الهنود الحمر .. التمرّد على متحف الإبادة
تضامن مع الضحايا من أطفال السكان الأصليين في تورونتو (24/6/2021/Getty)
مهنا الحبيل
لم يكد حديث رئيس الحكومة الكندية، جاستن ترودو، في التعبير عن غضبه لإحراق كنيستين كاثوليكيتين، إثر اكتشاف ميداني في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) لرفات مذابح الإبادة لأطفال السكان الأصليين، يتوارى عن الإعلام، إلا وتبين أن مقابر الضحايا أكثر مما اكتُشف، ولا تزال دلائل تلك المقابر تخرج على السطح، وهي رفات أطفال تأكد أن الكنائس الكاثوليكية القادمة مع الهجرة الأوروبية وحروبها المتوحشة نفذتها عليهم بصورة عقائدية ممنهجة، وكان ضحيتها الأطفال المختطفون من أهاليهم قسراً، أو الذين رحل آباؤهم في حروب الإبادة لقبائل الوطن القديم.
وكان برنامج مدارس هذه الكنائس يقدّم أنه منهج تأهيلي للشعب (المتخلف)، وهم سكان أميركا الشمالية في العهود القديمة. يلاحظ هنا قضية مهمة ذات علاقة بالبنية الفلسفية العميقة التي أسّست عليها الحداثة الغربية مشروع الدولة المعاصرة، وهو الموقف من الشعوب (المتخلفة)، أكانوا في رحلة اكتشاف العالم الجديد في أميركا، أو كانوا في العالم الجنوبي، بمن فيهم من خضع للتحول المسيحي الذي مارسه الغزو الغربي، وفرضته القوة الكولونيالية منذ العصور الوسطى إلى القرون الأخيرة. ويبرز لنا هنا دليل إضافي لاتفاق جناحي القوة الكولونيالية، التطرّف الديني الدموي المسيحي، والتشكلات الخطابية للجوهر الفلسفي للحداثة الغربية، تؤكد أن فكرة الإبادة التقدمية كانت قناعة ومشروعاً تنفيذيا لكلا المسارين.
الحقيقة المهمة أن "الهندي" تسمية تشير إلى أصول القومية المشتركة مع عالم الجنوب، والتقاليد الأقرب
إننا هنا لا نستدعي إرثاً تاريخياً منفصلاً عن واقع العالم، وإنما نتحدّث عن آثار هذه الفلسفة القائمة حتى اليوم في سلسلة الإيذاء المركزي للأسرة الإنسانية والأمم المحرومة. وهنا سؤال مهم: هل صدر تصحيح ونقد ونقض لأصول الفلسفة التي قامت عليها الإبادة اليوم، وأضحت تتصدر في النطاق الأكاديمي الغربي، وتفعّل في القانون الدستوري، وفي مشاريع التعويض الإنساني والتصحيح الفكري الأخلاقي لرحلة أميركا الشمالية؟
في ملف الهنود الحمر في كندا، وهذه التسمية على الرغم من أن سبب طمرها يُبرّر بمسمى السكان الأصليين، إلا أن الحقيقة المهمة هنا أن ذلك الهندي تسمية تشير إلى أصول القومية المشتركة مع عالم الجنوب، والتقاليد الأقرب، بل حتى المفاهيم التي وردت في خطبة سياتل دواميش، زعيم القبيلة، بعد استسلام رجاله في القوة المقاومة الأبرز لقبائل الهنود الحمر، فخطبته تتفق مع فلسفة الجنوب الهندي اللاتيني، والتي تعكس إيمانهم بعدالة الروح العظمى التي كان يشير إليها سياتل، وهو إله الهنود الحمر والبيض غير المنحاز، بينما إله الغزاة الكاثوليك ليس إلهاً منصفاً للمستضعفين الحمر. .. هكذا كان ينقض سياتل فكر الغزاة الأوائل.
كانت كندا تتعامل مع تاريخ الإبادة بروح الاعتذار العام، والذي يعتبر موقعها في تاريخ الجغرافيا السياسية أقل مسؤوليةً من الولايات المتحدة
وبعد استسلام نخبة فرسان القدم الكبيرة التي صمدت في كفاح قبيلة دواميش، المدافعة عن أرضها، ذبح المستوطنون المسيحيون، تلك الآلاف من الفرسان، على الرغم من تأمينهم في اتفاق الاستسلام. وتؤكد مصادر الكونغرس الأميركي، وتقرير له، فضلاً عن أرقام الباحثين المستقلين، أن عدد من أبيد من نسل الرجل الأحمر بعد ذلك يقدر بمئات الآلاف.
حسناً.. فلننتقل اليوم إلى زمننا المعاصر، فعدم إعلان موقفٍ يقوم على اعتذار سياسي دستوري وتصحيح وإدانة لفكرة الإبادة، لا يزال قائماً في أميركا الشمالية، وحتى صعود هذه القضية في الذاكرة العالمية، وفي متاحف الأميركيين الشماليين في الولايات المتحدة وفي كندا، إلا أنها لم تتجاوز مطلقا تلك الذاكرة المصحوبة بإبداء بعض الأسف الموسمي.
سبق هذه الاكتشافات تاريخ ممنهج يستهدف السكان الأصليين في كندا. وكانت كندا تتعامل مع تاريخ الإبادة بروح الاعتذار العام، والذي يعتبر موقعها في تاريخ الجغرافيا السياسية أقل مسؤوليةً من الولايات المتحدة، وخصوصا أن خطاب الاعتذار كان أشجع من واشنطن، غير أن المسؤولية التاريخية واحدة، وأن عمليات المطاردة والإبادة، كانت تجري بحسب خريطة وجود قبائل أهل البلاد، وإن كان يُعتقد أن التوحش الكندي كان أقل، في حين كشفت الإبادة للمدارس الكاثوليكية عن الروح والوسائط الممنهجة نفسيهما.
خسارة السكان الأصليين المعركة هي خسارة لمفهوم العدالة والمساواة الحقيقية التي تقوم على كرامة الروح، لا التوحش المادي لكل مواطني كندا
وحتى اليوم تعيش مناطق الهنود الحمر في تهميش ممنهج وتحييد التطوير المدني عنهم، ويُعاد توظيفه لحصار المجتمع الأحمر، كما يسميه سياتل الزعيم الأخير لهم، وتنتشر في مناطقهم المخدّرات والاحتقانات الاجتماعية، بسبب هذه السياسات القديمة المتوارثة. ويُكتفى ببعض التكريمات صورة تراثية لكندا الجديدة، بدلاً من طرح مشروع تأهيل وحقوق وإدارة تنفيذية مدعومة، تعطى مساحة رئيسية للقرار في يد أبناء تلك القبائل. بل هناك حالات تعقيم عن النسل رُصدت خلال السنوات الماضية، فالأزمة هنا ليست قصوراً إدارياً، ولا عجزا عن حل رئيسي أو تحسيني، ولكنه في المركز الأساسي نفسه للمشروع السياسي والفلسفي الذي نُفّذ على ذلك الشعب الذي مثلته، وعاشت في أرضه، قبائل الهنود الحمر.
والفكرة هنا أن وسائط الإبادة فيما تبقى من نسل تلك القبائل تجرى عليها ثلاث حروب صامتة:
الأولى الخنق الاقتصادي والسياسي.
والثانية مشروع التأهيل استبدل بمنهجية ثقافية تنزع أي قيم أخلاقية، أو إيمان بالروح المختلفة لتاريخ الرجل الأحمر، يحولها إلى مقاومة سياسية وفكرية.
والثالثة وضع التاريخ في متحف مناسبات فلكلورية، كلما خرج منه أُعيد له.
الإبادة الثقافية نفسها تُمارسها اليوم ضد المسلمين الدولة العميقة في كندا، بالمسارين نفسيهما، التقدم الإبادي والروح الكنسية الخاصة باليمين المتطرّف وقوميته الغربية المهاجرة.
وهنا نفهم الغضب الأخير، فعبارات ترودو، وحتى موقفه الشخصي، لم يُغيّر من معادلة الحرب الممنهجة ضد السكان الأصليين، ولا من جرائم الإسلاموفوبيا ضد المسلمين.
وفي الحالة الإسلامية، تنفذ فكرة المدارس التأهيلية للكنائس الكاثوليكية عبر نشر المثلية القهرية والفردية المادية في الهجوم التعليمي والإعلامي على قيم الأسرة والطفولة، ووضع الأقلية المسلمة تحت الضغط.
خسارة السكان الأصليين المعركة هي خسارة لمفهوم العدالة والمساواة الحقيقية التي تقوم على كرامة الروح، لا التوحش المادي لكل مواطني كندا، معركة تاريخية لم يبدأ فيها مسلمو كندا مسؤوليتهم في إسناد مبادئ الرجل الأحمر الأخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق