الثلاثاء، 2 نوفمبر 2021

امرأة فرعون.. نموذجُ المرأة إذ تمتلكُ الإرادة وتقرّرُ التّغيير

 امرأة فرعون.. 

نموذجُ المرأة إذ تمتلكُ الإرادة وتقرّرُ التّغيير


محمد خير موسى

ضرب الله تعالى النّماذج للشّخصيّات في القرآن الكريم لتكون نماذج ملهمةً للمؤمنين، أو دروسًا لهم في الإيمان وقوانين الحياة والسّلوك الاجتماعيّ، ومن هذه النّماذج التي ضربها القرآن الكريم “امرأة فرعون”.

 المرأة التي تُحدث تغييرًا ناعمًا في بيئة الاستبداد المنزليّ والمجتمعيّ

ذُكرت امرأة فرعون في القرآن الكريم في موضعين اثنين؛ الأوّل في سورة القصص عند الحديث عن الطّفل موسى عليه الصّلاة والسّلام؛ الذي وُلد في بيئة الطّغيان والاستبداد التي أصدرَ فيها فرعون قرارًا بقتل الأطفال في صورة بالغة القبح من العلوّ والإفساد في الأرض.

قال تعالى: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ” القصص: 4

يُلهم الله تعالى أمّ الطّفل الوليد أن ترضعه ثمّ تلقيه في اليمّ لتسوقه يدُ القدرة الإلهيّة إلى تحت شرفات قصر فرعون المطلّ على اليمّ، فيلتقطه الجند وحين يغدو بين أيدي فرعون ومستشاره هامان وجنودهما، ويكون المصير الذي ينتظره هو مصير بقيّة الأطفال الذين ذاقوا الذّبح على أيدي هذه الطّغمة المجرمة؛ هنا تتدخّل امرأة فرعون وتعلن عن موقفٍ يخالفُ القرار الفرعونيّ؛ تتدخّل لإحياء الطّفل الرّضيع البريء فيما يعدّ مواجهةً ناعمةً لفرعون الزّوج والحاكم وسياسته في المنزل وفي الدّولة.

قال تعالى: “وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ” القصص: 9

من بديع البيان الإلهيّ أنّه عبّر عنها بوصفها “امرأة فرعون” فلم يذكر اسمها فليس المهمّ هنا اسمها بل المهمّ هو نموذجها، والمهمّ في هذا النّموذج أنّها زوجة الطّاغية المستبدّ، والمجرم السفّاح، والبشر المتألّه الذي قال للنّاس: أنا ربّكم الأعلى.

فالتعبير عن وصفها بأنّها “امرأة فرعون” هو تعبيرٌ مقصودٌ للفت نظر السّامع إلى البيئة الاستبداديّة التي تعلن فيه هذه المرأة عن موقفها، وتفصح فيه عن رأيها، فرأيها في بيئة عاديّة فيها هامشٌ من الحريّة هو رأي عاديّ لا جديد فيه ولا أهميّة له، ولكن أن يصدر هذا الرّأي والموقف عن “امرأة فرعون” فهنا تكمن الإرادة الكبيرة، والعزيمة الفذّة، والإصرار الفريد.

تقفُ أمام فرعون وتخاطبه بكلّ هدوء معلّلة طلبها اللّاحق: “قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ” فالموقف يتطلّب التغيير النّاعم لا المواجهة المفصليّة ابتداءً، وهذا من معاني الإرادة في التغيير، فإرادة التّغيير لا تقتضي المجابهة المفصليّة من المرأة لزوجِها في كلّ ما تريدُ فعله، بل إنّ أولى خطوات التّغيير هو التّغيير الهادئ النّاعم القائم على إبداء العلّة وتفسير الأسباب بهدوء.

ثمّ تلتفتُ امرأة فرعون إليهم جميعًا؛ فرعون وهامان والجنود بطلبٍ واضحٍ لا لبس فيه: “لا تَقْتُلُوهُ” فهذا طلبٌ في تلكم البيئة الاستبداديّة يعبّرُ أنّ هذه المرأة على الرّغم من أنّها كانت زوجة أعتى الخلق وأشدّهم إجرامًا إلّا أنّها امتلكت إرادة التغيير.

وتمضي في تعليل طلبها، واستمالة زوجها فرعون على وفق المنهج النّاعم في التغيير فتقول: “عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا” ويتحقّق لها المراد فلا تضطرّ للدّخول في المواجهة المفصليّة، وهكذا ترسم امرأة فرعون نموذج التّغيير النّاعم عندما تمتلك الإرادة، فلا يأس من زوجٍ رعديد، ولا خوف من زوجٍ متجبّر، ولا إحجام بسبب زوجٍ طاغية، ولا لواذَ بالصّمت بسبب زوجٍ فرعون.

 المفاصلة بين الحقّ والباطل، والتّضحية في سبيل الحقّ

كبر موسى عليه الصّلاة والسّلام، وحدثت المواجهة بينه وبين فرعون، وكان يوم الزّينة حين حدثت المناظرة ضحىً بين الحقّ الأبلج والسّحر الكاذب، وألقى السّحرة “فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى”، وعندما ألقى موسى عليه الصّلاة والسلام عصاه فلقفت ما صنعوا وألقي السحرة سجّدًا؛ استشاط فرعون غضبًا، و” قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى”، لكنّ السّحرة أعلنوا بكلّ وضوحٍ في موقف مفاصلة بين الحقّ والباطل قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا”.

لم يكن يعلم فرعون أنّ تأثير هذه الحادثة سيصل إلى قلب قصره؛ فتؤمن امرأته بالحقّ وتكفر به وبألوهيّته الزّائفة وتنبذ ربوبيّته الخُلّبيّة.

تعلنُ امرأة فرعون إيمانها بموسى عليه الصّلاة والسّلام، فتلقى من صنوف العذاب الفرعونيّ ما لا تطيقه الجبال، وإنّ إقدام امرأة فرعون على الإيمان بالله تعالى والكفر بفرعون هو بحدّ ذاته تعبيرٌ عن إرادة صلبة، وقوّة نفسيّة هائلة في مواجهة ضغوط الطّغيان والمغريات والمجتمع من أجل امتثال الحقّ وفعل الواجب.

وبموقفها هذا استحقّت أن تكون مثلًا يضربه الله تعالى للمؤمنين؛ ونموذجًا يقدّمه البيان الإلهيّ للمرأة التي تعلن عن موقفها وتعبّر عن إرادتها وتضحّي من أجل قناعتها.

يقول الله تعالى: “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” التّحريم: 11

وهكذا هي المرأة التي يريدها القرآن الكريم عند المفاصلة بين الحقّ والباطل، لا تهاب الطّاغية، ولا ترهب المستبدّ، ولا تخضع للباطل ولو كان أقرب النّاس إليها.

يقول سيّد قطب في الظّلال: “وهي امرأةٌ واحدةٌ في مملكة عريضةٍ قويّة، وهذا فضلٌ آخر عظيم، فالمرأة أشدّ شعورًا وحساسيّة بوطأة المجتمع وتصوّراته، ولكن هذه المرأة وحدها في وسط ضغط المجتمع، وضغط القصر، وضغط الملك، وضغط الحاشية، والمقام الملوكي، في وسط هذا كلّه رفعت رأسها إلى السّماء وحدها في خضمّ هذا الكفر الطّاغي!

وهي نموذجٌ عالٍ في التّجرد لله من كلّ هذه المؤثّرات وكلّ هذه الأواصر، وكلّ هذه المعوقات، وكلّ هذه الهواتف، ومن ثَم استحقّت هذه الإشارة في كتاب الله الخالد الذي تتردّد كلماته في جنبات الكون وهي تتنزّل من الملأ الأعلى” ا.ه

وفي الآية ملمح مهمّ هو أنّ امرأة فرعون لم تطلب من الله تعالى قصرًا بل بيتًا، وشتّان بين القصر والبيت من حيثُ الرّفاه والترف والسّعة، ولكنّها مع ذلك لم تطلب من الله تعالى قصرًا بل بيتًا، في إشارةٍ إلى أنّ المرأة مستعدّة للتّخلي عن القصر المنيف إن كان في صحبة طاغية متجبّر مستبدّ، فالقصر مع الرّجل العتلّ الزّنيم يغدو خانقًا أضيق من خرم الإبرة، والبيت مع الجوار الجميل يغدو فسيحًا رائقًا، فلذلك لم تهتمّ امرأة فرعون بالبناء بل بالجوار فقالت: “رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا” فاهتمّت بالعنديّة التي هي عنديّة القرب والكرامة، ولم تشغلها ماهيّة البنيان.

وهكذا يقدّم البيان القرآنيّ نموذج امرأة فرعون؛ المرأة التي لا تهاب بيئة الاستبداد المنزليّ والسياسيّ والاجتماعيّ وتسعى لتغييرها بطريقة ناعمة ابتداءً مع وضوحٍ في الموقف وإرادة عاليةٍ، حتّى إذا وصل الأمر إلى المفاصلة بين الحقّ والباطل أعلنت بكلّ وضوحٍ موقفها؛ بإرادةٍ هيّابةٍ تتقاصر أمامها همم الخلق رجالًا ونساءً، همّها ألّا تتدنّس بظلم الظالمين، وأن تنجو من بطش الباطشين، ولسانها يلهج: “وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق