الأربعاء، 10 يونيو 2020

الرابط بين فوكو ويوفال هراري

الرابط بين فوكو ويوفال هراري


مهنا الحبيل

نشرت صحيفة الغارديان البريطانية، في العشرين من إبريل/ نيسان الماضي، مقالاً للمؤرخ والمفكر "الإسرائيلي"، يوفال نوح هراري، يحمل عنواناً مركزياً، الموقف من الموت، يتقاطع كثيراً مع الفكرة التي تنتشر اليوم في العالم، عن نظرية يوفال لمستقبل البشرية، التي ربطها من خلال مؤلفه العاقل "تاريخ مختصر للجنس البشري". وكان اسم يوفال قد قفز بصورة واسعة، وطُبعت من كتبه ملايين النسخ، واستضيف في أكبر المؤسسات الإعلامية والثقافية، وجدولت له مواعيد مع زعماء عالميين، وهو أستاذ في جامعة القدس في فلسطين المحتلة.
 وهناك أسئلة على أقل تقدير تطرح عن الصعود السريع ليوفال، لماذا يصعد اسمه ونظرياته إلى قمة العالم الجديد اليوم؟
حسناً، دعونا نتعامل بحياد، أو حتى تغافل عن هذا التساؤل، ونطرح رأياً يعتبر كتاب يوفال، وما أعقبه من مؤلفات، حالة اكتشاف مميزة مستحقة، لنقد النظريات السابقة، وإعادة تأسيس بنية (علمية) لمفهوم تعاوني بين العالم الحديث، تُعالج فيه مخاطر العولمة التكنولوجية التي تهدّد البشرية في الثلاثية التي حدّدها يوفال، وأبرزها الاحتراب النووي، وتأثير التكنولوجيا البيولوجية في العالم.
ليست مهمة هذا المقال مطلقاً تقييم نظريات يوفال هراري، بل الوصول إلى مدخل زمني حديث جداً يمثله صعود الرجل، لفهم تاريخ تناسخ نظريات العلم الحديث ما بعد الحداثة، وخصوصا منذ عهد ميشيل فوكو، وما بعد سيادة نظريته،
"قراءة يوفال مشتبكة جداً مع منتج التراث الإسلامي ونظريات اللاهوت"
ولا سيما الحياة الجنسانية، وهي ما عناها وائل حلاق غالباً، في تعليقه على انقطاع رؤية ميشيل فوكو في نقد النمط الخطابي، حيث تحوّل إلى الحياة الجنسانية، وثلاثية التأثير المركزي في فكر الإنسانوية المعاصرة.
ويبدو للقارئ بوضوح أن قراءة يوفال مشتبكة جداً مع منتج التراث الإسلامي ونظريات اللاهوت، وهو يعود لها حتى في مقاله المذكور. وبالطبع، لم يبرز من يُعيد دراسة ما يُزعم أنها نظرية علمية حتمية لتاريخ الجنس البشري الذي بنى عليها يوفال إعادة فهم تأسيس العالم القديم، ثم طرح نظريته للخلاص. وهي أحد شواهد العُمْي الفلسفي الذي سيطر على المؤسسات الأكاديمية، من ناحية أحادية مصدر التفكير الجديد الذي أقصى معيار العقل المعرفي، وحدّدت له مساراً ملزماً حتى يُعترف بأي فلسفة، من دون أن يَتتبع البحث العلمي هذه الكليات المعلنة، عن تاريخ البشرية، وفهم الروح في الجسم البشري التي يُتمسك بإلغائها، في كل دورات الحداثة المادية الأخيرة.
تبدو لنا هنا، مسألة مهمة في المقالة، وهو الرابط بين سوسيولوجيا المؤلف والنظريات التي يُحرّرها، وأين هي دائرة القلق في أسطره، وهناك مقالة اعتنت بإعادة تفكيك موقف يوفال من القضية الفلسطينية، التي رأت أنه، على الرغم من نقده البطش الإسرائيلي، إلا أنه في الحقيقة يتماهى مع مشروعية الكيان والتبرير السلس الذي يحرص على تمريره، من لهم منصات فلسفة
"على الرغم من نقد يوفال البطش الإسرائيلي، إلا أنه في الحقيقة يتماهى مع مشروعية الكيان والتبرير السلس الذي يحرص على تمريره"
عالمية. حتى يبدو أكثر إنسانية، وهنا لن نجعل الموقف من إسرائيل معياراً كلياً في مسار أسئلة المقال، غير أننا نشير إلى صدمة إدوارد سعيد في مواقف سارتر وسيمون دي بوفوار وميشيل فوكو من الاحتلال الإسرائيلي التي اتجهت، في نهاية المطاف، إلى التبرير الفكري له. وفي حالة يوفال، تنقل الكاتبة الفلسطينية نسرين مغربي هذا النص عنه نفسه: اليسار الإسرائيلي يبالغ عندما يصوّر إسرائيل على أنها سيئة بوجه خاص. الاحتلال الإسرائيلي في المناطق (المحتلة عام 67) ليس شراً استثنائياً، ولا سابقة له في التاريخ. فهو عادي جداً (...). لقد وظف البشر طاقاتهم لزيادة رقعة مناطق نفوذهم على مدار التاريخ البشري، ومارسوا العنف على الغرباء. (..) وكانوا أكثر نجاعة وأشد قسوة من مجلس مستوطنات الضفة وغزة ومن فتيان التلال، في عزمهم على ضمّ دونم هنا وأخذ معزى هناك. وخلاصة القول أن دولة إسرائيل ليست دولة ذات خصوصية، لا لجهة السلب ولا لجهة الإيجاب".
أريد هنا أن أربط موقف يوفال مع أسلافه في تسلسل الفكر الحداثوي، سواء كان عن تخندق أيديولوجي فلسفي، أو خطأ في التصور، فيما يُصر وائل حلاق وإدوارد سعيد على أن إنشاء الدولة الإسرائيلية هو ضمن سياق حماية الرأسمالية الغربية على العالم، وأن مفهوم "الإبادة الإيجابية" للغرب الرأسمالي مارسته تل أبيب في فلسطين المحتلة. والإشارة هنا إلى تأثير سوسيولوجيا المؤلف على رؤاه، ولماذا تُعتمد نظرياته من دون البحث في هذا المسار، ففي مقال "الغارديان" هناك قلق بالغ يزدحم في مقال يوفال، فقد كان يتحدّث في نظرياته عن قهر البشر الموت، فيما يتناول هنا الموقف من الموت في سياق يسعى إلى أن يؤكد أن البشرية
"يدعي يوفال، من دون توثيق، أن بعض الممارسات والأمراض لا علاقة لها بممارسة المثلية، ويقحم هذا في مقالته في "ذا غارديان""
ستخترع لقاحاً لكورونا وتنتصر، وهذا الأمل العالمي الأخلاقي للوباء، كما هو دعم العلم التجريبي الإيجابي، لا خلاف حوله، لكن يوفال يطرحه في صورة الصراع مع فكرة الموت، وأن البشرية ستقضي على الموت. وتبرز هنا هويتان ليوفال الملحد الذي يرد على الواعظين، وهنا نفهم غضبه من تعصّب "الديانة" اليهودية، لكنه يستدعي الفكرة الإسلامية، وهو ما يبعث رسالة قلق لعمقها الفلسفي وللرد عليها. أما المسألة الأخرى، فهي دعواه غير الموثّقة، في أن بعض الممارسات والأمراض لا علاقة لها بممارسة المثلية، وإقحامه هذا الأمر، وخصوصاً عن الإيدز، في مقالته.
ما يراد الإشارة إليه هنا، ملاحظة للتأمل، أن الموقف الذاتي ومذاهبه السلوكية الشخصية تؤدي دوراً في تقديم فكره للمنصات العالمية، وترويج خلاصاتها النهائية، فيوفال هراري مثليٌّ مرتبط برجل، وميشيل فوكو مثليٌّ سادي توفي بالإيدز، جرّاء إسرافه في هذه الممارسات، فلماذا علينا أن نقبل أطروحاتهم التبريرية بالمطلق، في تأسيس تاريخ الجنس البشري والحياة الجنسية، من دون أن نتوقف قليلاً أمام حقائق العلم وتاريخ الوجود، وأثر الاضطراب والقلق الفردي على فكرة الفلسفة؟ سؤال مهم يقودنا مستقبلاً إلى تطبيق قاعدة رفض فوكو على كانط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق