الثلاثاء، 5 مايو 2020

"مملكة الحجاز".. سيرة طمست في جزيرة العرب

"مملكة الحجاز".. 

سيرة طمست في جزيرة العرب


في يناير/ كانون الثاني عام 1926، ظهرت دولة جديدة سميت وقتذاك بـ"المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها" والتي أصبحت في بضع سنين "المملكة العربية السعودية"، يحكمها عبد العزيز بن سعود.
بيد أن هذه المملكة، لم تولد إلا على أنقاض مملكة سابقة، حملت اسم "مملكة الحجاز"، أو "مملكة الحجاز الهاشمية"، التي كان يحكمها شريف مكة، الحسين بن علي.

كان الملك عبد العزيز بن سعود أو "ابن سعود" كما يرد اسمه في وثائق الأرشيف البريطاني، يلقب بسلطان نجد قبل أن ينصب نفسه ملكًا على الحجاز ونجد، ويبسط سيطرته على جزيرة العرب في أقل من عقدين.
في الفيلم الوثائقي "مملكة الحجاز" من إخراج صهيب دولة، والذي بثه تلفزيون "العربي"، تفاصيل دقيقة لضياع هذه المملكة، بالدم والدمار، وبشطب سيرة التنوع الثقافي والمذهبي، وصفة "الحضر" التي بقيت لصيقة بالحجاز تمييزاً له عن باقي أراضي الجزيرة العربية.

لم يكن كل ذلك أن يتحقق إلا بدعم بريطانيا، التي تخلت عن الشريف حسين الذي لم يقبل نتائج الحرب العالمية الأولى، ومن ذلك ما اعتبره خيانة بريطانية لاتفاقات تقضي بإنشاء مملكة عربية في آسيا العربية، وكذا رفضه وعد بلفور الذي أُعطي لليهود كي يؤسسوا دولة على أرض فلسطين.
يورد الفيلم جملة من الوثائق، ويتحدث فيه مختصون في تاريخ المنطقة من عرب وبريطانيين، ويجمع المتحدثون على أن الدور البريطاني كان حاسماً لجهة دعم حاكم نجد عبد العزيز بن سعود، لإسقاط مملكة الحجاز، من خلال جيشه العقائدي المتعصب المسمى "إخوان من طاع الله"، الذي لا ينظر إلى دخول الحجاز إلا بوصفه جهاداً ضد الشرك.

وكان أشراف مكة يحكمون الحجاز الممتد من حدود اليمن جنوباً حتى حدود معان في الأردن شمالاً يتوارثون نسبهم إلى البيت النبوي كما يتوارثون رعاية الحرمين الشريفين على مدار أكثر من عشرة قرون.
في صحراء نجد، نشأت حركة "إخوان من أطاع الله" بقيادة إمام يافع يدعى عبدالعزيز بن سعود، لنشر ما تؤمن به بالسيف، جامعة بين دوافع الغزو البدوي للسلب والنهب، وفرض العقيدة بالقوة.

يتابع الفيلم على مدى ساعة وثلاث دقائق، المسار التاريخي لانتهاء مملكة الحجاز، منذ ارتفاع مكانة هذه المملكة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، عام 1914، إلى اندثارها بين عدو رابض في نجد، وحسابات القوتين العظميين: بريطانيا وفرنسا.
كان من الواضح أن الإمبراطورية العثمانية تلفظ آخر أنفاسها. ولدى وصول مبعوث بريطاني سري إلى الحجاز أثناء موسم الحج، دخل بثياب الإحرام حتى لا يكشفه الأتراك، ووصل إلى الشريف حسين محملاً برسالة من اللورد هربرت كتشنر المعتمد البريطاني في القاهرة، مفادها: هل ستقفون مع بريطانيا لعزل القوات العثمانية إذا ما انحازت إلى ألمانيا في الحرب؟
ثار الشريف حسين على الدولة العثمانية، واستقل الحجاز باسم "مملكة الحجاز الهاشمية"، بوصفها أول دولة عربية مستقلة في القرن العشرين، ونصب الشريف حسين ملكاً عليها.
لم يدم هذا الحلم أكثر من تسع سنوات قبل أن يتلاشى. وقد توسع حلم الشريف أكثر بأن يكون ملك العرب.
لم يرق الأمر لبريطانيا، كما أثار لقب ملك العرب حنق عبد العزيز بن سعود، في نجد، والذي رأى أن ملك العرب أكبر من الشريف.
كان هذا هو الفتيل الذي أشعل الصراع. ويتتبع الفيلم الدور البريطاني الهام في تحديد حليفها الأنجع، فوجدت في عبد العزيز بن سعود ورقة قوية، وفق ما قالته غيرترود بيل البريطانية المكلفة بمتابعة شبكة العملاء في الخليج، إذ ترى فيه زعيماً يقود جيشاً عقائدياً متعصباً قادراً على اكتساح أي خصم.
ولا يعود الدعم البريطاني لهذه الفترة، أي مطلع القرن العشرين وصولاً إلى ترسيم السعودية مملكة.
فهذا هو، سيمون روس فالنتين المختص في شؤون الشرق الأوسط يقول في الفيلم "لولا الدعم البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر لآل سعود والوهابيين، من أسلحة نارية وبيضاء ومال، لبقوا على هامش التاريخ الإسلامي".
وفقاً للوثائق التاريخية التي يفحصها الفيلم، فإن بريطانيا رأت في الشريف حسين شخصاً مزعجاً، بينما وبحسب جون فيليبي ضابط المخابرات الذي عرف باسم "عبد الله فيليبي، فإن عبد العزيز رجل عملي لا يكل ولا يمل".
وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وعرفت البلاد العربية وقائع مخيفة ما زالت تنزف من جرائها: سايكس بيكو، ووعد بلفور.
كان على الشريف حسين أن يقبل الرسالة الأخيرة التي حملها عام 1921 الضابط البريطاني توماس إدوارد لورنس المشهور بـ"لورنس العرب"، ومفادها التوقيع على معاهدة أنجلوهاشمية.
لم يوافق الشريف على ما اعتبره نكوصاً عن تعهدات سابقة، بعدم خروج سورية من المملكة العربية، ولا تسليم فلسطين لليهود. كل ذلك أصبح حبراً على ورق عقب اتفاق بريطانيا وفرنسا على اقتسام التركة العثمانية.
حتى مع ضعف أوراق الشريف حسين اندفع عام 1924 إلى إعلان نفسه خليفة للمسلمين، فقرر ابن سعود غزو الحجاز.
يفصل الفيلم في الاستيلاء التدريجي على مملكة الحجاز منذ أول معركة "واحات الخرمة"، ثم معركة "تربة"، التي هزم فيها الهاشميون شر هزيمة، وصولاً إلى قرية أم العمد شرق الأردن التي قتل "إخوان طاع الله" سكانها.
أما الدماء الغزيرة التي سالت لتمهد قيام الدولة السعودية، فلم يعرفها مكان أكثر من الطائف، العاصمة الصيفية للحجاز.
هوجمت المدينة بقيادة سلطان بن بجاد، فقتل الآلاف، حتى إن الصحافة البريطانية تحدثت عن قطع حناجر العشرات من النساء والأطفال، وقتل العشرات ممن لجأوا الى جامع ابن عباس، ونهبت المدينة بكاملها.
يفسر سلطان العبدلي الباحث والمؤرخ الحجازي هذه الدموية المفرطة بأن هؤلاء الإخوان من "البدو المتوحشين" ضللهم عبد العزيز باسم الدين، وأنهم كانوا يقتلون الحجازيين بوصفهم مشركين.
تلاشت أحلام الشريف حسين بن علي، وبعد طلب من حزب الحجاز الوطني وافق على التنازل عن العرش لصالح ابنه علي بن الحسين.
لكن كل ذلك لم يزد الأمور إلا سوءاً. لقد غزيت مكة، ودخلها عبد العزيز والإخوان، فكانت خالية من البشر الذين هربوا صوب مدينة جدة التي حوصرت لمدة عام، ثم حوصرت المدينة المنورة. وأخيراً خرج الشريف علي، على متن سفينة بريطانية نحو العراق.
إن أهم ما يمكن وصفه بعد غياب مملكة الحجاز، هو غياب حياة بأكملها، وليس استبدال واقع سياسي بآخر.
فقد حوربت كل المظاهر الثقافية التي كانت تسم الحجاز. حطمت في مكة قبور الصحابة والقباب، والمزارات.
ولأن لكل مأساة جانبها التهريجي، فإن تدويل شؤون الحرمين، الأمر الذي كلما طرح يصيب حكام السعودية الحاليين بالخوف، كان قد ابتدره الملك عبد العزيز بن سعود، باعتبار ذلك حقاً للعالم الإسلامي، لكنه نكث بوعده، وفق ما يشير سلطان العبدلي.
كما أعلن بن سعود أن الحجاز وديعة، ليس له فيها أي مطمع، وأن مجلساً حجازياً منتخباً هو من يقرر من يحكم، وهذا لم يتحقق إلى اليوم.
في عام 1926، وفي أول موسم حج تحت الراية السعودية، وقعت المذبحة الكبيرة في الكعبة، حين شوهد المحمل القادم من مصر وفيه كسوة الكعبة، الأمر الذي اعتبره متعصبو عبد العزيز بدعة وشركاً.
سال الدم على مرأى أعين القادمين من كل حدب وصوب إلى مكة قلب العالم الإسلامي، فمن فاتته مذبحة الطائف التي رأت فيها بريطانيا شأناً داخلياً، فإن مذبحة مكة قدمت صورة المملكة التي تريدها: سلطة واحدة معجونة بتحالف السيف وشريعته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق