الاثنين، 9 سبتمبر 2024

340 يومًا

 

340 يومًا



د. أيمن العتوم


إنّها ليستْ أيّامًا عاديّة، ولا هي من أيّام الحياة الّتي تعتريها الصّعوبات، وتَشُوبها المُنغّصات، وتعتورها المُكدِّرات، فتُحتَمل. 
بل هي أيّامُ موتٍ ودمار، وبُؤسٍ وألَم، وشُحٍّ وجوع. إنّها أيّامٌ لو حلَّتْ ببلادٍ غيرِها لفَنِيت، وبأهلٍ سِواهم لانتهَوا، وإنّ أهل غَزّة يألمون، ويرجُون من الله أنْ تكونَ عاقبةٌ تُنهي هذا الحُزن والأسى، ويُشرِقَ فجرٌ بعدَ ليلٍ أليل، وظلامٍ أطول.

كلّما مرّ يومٌ اشتدّتْ المحنة، وتعاظَمَ معها الرّجاء بأنْ يكونَ آخرَ يومٍ في هذه الحرب الطّاحنة، فإذا هو كأنّه أوّلُ يومٍ، يستهدفون الأطبّاء والصّحفيّين ومن يعملون في القِطاع الصّحّيّ إلى اليوم كما كانوا يفعلون في البداية، يوجّهون رصاصات قنّاصيهم إلى صدور الأطفال ورؤوسهم وإلى بطون الأمّهات كما دأبوا أنْ يفعلوا منذُ أنْ شبت هذه النّيران.

إنّ أهل غزّة لم يُمنَحوا فرصةَ التِقاطِ أنفاسهم لحظة، أنْ يستوعبوا حجم الدّمار، أنْ يبكوا على شهدائهم، أنْ يحزنوا على راحليهم، أنْ يبحثوا عن مفقوديهم، أنْ يرثوا مَنْ قضى تحت الرّدم، أنْ يجلسوا بينهم وبين أنفسهم ليُدركوا حجم الفجيعة الّتي حلّتْ بهم. إنّهم لا يُمنحون لأجل ذلك ساعةً من نهار، ولا هدأةً من ليل، يعيشون في دوّامة لا تنتهي ولا تتوقّف، كأنّ الحرب ذئابٌ جُمّعتْ من كلّ صوبٍ بألفِ نابٍ وناب، فهي تنهشُ في لحومهم دون أنْ تشبع!

يلجؤون إلى مدرسة عمرو بن العاص في شمال القطاع، لكن لا عمرو يحميهم، فيُقصَفون ويُقتَلون بلا رحمة، لا شيءَ يقفُ بينهم وبين الموت، لا عهد، ولا ميثاق، ولا أنّهم مدنيّون، ولا أنّهم بشر، ولا أنّ كلّ مَنْ في المدرسة هم أطفال ونساء وعاجِزون لا يملكون رصاصةً واحدة، وكلّ حلمهم أنْ يجدوا ما يقتاتون كي يُبعِدوا شبح الموتِ عنهم، أو يستيقظوا على خبرٍ هو المنتَظَر من زمنٍ طويل، فيصيح صائح: إنّ الحربَ قد وضعتْ أوزارَها، وإنّ غُولَها قد رحل! وإنّه لحُلُمٌ عزيزٌ جِدًّا فهل يتحقّق؟!

نحنُ لا نموتُ كلّ يومٍ، نحنُ نموت كلّ ساعة، كلّ دقيقة، كلّ لحظة، المكان يسكنُه الموت في كلّ شبر، في كلّ زاوية، عند كلّ منعطف، خلفَ كلّ جدار، وراء كلّ بابٍ، إنّه منزرعٌ بينهم ينتقي منهم كلّ شهيدٍ ويصطفيه، فلا تمرّ السّاعة دون أنْ يأخذ معه عددًا من الشّهداء، يسير بهم إلى الضّفة الأخرى، الضّفّة الّتي لا يكون منها إياب.

الأحياء يستمرّ فيها نسفُ المنازل طَوال أشهر الحرب، وبتخطيطٍ مُمنهج، ليسَ بسبب وجود المقاومة، هذه حجةٌ صارتْ بائِسة، وصارتْ مكذوبة حتّى عند مُصدِّريها، والسّبب واضح؛ إنّكم لتجرُّئِكم على هذه الدّولة العُظمى لن تجدوا في النّهاية بيتًا يُؤويكم، ولا أمّا تحنو عليكم، ولا أبًا، ولا أخًا، ولا شارعًا، ولا حَيًّا، ولا مدرسةً تتعلّمون فيها كما تعلَّمْتُم من قبلُ أبجديّة الثّورة والحرّيّة.

إنّ الذّئاب لن تغيّر طبعَها، فقد طُبِعَتْ على الغدر، وإنّ الوحوش لن يجلبَها شيءٌ أكثر من رائحة الدّم، دم الضحّيّة، وإنّ الأفاعي مهما لان ملمسُها فلن تتخلّى عن عقيدة اللّدغ، وإنّ الكلاب لن تنسى العَقْر، وإنّ الجراد مدفوعٌ بالغريزة أنْ يأكل الأخضر واليابس، وإنّك لو جمعتَ هذه الصّفاتِ كلَّها في كائنٍ بشريّ وجيشٍ لا أخلاقيّ، لوجدْتها تجمّعتْ في الصّهاينة وجيشِهم.

وإنّه ليلٌ مرير، وإنّنا لنأمل ألا يستمرّ مريرُه، وإنّ لكلّ شيءٍ نهاية، وإنّنا لنأمل ألا تطول الحربُ أكثر من ذلك، وأنْ يعودَ المنفيّون إلى بيوتهم، والأرواح المُهاجرة إلى أجسادها، وأنْ يكون بعد كلّ هذا الألم المُمِضّ أملٌ مُبهِج، وإنّ الله على ذلك لَقديرٌ.

       عمّان     
 8-9-2024م  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق