البكاء على الأطلال: ما لا تعرفه عن زراعة القصب!
سليم عزوز
يبدو أننا ظلمنا الخديوي إسماعيل (صحيحها الخديو، لكن خطأ شائع أفضل من صواب مهجور)!
فالخديوي إسماعيل هو رمز "الفشخرة الكذابة" في التاريخ المصري، وإذا كان محمد علي باشا حقق تنمية بدون ديون، فقد قال أهل الذكر إنه حقق ديونا بدون تنمية، وعلى الأقل هذا هو الشائع عنه، ولأنه أغرق البلاد في الديون، فقد مكن من التدخل الأجنبي (الدول الدائنة) في شؤون البلاد، فقد أصبح يستدعى عن المقارنة بالحكم الحالي.
وهي مقارنة ظالمة، لأن الخديوي إسماعيل قدم لمصر الكثير من الإنجازات، التي تضاءلت أمام إغراقه للبلاد في الديون الخارجية، وإذا كان يُنسب له افتتاح قناة السويس فقد أُخذ عليه هذا الاحتفال الأسطوري الذي دعا إليه قادة الدول، ما أرهق ميزانية البلاد، فاضطر للاستدانة، الأمر الذي مكّن الإنجليز (الدائنين) من أن يستحوذوا على أسهم في القناة مقابل أربعة ملايين جنيه، بأقل من ثمنها والذي يبلغ 32 مليون جنيه!
وإذا كان الرجل قد ترك لنا قناة السويس بتحديات الوجود الأجنبي، لكننا نعيش على خيرها إلى الآن، ويُحسب له أنه أنشأ عشرين مصنعا للسكر. وقد ذكرنا بإنجازه هذا إغلاقُ مصنع مدينة أبو قرقاص لصناعة السكر، بعد 155 عاما من العمل، على النحو الذي ذكره اللواء عصام البديوي، الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لشركة السكر والصناعات التكاملية، لبرنامج "الحكاية" لصاحبه عمرو أديب!
وهكذا فإن ما شيده الخديوي إسماعيل من مصانع أغلقه عبد الفتاح السيسي، فهل يستويان مثلا؟!
إغلاق مصنع أبو قرقاص:
مع التصريح بإعلان إغلاق المصنع صرح اللواء عصام أن الوضع خطير، لأن زراعة السكر في مصر انخفضت بشكل كبير للغاية، الأمر الذي ترتب عليه إغلاق المصنع، لنكون أمام كارثتين كبيرتين من صنع النظام الحالي الذي بدد إنجازا للخديوي إسماعيل، والذي تركه لنا مصانعة، كما ترك الديون ونفوذ الأجنبي في البلاد بسببها، ودفعت البلاد من لحم الحي ثمنا لأخطائه التي هي مثل زبد البحر، لكن لا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه!
فقد أخذ النظام الحالي من الخديوي إسماعيل سجله في الأخطاء، ولم يحافظ على إنجازاته، فكان إغلاق مصنع أبو قرقاص بعد كل هذه السنوات من العمل، والذي حافظ ضمن المصانع الأخرى على الاهتمام بزراعة قصب السكر، ليكون من أهم المحاصيل التي تنتجها البلاد. فإذا كان من الثابت أنه لم يُبن مصنع واحد في العهد الحالي، فالثابت أن مصانع عدة أغلقت أبوابها وسرحت عمالها.
وبعيدا عن الاستقطاب السياسي، فإن قرار إغلاق مصنع أبو قرقاص وتسريح عماله، له أكثر من معنى، لا سيما وأن المصنع منذ فترة لا يقتصر على إنتاج السكر من القصب، ولكن من البنجر أيضا، وهو نفس الأمر الذي يقوم عليه مصنع مملوك للإمارات، فهل السلطة بصدد تمكين الإمارات من احتكار صناعة السكر، تماما كما تم تمكينها من مجال الخدمات الصحية، ومن الفنادق التاريخية، وأننا سنشهد بيع المصنع لها وقد سبق الإعلان عن أنه حقق خسائر في العام الماضي قدرها 3.5 مليار جنيه؟!
إذا صح هذا، فلا يعني تجاوز أزمة حقيقية تتمثل في انصراف كثير من المزارعين عن زراعة قصب السكر، وبحسب اللواء عصام فإن محافظة المنيا كانت تنتج 950 ألف طن من قصب السكر، وأن مصنع أبو قرقاص كان يستقبل 750 ألف طن حتى عام 2020، في حين استقبلوا في العام الماضي (2023) 90 ألف طن فقط، انتهى المصنع من صناعتها في 21 يوما ليحقق خسائر بلغت 112 مليون جنيه (هناك تضارب في الأرقام)!
محافظة المنيا ليست الأفضل في زراعة القصب، فالسلالة الأكثر جودة ينتجها مزارعو محافظة قنا، وتبدو الجودة هنا مرتبطة بالمناخ لا السلالة، وفي محافظتنا سوهاج فإننا في مستوى بين المستويين، فقصبنا أفضل من حيث المذاق من قصب المنيا، وأقل في الجودة من قصب قنا، حيث يوجد مصنع سكر نجع حمادي!
هالني ما سمعت:
عندما بحثت في أسباب انصراف الفلاحين عن زراعة قصب السكر، هالني ما سمعت، لا سيما وأنه يعتبر من المحاصيل المريحة في زراعتها وخدمتها، وكانت ثالثة الأثافي مرتبطة بنقص المياه بسبب سد النهضة، وقد اعترف وزير الري المصري أن إثيوبيا خصمت من حصة مصر 26 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق بما يعادل 53 في المئة من حصتها التاريخية!
وقد صار اللعب الآن على المكشوف، فبدلا من المناورات السابقة من جانب النظام القائم بأن أحدا لن يقترب من هذه الحصة، ثم يكون سؤالنا وهل نقصت المياه؟ ها هو الوزير المختص يعلن الحقيقة المرة بدون حول منا أو قوة!
قصب السكر من المحاصيل التي تحتاج للمياه الوفيرة، حيث يروى 24 مرة في السنة الواحدة، وكان الفلاح يطلق المياه مساء، ليعود في الصباح الباكر فيوقفها، وقد ارتوت الأرض بدون جهد جهيد، والآن هو بحاجة إلى أكثر من مضخة لسحب المياه لتتمكن بصعوبة من الوصول اليها!
فهذا العزوف هو بسبب سد النهضة، الذي منحت السلطة الحالية موافقة مصر كتابة على إنشائه بدون قيد أو شرط، ثم أرهقت نفسها في مفاوضات بلا طائل، توقعنا لها الفشل مع كل جولة، وصدقت توقعاتنا، ومنذ قرابة الشهر أعلن وزير الري عن فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات (كما توقعنا)، ولم يقولوا إلى الآن ماذا هم فاعلون!
أزمة المياه فاقمت من التحديات التي تواجه مزارعي القصب، لأن السلطة لم تنظر لزراعة محصول كقصب السكر على أنه أمن قومي، ينبغي أن تحافظ على استمراره، ومنه تُستخرج أربعة أنواع من السكر، هي الأبيض، والبني، والدايت، بجانب حلوى الجلاب، ونفاياته تدخل في صناعات عدة مثل الأخشاب، والورق، والوقود، والكحول، والخل، والمكياج، على نحو دفع أحد المزارعين ليقول لي إن الدولة لو أعطتهم نصيبهم فيما ينتج من المصاصة فقط لصاروا مليونيرات!
لكن الدولة وهي تملك المصانع وتحتكر عملية صناعة السكر (قبل دخول الإمارات على الخط)، تستحوذ على الأمر برمته، ولهذا فإن مصانعها ليست فقط لصناعة السكر، فيطلق على المصانع "لصناعة السكر والصناعات التكاملية"!
لذا فإن الخسارة على الاقتصاد الوطني ستكون مضاعفة، وقد كانت تشتري محصول القصب من المزارعين بثمن بخس، لا يحسب الأرباح التي تحققها من الصناعات التكاملية الأخرى، ولا نعرف أرباح هذه المصانع قبل هذا الهروب الكبير من زراعة قصب السكر، لكننا ندرك أن سوء اختيار قيادات القطاع العام كانت سببا في تكبده خسائر باهظة، وها نحن نسمع للواء عصام ونكتشف أنه الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لشركة السكر والصناعات التكاملية، فما هي خبرته في المجال؟ إلا أن الوظائف العامة صارت مكافأة نهاية الخدمة للجنرالات من الجيش والشرطة، ليسلموا مشروعات القطاع العام للإفلاس فسنستيقظ على خبر إغلاق مصنع أبو قرقاص بدون مقدمات، وبدون أن يضعوا الشعب في الاعتبار. والحل ليس في الإغلاق ولكن في تسريح هذه القيادات الفاشلة، فهذا آخر من يفكر فيه من بيده عقدة الأمر، فلا نسمع سوى نُواحٍ لانخفاض محصول زراعة قصب السكر بدون البحث عن الأسباب!
أعمال السخرة:
وهذه المصانع هي الإدارة الأسوأ في التعامل مع الفلاحين، وكأنهم يعملون في السخرة، فلم تبحث عن أسباب عزوفه عن زراعة القصب. وبعيدا عن أزمة نقص حصة مصر التاريخية من مياه النيل، فإن المزارعين يذوقون الأمرّين في التعامل مع شركة السكر ويجدون عنَتا شديدا مع الشركة التي تحولت إلى اقطاعي كبير، في ظل دولة الجنرالات!
فطن قصب السكر لا يتجاوز ثمنه 1500 جنيه، في حين أنه يبلغ أضعاف هذا في السوق الموازي (في العصارات والاستخدام الشخصي)، وهذه السوق لا تستوعب كل المحصول، لكن هذه التفاوت كاشف عن الظلم البين الذي يتعرض له الفلاح، ويلاحظ أن السوق الأخير لا يتعامل سوى مع عصير القصب لا نفاياته التي تدخل في الصناعات والمنتجات التي سبق ذكرها!
ويحتاج الفدان إلى 15- 20 شيكارة سماد كانت في السابق بسبعة جنيهات، لكنها في الجمعيات الحكومية وصلت إلى 240 جنيها للشيكارة، ولعدم توافرها يضطر الفلاح للشراء من السوق السوداء بما قيمته 800 جنيه للشيكارة الواحدة!
ويرى الفلاح النجوم في عز الظهر قبل أن يحصل على كامل مستحقاته، فشركة السكر لا تورد القيمة النقدية مع استلام المحصول، ولكنها تحتجز مستحقات المزارع لديها وتخاطب بنك التسليف إن كان عليه قروضا، فإن حدث تسددها بالكامل، حتى وإن لم يتبق للفلاح شيء، وعموما فإن ما يتبقى يُدفع بالتقسيط ليكون موعد القسط الأخير قبل استلام المحصول الجديد، أي بعد سنة كاملة. ويلاحظ أن الفلاح هو من يتولى نقل القصب لشركة السكر وليس العكس. وقد أنشأت الحكومة جمعيات مثل جمعية مزارعي القصب، لا لشيء إلا ليدفع لها المزارع رسوما على كل طن يقوم بتوريده!
وأمام هذه السخرة كان لازما أن تنهار زراعة قصب السكر، وليس من المناسب أن تتولى دولة الجنرالات الحوار مع الفلاحين، لأنها تقوم مقام الإقطاعي القديم في صورته البشعة، مع الفارق هنا أن هذا الإقطاعي كان يحكم في ماله، لا مال الدولة!
عندما سألت بعض المزارعين وماذا تزرعون الآن بديلا عن قصب السكر؟
قالوا: بصل!
twitter.com/selimazouz1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق