعيّ يدلّل على مدى احترام الإسلام عقائد ومقدّسات الآخرين من غير المسلمين ولو كانت باطلةً لا يقبلها الإسلام، وهذا ما يجب أن يتمّ تعميمه على البشريّة اليوم وهو ضرورة التحوّل من لغة الإساءة إلى المقدسات وانتهاكها إلى لغة الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، وهذا ما أمر الله تعالى به عباده المؤمنين في قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقوله تعالى في سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق