كان أبو نواس يقول للخليفة الذي كان يمنع حرمة الدم المسلم، ويحمي ذمار الدولة، ويردع الظلم من أن يحيق برعيته:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه
لتخافك النطف التي لم تخلق
وما أخاف أهل الشرك إلا ليحمي منهم أهلَ الإيمان، وما بالغ أبو نواس فجعل النطف تخاف الخليفة إلا ليدلل على منعة الدولة وحمايتها أهلها إلى أبعد حدٍ ممكن.
فإذا نظرت اليوم في حالنا في بلادنا المنكوبة طولاً وعرضًا، وشرقًا وغربًا، رأيت أنه لا حماية لنا ولا أمن، تتخطفنا الضباع، وتتناهشنا الذئاب، وتُؤكل لحومنا، وتُشرب دماؤنا، وأهل الأمر فينا ينظرون ولا يتحركون. وإنهم كانوا كذلك أول الأمر، فلما جرى نهر الدم دون توقف أسَوا أول تدفقه، فقالوا بعض الكلام، ثم ألفوا المشهد فلم يعودوا يقولون شيئًا، ثم نظروا واشمأزوا، ثم لم يعودوا ينظرون ولا يشمئزون، ولا يهمسون ولا ينبسون؛ فواضيعة الدم والدين!
ثم إنه كان وطن، وكان تراب، وكان حي، وكان شارع، فخُطف الوطن، وحُرق التراب، وأُبيد الحي، ونُسف الشارع، وأين الناس من ذلك، الصبايا اليتَّم، الصغار الرضَّع، الشيوخ الركَّع، البهائم الرتَّع؟! عُجنت لحومهم بالردم، وشرب دماءهم التراب، فعادوا كما عاد، ترابًا بُدئ، وبه اختُتم، وإنهم يبدؤون ويعيدون ولكن من ضحايانا ويتامانا، وإنه لزمن الهوان، فيا رب غوثك!
ثم كان هذا الهول المُبير، كبر حتى زاد على أن تدركه الأبصار، أو تتقحمه العيون، أو يُقام في وجهه سد، أو يُمنع دونه مَدّ. ثم صرنا في قلبه، فما عدنا نعرف أأمواتٌ نحن أم أحياء؟! أموجودون أم معدمون؟! أراحلون أم ماكثون؟! صرنا لا ندري، أهذا الهول الذي ابتلعنا كلنا يذهب بنا إلى ضفة المجد أم العار؟ يأخذ بأيدينا إلى النصر أم الهزيمة؟! يسوقنا إلى الكرامة أم الهوان؟!
ثم رأيت وأنا في قلب هذا الهول ما لم يُرَ؛ عرفت أن الناس هناك انقسموا بشكلٍ واضحٍ إلى فريقين، فريقٍ في الجنة وفريقٍ في السعير، وكان الهول واحدًا، ولكنه ذو ضفتين، وعلمت أننا وأهل غزة فيه معًا، ولكننا نمتاز منهم لا إليهم.. فأما الهول الذي كنا في قلبه، فأخذنا إلى دمنٍ من الخراب بحيث لا تشم فيها إلا كل رائحةٍ منتنةٍ، وإنه لهول السكوت على ما يجري والرضا به. وأما الهول الذي هم فيه فأخذهم إلى رياضٍ فيحاء، وحدائق غناء بحيث تشم كل رائحةٍ طيبة، كأنها المسك أو العنبر، وإنه لهول الجهاد والمدافعة، وهول الثورة على الظلم والطغيان.
وإنّ كل ذي هولٍ إلى ردهته، وإلى رحبته، وما أشد شسوع البون بين هولٍ وهول، وبين موتٍ وموت، وبين ضفة وأخرى!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق