ذهبنا إلى الحرب بجنود خونة
نور الدين العلوي
أقيمُ مماثلة واعية وأُصر عليها بين جماعة التنسيق الأمني المقدس مع الكيان، والصف الاستئصالي الذي خرب الثورة التونسية، فكلاهما اشتغل مع العدو ضد بني وطنه، من أجل تحقيق هدف يظنه هدفه الشخصي، وما هو إلا خادم لاحتلال. يكفي أن أشير إلى أن الصف الاستئصالي يصادق دحلان ويسمع إليه، وربما يقبض منه أو يقبض ممن يستخدم دحلان، لكن هذا دليل سطحي مقارنة بالنتيجة التي وصلنا إليها، أي تخريب التجربة الديمقراطية وإيقاع البلد تحت دكتاتورية غبية وحمقاء. فإذا كنا الآن في تونس نعاني للخروج من تحت كابوس الانقلاب؛ فلأننا وقعنا قبل ذلك في براثن الاستئصاليين الذين مهدوا له وصفقوا وحموه حتى اشتد عوده، وهم يمارسون الآن مسرحا أحقر من الانقلاب، بالظهور كمعارضين له.
حدود المماثلة؟
هل تمتد هذه المماثلة لتجعل من الإسلاميين ومن حكم معهم مثيلا لحركة حماس وفصائل المقاومة؟ إذا كان المرء راغبا عن الحقيقة مصرا على السفسطة فيمكنه رؤية ذلك، لكننا لا نذهب في ذلك الاتجاه، إنما أرى أنه مثلما تزعج المقاومة المسلحة في فلسطين الغرب ولقيطه الصهيوني، أجد أن الديمقراطية في الأقطار العربية تقوم بالدور نفسه؛ أي إزعاج الغرب وتهديد مصالحه. من هذه الزاوية نقول بثقة: الكفاح بوسائل الديمقراطية في الأقطار غير المحتلة احتلالا مباشرا، هو أخ شقيق للمقاومة المسلحة في آخر بلد محتل في العالم، هذه جبهة واحدة تختلف فيها الأسلحة وتتشابه فيها الخيانات الداخلية قبل العدوان الخارجي، والأدلة التي قد نجمعها تتجاوز حجم المقال.
إن بناء الديمقراطية العربية هي المعادل المنطقي لحرب تحرير وطني، وتختلف الأسلحة/ الوسائل بحسب الظرف القُطري، ومن لم يرها كذلك، وقع في التنسيق الأمني المقدس مع اختلاف طريقة التخابر. وليس في هذا أي مزايدة بالوطنية أو الثورية لأن النتيجة ظاهرة، لقد غُدرت الديمقراطية في تونس وفي مصر وفي ليبيا أيضا، مثلما نُحرت في الجزائر في عشرية الدم بفعل الصف الداخلي الذي رفض نتائج الصندوق الانتخابي ورحب بالانقلابات، وهو يعرف أن نتيجة الانقلابات الأولى هي خدمة قوى الهيمنة والاحتلال.
في تونس، ما زلنا نعيش مع صف سياسي يمجد حكم السيسي في مصر وحكم قيس سعيد، ويقدس جنرالات الجزائر ويواليهم على الجلوس مع الإسلاميين وتنظيم عمل سياسي ينتهي بتأسيس ديمقراطية قابلة للبقاء، رغم العدوان الغربي على كل تجارب من هذا القبيل، نعرفها ونعددها منذ عهد مصدق في إيران، مرورا بباتريس لوممبا في أفريقيا وسلفادور اللندي في تشيلي. يوشك المرء أن يصيح من العجب؛ إن اليسار العربي الذي يزعم حب اللندي في تشيلي، هو اليسار نفسه الذي يقدس البسطار العسكري في تونس ومصر. هذا اليسار هو قوة التنسيق الأمني المقدس ضد الديمقراطية، وهو الطرف الذي يستقبل دحلان وحفتر في تونس ويصغي إليهما.
نورد واقعة من قبيل إخراس جدل محتمل. سافرت مجموعة من اليسار التونسي زمن المجلس التأسيسي (2013) لتطلب من البرلمان الأوروبي مساعدتها على حل برلمان تونسي منتخب، هذه المجموعة ظهرت منذ يومين في تونس في بيان يطالب بالديمقراطية ويزعم معارضة الانقلاب. الوجوه نفسها، والأسماء نفسها، ورغبات السفارة الفرنسية نفسها التي عبر عنها مقال في مجلة جون أفريك التي تصدر من باريس. توالي هذه الصدف يجعلنا حاضنة اجتماعية للمقاومة الديمقراطية في تونس.
لا ديمقراطية مع أعداء الديمقراطية
منذ خمسين سنة يرجم اليسار التونسي الشارع السياسي والثقافي بشعار واحد لا يعمل بغيره: "لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية"، فقد نصب نفسه وكيلا على الديمقراطية يمنح منها ما يشاء لمن يشاء، ويحرم منها أعداءه الإسلاميين، فلما حل ظرف مناسب لبناء الديمقراطية، انكشف اليسار التونسي (والعربي) عن جهة تنسيق أمني.
وجب في هذه المرحلة وبعد أن انتهت تونس إلى انقلاب يحميه اليسار، رفع شعار أشد وضوحا لا يوزع كوبونات الديمقراطية على طريقة اليسار، بل يرفض العمل السياسي مع اليسار؛ لأنه عدو الديمقراطية وليثبت نفسه إن استطاع في معادلة جديدة، وهي المعادلة التي أسستها حماس فانتصرت بها على التنسيق الأمني قبل أن تثخن في عدوها. هذا هو الدرس، غربلة الصف والتقدم بثقة نحو عمل ديمقراطي مع ديمقراطيين وإن قلّوا، فإن انعدموا ولن ينعدموا، فإن أي محاولة للتقريب مع اليسار هي خيانة للديمقراطية، ومصيرها نراه الآن ونعيشه.
إن اللحظة التونسية الكارثية الحالية (التي ستتواصل طويلا) صنعها اليسار قبل الانقلاب، إنما المنقلب نهّاز فرص وجد فجوة فتسلل منها وتمسك بالكرسي، لكن العامود الذي يتركز عليه، هو اليسار المحيط به والكامن في مفاصل الأجهزة؛ يمنع
تطورها ويجير فعلها لصالح حربه الاستئصالية بالشعار إياه. كم عدده ليكون له هذا
الدور المؤثر اليسار؟ لا يعتمد عدده فهو لا يستعد لصندوق اقتراع أبدا، إنما يعتمد خطة التسلل داخل المفاصل الحساسة، فنجده في أهم مواقع القرار المؤثر، وخاصة في الإعلام والثقافة والأمن، وهي مفاصل لا يمكن تجاوز تأثيرها. وهو الحريص دوما على بث سردية يحفر بها العقول: الإسلاميون أعداء الدولة وكل من لم يشارك في السردية
والعمل بها يصير إسلاميا.
ما حظوظ من يقاطع اليسار ولا ينسق معه؟ هذا سؤال جدالي؛ لأن اليسار لا ينسق مع أحد، بل يخضع الناس لسرديته اليتيمة؛ الحرب على الإسلاميين التي جرّت حربا على الديمقراطية، فخسر الجميع إلا اليسار؛ لأنه لم يفقد مواقعه القديمة في السلطة، بل توسع نفوذه تحت حكم الانقلاب.
إن حظ من يقاطع اليسار هو حظ من يؤسس لديمقراطية غير استئصالية، سيبذل جهدا أكبر لأنه لن يقوم ضد مؤسسات القمع السلطوي فحسب، بل ضد قوى التنسيق الأمني، فهو على جبهتين والثمن هنا مرتفع، لكن النتيجة تكون طريقا سليمة نحو ديمقراطية قابلة للبقاء. لقد ذهبنا إلى حرب الديمقراطية بجنود خونة فكانت الانقلابات خبزا يوميا.
وإذا كان هناك درس يمكنه جَنيه من الانقلاب فهو هذا الدرس: لا ديمقراطية مع أعداء الديمقراطية ولتطل الطريق على الأجيال الصابرة، لقد تعرضت للغش بما يكفي لتستفيق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق