مع مذكرات أخطر سفير إسرائيلي في مصر (3)
يخصص موشيه ساسون الفصل السابع من مذكراته (ص237 وما بعدها) للحديث عن "التعاون" الزراعي بين مصر وإسرائيل؛ وعن جولة شارون الميدانية – بصفته وزيرًا للزراعة – في مصر لتفعيل مشروعات زراعية مشتركة، ويتحدث ساسون عن مزرعة "الجميزة" ودوره فيها، وهي خاصة بالرئيس السادات في ميت أبو الكوم، مسقط رأسه في محافظة المنوفية.
وغني عن القول، أن إسرائيل حرصت على ضرب الزراعة في مصر، ونعلم حاليًا دور إسرائيل في بناء سد النهضة لتعطيش مصر، وهنا لن أتحدث عما قاله المترجم بشأن ما ذكره ساسون، وعما قيل عن حبوب زراعية تسبب الضرر أدخلتها إسرائيل إلى مصر، ولكن الواضح من سياق حديث ساسون، ومن نظرة سريعة إلى سياسة إسرائيل، أنها كانت تريد أن تبتعد مصرُ في كل شؤون الحياة والعمل، ومنها الزراعة التي تعرفها أرض مصر وأهلها منذ آلاف السنين، عن محيطَيها: العربي والأفريقي، وأن تكون علاقة مصر وطيدة في كل المجالات مع إسرائيل، على حساب علاقاتها الطبيعية والتاريخية بالعرب والأفارقة.
الحقيقة التي استعضنا عنها ببعض الشكليات، هي ما كان من حديث بين مبارك وساسون في لقاء وداع الأخير. فمن هذا اللقاء سمعنا قولًا وشهدنا فعلًا أن "السلام البارد"، كما كان يحلو لكثيرين وصفه، بقي خيارًا إستراتيجيًا، مع كل التغيرات، واستبعدت مصر الخيار العسكري في علاقتها مع إسرائيل منذ نصف قرن
حسني مبارك.. خديعتنا الكبرى
مقدمة المترجم – تأكيدي على جودتها – تقع في ذات الفخ، وتنطلي عليه كما انطلت علينا خدعة موقف حسني مبارك من السلام والتطبيع لفترة من الزمن؛ فيرى المترجم أن حسني مبارك تعامل مع ساسون كسفير ابتلي به، وكأنه إرث ثقيل من السادات، وهذا وهْم أو مجاملة اضطرارية بحكم صدور الكتاب زمن رئاسة مبارك.
أما موشيه ساسون فلا ينكر أن برودًا واضحًا ظهر من حسني مبارك تجاهه وتجاه العلاقات مع إسرائيل.. فبعكس السادات، لم يجلس مبارك مع ساسون جلسات ودية خاصة، ولم يتحدث عن لقاءات مع زوجته سوزان، كما حاله مع جيهان؛ بينما كان السادات يستقبله في قصره بكل أريحية بعيدًا عن الرسميات، أو في منزله الخاص، أو مزرعته في مسقط رأسه (ميت أبو الكوم).. مع التذكير أن السنوات السبع التي قضاها ساسون سفيرًا في القاهرة، منها بضعة شهور فقط في عهد السادات.
وكانت هناك مبالغات إعلامية، وتحليلات حالمة، وتضخيم لأهمية عدم قيام حسني مبارك بزيارة إسرائيل (زارها فقط لتشييع رابين) خلال مدة رئاسته؛ وفي واقع الأمر فإن زياراته الخارجية بشكل عام كانت قليلة، خاصة بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا، ولكن كثيرًا من الملوك والرؤساء والزعماء كانوا يزورون مصر ويلتقيهم مبارك، ويشمل ذلك مسؤولين إسرائيليين.
ويضع موشيه ساسون تفسيرًا، هو احتمال رغبة حسني مبارك بإعادة العلاقات مع الدول العربية التي قاطعت مصر، وهو ما حصل فعلًا، وهذا يتطلب منه عدم تمتين العلاقات مع إسرائيل.
لكن الحقيقة التي استعضنا عنها ببعض الشكليات، هي ما كان من حديث بين مبارك وساسون في لقاء وداع الأخير. فمن هذا اللقاء النادر الأخير سمعنا قولًا وشهدنا فعلًا أن "السلام البارد"، كما كان يحلو لكثيرين وصفه، بقي خيارًا إستراتيجيًا، مع كل التغيرات، واستبعدت مصر الخيار العسكري في علاقتها مع إسرائيل منذ نصف قرن، وهي مدة طويلة، سمحت لإسرائيل بالاستقواء على العرب عمومًا وعلى الفلسطينيين خصوصًا.
حين نتحدّث عن السادات أو مبارك، فإن هناك أساسًا منظومة عسكرية كاملة، لها أذرع سياسية وقانونية واقتصادية تتكامل لتنفيذ السياسات والتوجهات، مع أهمية دور الأفراد والأشخاص، ولكن فردًا دون نظام متعاون معه سيظل محدود التأثير
صحيح أن ساسون شعر بعزلة وصفها بأنها "فقاعة صناعية"، وأن كل تحركاته مراقبة، ولا توجد وفود سياحية ولا بعثات دراسية مصرية ذات قيمة تزور إسرائيل، ولعل كل مصري من غير المسؤولين يدخل إسرائيل يكون تحت المجهر، وقد يتعرض للاستجواب من أجهزة الأمن.
ولم ينتج تطبيع فني وثقافي بين مصر وإسرائيل، وظهر "علي سالم" بديلًا غير مقنع في الترويج للتطبيع، وهو غير محبوب مصريًا ولا عربيًا – وهو بالتأكيد ليس بأهمية نجيب محفوظ وأنيس منصور – وهو وأمثاله من مقاولي التطبيع لم يكونوا من المقرّبين لحسني مبارك وأركان نظامه عمومًا. ولكن كل هذا لا يمسّ إستراتيجية نشعر بها جميعًا، وهي خروج مصر من الصراع؛ ولولا كامب ديفيد لما كان هناك أوسلو ولا وادي عربة، ولا اتفاقيات أبراهام.
وللتذكير، فإن "صفقة الغاز" عقدت زمن مبارك وهي مستمرة في الزمن الحالي؛ فليس مهمًا – من الناحية الإستراتيجية – ألا يستقبل مبارك ساسون أو من جاء بعده في قصره وهو يرتدي ملابس رياضة، ولا أن يعطي النقابات حرية مهاجمة ومقاطعة إسرائيل، ما دام قد حافظ على تحييد مصر من الصراع، وعزز معها التعاون.
ونحن حين نتحدث عن السادات أو مبارك، فإن هناك أساسًا منظومة عسكرية كاملة، لها أذرع سياسية وقانونية واقتصادية تتكامل لتنفيذ السياسات والتوجهات، مع أهمية دور الأفراد والأشخاص، ولكن فردًا دون نظام متعاون معه سيظل محدود التأثير.
هذه المذكرات تعطينا فكرة أو تشرح لنا كيف آلت الأوضاع إلى ما نراه الآن من المذلة والهوان!
الكتاب (المذكرات) يعطي القارئ فكرة عن الخبث الإسرائيلي، وسواء قرأ ما بين السطور أم لا، فإنه يدرك أشياء كثيرة عن طريقة عمل المؤسسة الإسرائيلية، بعيدًا عن تصوّر مؤامرات وخطط؛ فإن السياسة الإسرائيلية كانت وما زالت واضحة، ولا يمكن لأي عاقل التعايش مع كيان قائم على منطق القوة، وهو ما يسميه ساسون في المذكرات بذراع إسرائيل الطويلة.
وقد كان ساسون يتمنى أن يكون أول سفير إسرائيلي في دمشق التي وُلد فيها، وهو ما لم يحصل، ونرجو من الله، تعالى، ألا يكون لإسرائيل أي سفير لا في دمشق ولا غيرها، وأن تغلق كل سفاراتها في العواصم العربية.
وكما قلت في الجزء الأول من استعراض هذه المذكرات، فإنها تعطينا فكرة أو تشرح لنا كيف آلت الأوضاع إلى ما نراه الآن من المذلة والهوان!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق