الأربعاء، 11 سبتمبر 2024

ماذا عن البَحِيرة والوصيلة والسّائبة والحامي عند ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟

 ماذا عن البَحِيرة والوصيلة والسّائبة والحامي عند ولادة رسول

 الله صلى الله عليه وسلّم؟


محمد خير موسى
مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب

في الحديث الذي يذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه رأى عمرو بن لحي الخزاعي يجرّ أمعاءه في جهنّم، مبينًا أنّه أول من أدخل الأوثان جزيرة العرب، بينّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كذلك أنّه أولّ من بَحرَ البحيرة، وسيّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي. 

فعن أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ الْخُزَاعِيّ: “يَا أَكْثَمُ رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خِنْدِفَ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ فَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلِ مِنْك بِهِ وَلَا بِك مِنْهُ. فَقَالَ أَكْثَمُ عَسَى أَنْ يَضُرّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ لَا، إنّك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ إنّهُ كَانَ أَوّلَ مَنْ غَيّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيّبَ السّائِبَةَ وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ وَحَمَى الْحَامِي”

ولقد ذكر ربنا تبارك وتعالى هذه المظاهر في كتابه العزيز إذ يقول في سورة المائدة: “مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ”

وإذا أردنا أن نستقصي تفاصيل هذه السلوكيّات فإنّ خير من يدلّنا على تفاصيلها علماء الصّحابة والتابعين، فها هو ابن عباس رضي الله عنهما يقول: “الْبَحِيرَةُ هِيَ النَّاقَةُ الَّتِي كَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ بَحَرُوا أُذُنَهَا، أَيْ: شَقُّوهَا وتركوا الحمل عليها ولم يركبوها، وَلَمْ يَجُزُّوا وَبَرَهَا وَلَمْ يَمْنَعُوهَا الْمَاءَ وَالْكَلَأَ، ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى خَامِسِ وَلَدِهَا فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا نَحَرُوهُ وَأَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى بَحَرُوا أُذُنَهَا، أَيْ: شَقُّوهَا وَتَرَكُوهَا، وَحُرِّمَ عَلَى النِّسَاءِ لَبَنُهَا وَمَنَافِعُهَا، وَكَانَتْ مَنَافِعُهَا خَاصَّةً لِلرِّجَالِ، فَإِذَا مَاتَتْ حَلَّتْ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَقِيلَ: كَانَتِ النَّاقَةُ إِذَا تَابَعَتِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِنَاثًا سُيِّبَتْ فَلَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرَهَا وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، فَمَا نَتَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّ أُذُنُهَا ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا في الإبل، فَلَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرَهَا وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا، فَهِيَ الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ”

 وينقل أهل التفسير بعض أسباب تسييب السائبة؛ فيقول أبو عبيدة كما يذكر البغوي في “معالم التنزيل”: “السَّائِبَةُ الْبَعِيرُ الَّذِي يُسَيَّبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كان إذا مرض أو غاب لَهُ قَرِيبٌ نَذَرَ فَقَالَ: إِنْ شَفَانِي اللَّهُ تَعَالَى أَوْ شُفِيَ مَرِيضِي أَوْ عَادَ غَائِبِي، فَنَاقَتِي هَذِهِ سَائِبَةٌ، ثُمَّ يُسَيِّبُهَا فَلَا تُحْبَسُ عَنْ رَعْيٍ وَلَا مَاءٍ وَلَا يَرْكَبُهَا أَحَدٌ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ البحيرة.

ثم يقول: “وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ: فَمِنَ الْغَنَمِ كَانَتِ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ نظروا فإن كَانَ السَّابِعُ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تَرَكُوهَا فِي الْغَنَمِ وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى اسْتَحْيَوُا الذَّكَرَ من أجل الأنثى، وقالوا: واصلت أَخَاهَا فَلَمْ يَذْبَحُوهُ، وَكَانَ لَبَنُ الْأُنْثَى حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنْ مات منهما شَيْءٌ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا، وَأَمَّا الْحَامُ: فَهُوَ الْفَحْلُ إِذَا رُكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ، وَيُقَالُ: إِذَا نَتَجَ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَةُ أَبْطُنٍ، قَالُوا: حُمِيَ ظَهْرُهُ فَلَا يُرْكَبُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كَلَأٍ وَلَا مَاءٍ، فَإِذَا مَاتَ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ”

وكذلك يقول سعيد بن المسيّب: ” الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَالْوَصِيلَةُ النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ وَالْحَامِ فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوهُ لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنْ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِيَ”

وكذلك يقول ابن الجوزي في كتابه “تلبيس إبليس” متحدثًا عن تلبيس إبليس على الجاهلية: “ومنها البحيرة وهي الناقة تلد خمسة أبطن فإن كان الخامس أنثى شقوا أذنها وحرمت على النساء، والسائبة من الأنعام كانوا يسيّبونها ولا يركبون لها ظهرًا ولا يحلبون لها لبنًا، والوصيلة الشّاة تلد سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرًا أو أنثى قالوا: وصلت أخاها فلا تذبح وتكون منافعها للرّجال دون النّساء، فإذا ماتت اشترك فيها الرجال والنّساء.

والحامي: الفحل ينتج من ظهره عشرة أبطن فيقولون: قد حمى ظهره فيسيّبونه لأصنامهم ولا يحمل عليه، ثم يقولون: إن الله عزّ وجل أمرنا بهذا، فذلك معنى قوله تعالى: “مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ” ثم الله عز وجل ردّ عليهم فيما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وفيما أحلوه بقولهم: خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا، قال الله تعالى: “قلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ ۖ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ” المعنى: إن كان الله تعالى حرّم الذّكرين فكلّ الذّكور حرام، وإن كان حرّم الأنثيين فكل الإناث حرام، وإن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فإنها تشتمل على الذكور والإناث فيكون كل جنين حرامًا”

إنّ الانحراف ينتج فلسفته الحامية لانحرافه، وإنّ الوثنيّة عندما تسرّبت من شقوق الوهن النفسي والهزيمة الحضاريّة كان لا بدّ من إحاطتها بسياج من السلوكيّات التي تُشعر النّاس بأهميّتها وقيمتها ورسوخها.

هذه السلوكيّات كلّها مع تفاصيلها ضربٌ من معاني صناعة السياج الحامي للأفكار المنحرفة، وهكذا هي كلّ الانحرافات الفكريّة تصنع تفاصيل سلوكيّة تظهر وكأنّها قوانين منزلة لتترسخ في عقول العامة ونفوس الجماهير، وتسلك للهيمنة على النفوس حاجات الملهوفين من المرضى والغائبين والمكروبين، وهذا يعطينا موجهًا مهمًا وهو أنّ شعور النّاس بوجود شعائر عمليّة لها نشبه القوانين الناظمة والفواعل المؤثرة يشعرهم بصواب الفكرة ويرسّخ انحرافها في نفوسهم. ولذا فإنّ توجيه الهدم إلى الفكرة المنحرفة وحدها قد يكون غير كافٍ في الإصلاح المتكامل؛ فلا بدّ من نقض السلوكيّات الشعائريّة المنحرفة أيضًا، وهذا ما انتهجه البيان الإلهيّ والنصّ القرآني في بيان تناقض هذه السلوكيّات بعد العمل على نقض مرجعيتها التي حاول المشركون ترسيخها بأنّها جاءت بناء على أوامر إلهيّة لخدمة شركائه من الأصنام التي غدت آلهة في وعيهم، وفجاء نقض الآليات التنفيذيّة بعد ذلك من خلال بيان تناقضها وبطلانها المنطقيّ الذي ينبغي أن يتوقف عنده العقل مليًّا.

إنّ امتطاء الأفكار المنحرفة صهوة السلوكيات التفصيليّة التي تدغدغ عواطف البسطاء لا سيما الملهوفين منهم من أصحاب الكربات والحاجات منهج شيطانيّ مستمرّ، وهذا يفرض على المصلحين التنبّه إلى ضرورة التعامل مع هذه السلوكيّات بردّها إلى مرجعياتها المنحرفة ابتداء وقطع صلتها بمرجعيّة الوحي، ثمّ التعامل مع السلوكيّات التفصيليّة بالنقض العقليّ ببيان عوارها وكشف بطلانها ودحض سلطانها الذي اكتسبته في لحظة استبداد العاطفة وغيبوبة العقل.

فما كان للأصنام والأوثان أن تنال قداستها العالية عند المشركين دون إحاطتها بهذه الشعائر الخادمة للوثنيّة، فكلّ وثنيّةٍ لها شعائرها، وكلّ وثنيّة تستبدّ بالعقول والقلوب وتهيمن على النفوس تجعل الواقع في أمسّ الحاجة إلى الولادة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق