الأربعاء، 15 يونيو 2022

قراءة في كتاب: العبودية المختارة

قراءة في كتاب: العبودية المختارة


 اسم الكتاب: العبودية المختارة، مرافعة قوية ضد الطغيان.

اسم المؤلف: إيتان دو لا بويسي.

ترجمة: صالح الأشمر.

تاريخ النشر: 2016.

نبذة مختصرة عن كتاب العبودية المختارة:

يتحدث الكتاب عن العديد من الخيارات الخاصة بالعبودية، حيث يتطرق إلى صرخة إيتان دي لابوسيه قبل خمسة قرون التي قال فيها حتى غدت الحرية تبدو اليوم وكأنها شيء لا يمت الي الطبيعة، وهي صرخة لا زالت تتردد في أرجاء مختلفة من المعمورة، فالحرية تلك التي يبحث عنها الانسان لا زالت متنازل عنها في مكان، ومزيفة في مكان آخر، ولا زال قوله عن الحيوان لا يتنازل عن حريته إلا بعد دفاع ضروس، وكذلك عن الانسان يفعل ذلك بسبب الحاجة أو غياب الوعي باقياً، فما أشبه اليوم بالبارحة، ومن خلال هذا الكتاب يمكن أن يتم تقديم العديد من الخيارات التي يستنار بها في الطريق للبحث عن الحرية.

محتويات كتاب العبودية المختارة:

يحتوي الكتاب على موضوع العبودية والتي تكون بشكل اختياري بدون الحاجة إلى البحث عن خيارات أخرى للبحث عنها، كما يتم عرض قصص عن العبودية وأمثلة من التاريخ عليها، إنّ الحاكم الطاغي، كما يرى لا بويسي، ليس سيد نفسه، بل سجين طغيانه ولا يستطيع التحرر من سجنه، فلا يمكن أن يغير سلوكه، ولا يمكن للحاكم العاقل الحر استعباد شعبه، إلا إذا كان يعيش حالة الاستعباد ذاته، فهو شخص غير طبيعي في خوف دائم من شعبه يلجأ إلى الترهيب والعنف لقمع الاحتجاجات والتمردات، ويسعى إلى تقوية سلطته بالقوة والحيل، يطرح هذا العمل مسألة شرعية الحكّام الذي يسميهم الكاتب طغاة مهما كانت طريقة وصولهم الى السلطة، سواء بالقوة أو الوراثة أو الانتخاب، ومما يقوله لا بويسي في الكتاب: “إننا لا نولد أحرارًا وحسب، بل نحن أيضًا مفطورون على محبة الذود عن الحريّة، دليل ذلك إننا نندهش إذ نسمع قصص الشجاعة التي تملأ بها الحرية قلوب المدافعين عنها، أما ما يقع في كل بلد لكل الناس كل يوم، أن يقهر واحد الألوف المؤلفة ويحرمها من حريتها، فمن يصدقه لو وقف عند سماعه من دون معاينته والكذب والإعلام الفاسد، والمهرجانات المنحطة والحفلات الشعبية السخيفة، لتخدير الناس وتنويمهم، وكذلك من خلال عدة مواضيع أخرى من خلال هذا الكتاب المميز والرائع والذي يحتوي على كافة المواضيع الرائعة بشكل كامل من خلال صفحات الكتاب وما يعرض فيها من مواضيع متنوعة بشكل كبير ورائع.

نبذة مختصرة عن مؤلف كتاب العبودية المختارة:

مؤلف الكتاب هو الدكتور إتين دي لابويسيه، وهو كاتب وقاضي فرنسي وموجد النظرية الفوضوية، وكذلك هو مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، وقد ذكر بأن الدكتور لابويسيه من أعظم الأصدقاء وله صلات وثيقة بالعديد من الكتاب من خلال العديد ن المقالات والتي تكون بشكل بارز مثل ميشيل دي مونتين، وتعتبر واحدة من أبرز الصداقات في التاريخ، ومن أكثرها شهرة بشكل واسع على نطاق العالم أجمع ومن خلال الكتاب ومحتوياته الرائعة والتي يتميز بها الكتاب من خلال ما يميزه عن غيره من الكتب الأخرى، وقد تم تكليفهم بأنهم من الطبقة الأرستقراطية بإدارة أعمالها، لانصراف هذه الطبقة إلى البقاء في خدمة ملوك فرنسا.

المفكر الفرنسي اتييان دولابواسييه Étienne de La Boétie يقول في كتابه (العبودية الإختيارية): "عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل، تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتوائم مع الاستبداد ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه (المواطن المستقر)"

المواطن المستقر يعيش في عالم خاص له وتنحصر اهتماماته في ثلاثة اشياء:

1/ الدين

2/ لقمة العيش

3/ كرة القدم

1/ الدين

فالدين عند المواطن المستقر لا علاقة له بالحق والعدل، وإنما هو مجرد أداء للطقوس واستيفاءً للشكل لا ينصرف غالباً للسلوك.

فالذين يمارسون الكذب والنفاق والرشوة بلا حرج يحسّون بالذنب فقط إذا فاتتهم إحدى الصلوات. وهو لا يدافع عن دينه إلا إذا تأكد أنه لن يصيبه أي تهديد أو أذى.

2/ العيش 

هو الركن الثاني لحياة المواطن المستقر، فهو لا يعبأ إطلاقاً بحقوقه السياسية لكنه يعمل فقط من أجل تربية أطفاله.

3/كرة القدم..

المواطن المستقر يجد في كرة القدم تعويضاً له عن أشياء يحرم منها في حياته اليومية. كرة القدم تنسيه همومه وتحقق له العدالة التي حرم منها لأنها خلال 90 دقيقة تخضع لقواعد واضحة عادلة تطبق على الجميع.

المواطن المستقر هو العقبة و العائق الحقيقي لحدوث التغيير.

قراءة فادي كحلوس

الكتاب الذي بين أيدينا، ماهو إلا مقالة طويلة كتبها “إيتان دو لا بويسي” عام 1576م. وهي محاولة من الكاتب في تقصي”أسباب خضوع الناس لحكم شخص واحد، لا يملك من القوة إلا ما أعطوه”، ويرجّح معظم الباحثين: أن الأسباب التي قادت “إيتان” إلى كتابه هذا، تعود إلى ما شهده عصره من اضطهاد بسبب الاختلاف الديني، وإلى المآسي التي وقعت في أثناء الحرب الأهلية الضارية، بين البروتستانت والكاثوليك، إضافة إلى الانتفاضات التي قامت ضد التعسف الضريبي في بعض المقاطعات الفرنسية المحرومة، والقمع الدموي الذي مارسته القوات الملكية لفرض النظام.

حقيقةً، لا يختلف مضمون ما كتبه “إيتان دو لا بويسي” عن جوهر ما كُتب في “التوتاليتارية”: من توصيفات، ومن أسباب، ومن نتائج، ومن جذور وثمار. وحين نقرأ بعض الأفكار والعبارات في هذا الكتاب، نحسب أنفسنا نطالع كتاب “الكواكبي”، بدءًا من تشخيصه لمرض الاستبداد وطبائعه، وانتهاءً بالدواء الذي اجترحه لمناهضة الاستعباد؛ ومن هنا تأتي راهنية ما جاء في الكتاب، مع اختلافه زمانًا ومكانًا عن حالنا اليوم، إلا أن ركائز الاستبداد والمستبدين والمستبَد بهم هي ذاتها. كما هي ذاتها الأسباب والنتائج والجذور والثمار.

“العبودية المُختارة”، هي: مرافعة ضد الطغيان مطلقًا، وضده براهنيته أيضًا، وهي تطرح مسألة شرعية الحكام الذين يسميهم الكاتب “أسيادًا” أو “طغاة”، مهما كانت ظروف وصولهم إلى السلطة، سواء أكانت “بالقوة، أم بالوراثة، أم بالانتخاب”. وهو يقول: العادة أكثر من الخوف، هي التي تفسّر استمرار الشعب المستعبَد في احتمال وطأة الاستعباد، ثم يأتي الدين والخرافة كعاملين من عوامل الخضوع، إلا أنهما لا ينطبقان إلا على الجهلة من العوام.

وحول “سر كل طغيان” يقول الكاتب: يكمن في إشراك فئة قليلة من المستعبَدين في اضطهاد بقيتهم، إنهم هؤلاء المتملقون المقربون إلى الطاغية الذين يختارون العبودية طواعيةً، بينما يكون الشعب مُكرهًا عليها.

يؤكد الكاتب- في محطات عديدة من هذا الكتاب- على أن “موافقة المُسترقّين لا قوة الطاغية: هي التي تؤسس الطغيان. وإن قبول الشعوب باسترقاقها المتأتي من رغبتها، ومن أنانيتها، ومن طمعها: هو الذي يتيح لواحد، تعضده شبكة رقيق ذات تسلسل هرمي ومتضامنة، أن يوطد سلطان برضا الجميع”.

كما في كل ما يتعلق بموضوع الطغيان والعبودية وتمكينهما، فإن الكاتب يشير بأصابع اتهاماته إلى الجمهور، وليس إلى الطاغية، كقوله: كل ما أريده هو أن أفهم كيف أمكن للكثير من الناس، والبلدات والمدن، أن تتحمل وطأة طاغية واحد، لا يملك من القوة إلا ما أعطوه، ولا قدرة على أذيتهم إلا بقدر ما أرادوا أن يتحملوا منه، ولا يستطيع أن يوقع بهم مكروهًا، إلا لأنهم يفضلون أن يعانوا منه الأمرّين على أن يعارضوه. ويضيف: ثم إن هذا الطاغية ما من حاجة إلى محاربته وهزيمته؛ فهو مهزوم من تلقاء ذاته، إن لم ترض البلاد باستعباده لها، كما لا يتعيّن انتزاع شيئًا منه، بل يكفي الامتناع من إعطائه أي شيء، وما من داع لأن تجهد البلاد نفسها لتفعل شيئًا لمصلحتها، شريطة أن لا تفعل شيئًا ضد مصلحتها. ليخلص الكاتب إلى توكيد الفكرة ذاتها، فيقول: إذًا، الشعوب هي التي تُسلس القياد لمضطهدها؛ لأنها لو كفّت عن خدمته؛ لضمنت خلاصها. إن الشعب هو الذي يَسترِق نفسه بنفسه، وهو الذي يذبح نفسه بيده، إذ لما كان يملك الخيار بين أن يكون عبدًا أو أن يكون حرًا، فقد تخلى عن حريته، ووضع القيد في عنقه.

وفي وصف طبيعة الطغاة والاستبداد يورد الكاتب العديد من التوصيفات، منها: كما أن نار شرارة صغيرة تصبح نارًا كبيرة، وكلما ألقينا فيها الحطب ازدادت اشتعالًا؛ كذلك الطغاة: كلما نهبوا ازدادوا طمعًا وعاثوا فسادًا وتخريبًا. ويخاطب الكاتب بعدها “الشعوب البائسة والأمم العنيدة في تشبثها بما يضرها والعمياء عمّا فيه خير لها” فيقول: إنكم تَدَعون أجمل مواردكم وأوضحها تسلب أمام أعينكم (…) وكل هذا الضرر، وكل هذا البؤس، وكل هذا الخراب، لا يأتيكم من قبل أعدائكم، بل من ذلك العدو الذي تعظمونه أيما تعظيم، ولا تتورعون عن تعريض أنفسكم للموت من أجل سمّوه.

ويرى الكاتب أن الطغاة ثلاثة أصناف: صنف يحكم لأن الشعب قد انتخبه، وصنف انتزع المُلك بقوة السلاح، وصنف جاءه المُلك بالوراثة. وعن الصنف الأخير الذي يعتبره الكاتب الصنف الأسوأ، يقول: الذين ولدوا ملوكًا ليسوا أفضل من هؤلاء بوجه عام، لكنهم وقد نشؤوا في حضن الطغيان، إنما يرضعون مع الحليب طبيعة الطاغية، ويعاملون الشعوب كما لو أنها عبيد لهم بالوراثة، ويتصرفون بالمملكة كما لو أنها ميراثهم. ويضيف: هذا الشيء المتمثل في ارتكابهم كل أصناف الرذائل متفوقين في ذلك على الطغاة الآخرين، ولا سيّما في قسوتهم.

كما يرى الكاتب أن الناس جميعًا، مادام لديهم شيء من الإنسان، لا يستسلمون للعبودية على وجه التحقيق إلا في حالة من اثنتين: إما أن يكونوا مُكرهين، وإما مخدوعين.

وعن طغاة اليوم -في عصر الكاتب- يقول: ليسوا بأحسن صنعًا، فهؤلاء لا يقترفون شرًا إلا مهّدوا له ببعض العبارات الجميلة عن المصلحة العامة ورفاهية الجماعة. حتى الطغاة أنفسهم يعجبون من قدرة الناس على احتمال رجل يسيء إليهم.

وحول توظيف “الدين” في خدمة الاستبداد، يقول الكاتب: هم يحرصون على أن يضعوا الدين أمامهم؛ ليحتموا به، ولو استطاعوا لاقتبسوا شيئًا من الألوهية لإسناد حياتهم الشريرة.

ثم يختم الكاتب كتابه بقوله: لنتعلم لمرة إذًا، أن نُحسن التصرف، ولنرفع أعيننا نحو السماء صونًا لكرامتنا، أو حبًا بالفضيلة ذاتها.



قراءة رمزي بوودن

أرذل ضروب العبودية.. عبودية نختارها بأنفسنا

– إبراهيم الكوني

     

منذ بدايات القرن السادس عشر كانت فرنسا دولة ضائعة ذات نظام ملكي فاشل تناوب عليها مجموعة ملوك من أفراد العائلة المقدسة، الذين واصلوا حينها -على غرار أسلافهم- المضي في سياسة السلطة الطاغية والاستبداد العظيم جسدت له منظومة الحكم الملكية داخليا وخارجيا، واندلعت الحروب الفرنسية ضد إيطاليا وسويسرا ثم اصطدمت بالإمبراطورية الرومانية المقدسة فازدادت المعارك وقتلت الأرواح وأسفكت الدماء في وقتٍ كانت الأوضاع الداخلية للشعب الفرنسي مزرية إبان الفقر والجهل والاعتقالات والتضييق، فذاق الفرنسيون العذاب حتى تخدّروا من جور النظام الملكي الذي كان يُطرِب الفرنسيين بخطبه الرنّانة ضد القوى الخارجية بينما لم يكن المواطن الفرنسي الجائع الخائف يفهم ما يقوله حكامه، فالذئب الذي يأكل لحم الفرنسيين موجود بالداخل لكن الملك يخبرهم أنه قادم من وراء الحدود!

   

حينذاك كانت الصراعات الدينية قد بدأت تظهر في المجتمع الفرنسي بين الكاثوليك والبروتستانت، هذا الصراع الذي سَيَّسَته السلطة الحاكمة آنذاك لمصلحتها فوقفت مع الكاثوليكيين وعملت على بث الفتنة الدينية وشحن الجماهير لينشغل الفرنسيون بالمعارك الدينية التافهة في حين كان ملوكهم يتلقون الهزائم الخارجية ويقتلون ويبطشون في الداخل.

   

في خضم هذه المآسي والأحداث كان شاب يتيم وطالب قانون لامع بجامعة (أورليون) شمال البلاد يضحك ويبكي على ما يجري، مكنه تفوقه من الحصول على ترخيص ملكي للعمل قاضيا دون بلوغه السن القانونية بمجلس قضاء مدينة (بوردو) فسعى حينها إلى التسويق لسياسة التسامح الديني وحاول أن يشرح لنواب البرلمان المتعصبين هناك أن العنف ليس حلا وأن على الشعب أن لا يتبع خطوات السلطات الملكية التي تحاول إلهائه فقط عن أخطائها وسوء تسييرها، فحاول تقريب وجهات النظر بين الإخوة الأعداء لكن الدين والملك كانا أقوى منه فلم تكلل جهوده بالنجاح، توجه بعدها إلى دراسة علم الاجتماع والفلسفة السياسية فأصبح الكاتب والفيلسوف المعروف "إيتيان دولا بويسي".

  

في عمر الثامنة عشر فقط، كتب إيتيان دولا بويسي كتابه ذائع الصيت بعنوان "مقالة العبودية الطوعية" (Discours de la servitude volontaire)، يستغرب فيه علة الإذلال الذي يقدمه الناس لملوكهم ويندهش عن السر الذي يدفع الجماعة إلى أن تخضع -بإرادتها- للفرد الذي لا يتميز بشيء سوى أن نطفته كانت في صلب أب منتمي للعائلة الملكية. يتحدث أيضا عن الأنظمة المستبدة والملكيات الطاغية وينتقد "عملية صناعة الطغاة" داعيا فيه الشعوب إلى التمرد والعصيان، ورفض الانصياع للحكام حتى لو كلف ذلك حياتهم، فحسب لابويسي "لا يكفي أن نولد وحريتنا معنا، بل يجب علينا أيضا أن نحميها".

   يحاول الكاتب الفرنسي -انطلاقا من أدبيات علم النفس السياسي- أن يشرح الأسباب التي تدفع بالناس للإذعان إلى قوة شخص واحد وهم بالأساس من منحوه تلك القوة، واصفا ذلك بالفسق لكون أن الفرد الممجد ذاك غالبا ما لا يملك أي مميزات خارقة أو مواصفات بديعة بل يكون أضعف القوم وأفشل الناس، فيرجع الأمر حسبه إلى ثقافة "الإرادة العميقة في العبودية" التي تتولد لدى الشعوب نتيجة طاعتها العمياء للملوك والحكام، ويذهب لابويسي إلى أن ثنائية (الطاعة-السيطرة) هي المتحكم الرئيس في علاقة الحاكم – المحكوم لدى الأمم المنغمسة في وحل العبودية، وأي محاولة لتفسير سلوك الشعوب خارج هذه الثنائية ضرب من أضرب الخيال، ذلك أن العلاقة بينهما علاقة سببية أحادية القطب، فلا يوجد ملوك مسيطرون حيث لا يوجد عبيد مطيعون، لهذا فالشعوب هي من تصنع طواغيتها ومن تحوّل ملوكها لآلهة تخدمها طواعية بامتنان وتقدير دائمين لتمنح هؤلاء الحكام القوة والسطوة التي تُستعمَل لاحقا في استغلال الرعية واستبدادهم.

   

يضيف لابويسي أن هناك عاملين مهمين يخدمان قضية العبودية الطوعية وهما: الدين والخرافات، فهو ينظر للدين كأداة في يد السلطة الملكية للتأسيس والاستئثار بالسلطة -وهو ما يراه (كارل ماركس) مؤسس الفكر الاشتراكي و(نيكولا ميكافيلي) الفيلسوف الإيطالي حين يقول: "إن الدين عنصر أساسي لدى الحكومات، ليس لنشر الفضيلة ولكن للسيطرة على الناس"- فالسلطة الملكية تستعمل رجال الدين لإقناع المواطنين بخرافة "الحق الإلهي للعائلة الملكية" القادم من السماء السابعة كما توظف الخطاب الديني لأجل التحكم في الغضب الجماهيري وانتهاج سياسة الإلهاء والتفرقة. لهذا السبب حاول هذا المفكر الفرنسي أن يطفئ نار الفتنة الدينية بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت داعيا إلى التسامح وفاضحا شر النظام الملكي آنذاك الذي حاول تغذية ذلك الصراع خدمة لأجندته، في حين يقوم خدم البلاط في نشر الخرافات والتطبيل لمهارات الحاكم المبجّل من العبقرية والحكمة والبصيرة التي يتمتع بها جلالته.

  

لا أظن أن تحرّر الشعوب من عبوديتها ثم تحرّرها من ملوكها الفاسدين سيكون قريبًا، خاصة مع تتالي الأجيال التي تعوّدت على الخضوع فأنتجت لنا ما يسميه المفكر الفرنسي بـ"المواطن المستقر"

كُتب كل هذا قبل خمسة قرون لكنه يجسد حرفيا ما تعيشه البلدان العربية حاليا خاصة منها تلك الخاضعة لحكم الملوك والسلاطين، وحال الشعب الفرنسي في تلك الأيام أشبه بحال الشعوب المتوجسة في بلاد الخليج أو المغرب الأقصى، ولعل النموذج الأقرب هو النظام السعودي باعتباره الأكثر بطشا وتطرفا -رغم أنني حرصت على الصبغة العلمية للمقال بعيدا عن التمثيل- فالتهليل والتكبير الذي تحظى به عائلة آل السعود من طرف الشعب هناك يعتبر اللبنة الأساسية للعبودية الاختيارية التي يمارسها الشعب السعودي، أو نخبته على الأقل، وهذه الطاعة العمياء هي السبب الرئيس الذي دفع بالحكام هناك للاستخفاف بالجماهير ومن ثمة إقصائها من المشهد السلطوي ومن الممارسة السياسية ليكون الطغيان والاستبداد نتيجة حتمية زادت حدتها مع قدوم ولي العهد الجديد وما اغتيال الصحفي جمال خاشقجي والاعتقالات التي مسّت رجالات الدين المعارضين والناشطات الحقوقيات سوى انعكاس ضئيل لذلك.

   

من جهة أخرى، يلعب الدين دوره في المملكة السعودية متزاوجا مع السلطة، من خلال رجالاته الذين يؤيدون حق الملك المطلق في الحكم ويُصدرون فتاوى على المقاس من تحريم الخروج عن طاعة ولي الأمر إلى تحريم الديموقراطية كنظام حكم يستند إلى أغلبية العوام، ثم يلجؤون إلى زرع الفتنة بين طوائف الدين من سنة وشيعة ليبرروا الشطحات السياسية لنظامهم الفاسد الذي لا ينفك يلاحق دولة إيران وجماعات الإسلام السياسي في مصر وفلسطين وتركيا ثم التطبيل التام لتنوير الأمير وحاشيته وقيادتهم الرشيدة التي لا يعرفها أحد.

   

لقد وضع إيتيان دو لابويسي علاج العبودية الطوعية الذي اختصره في تهديم قاعدة هرم التسلط و"هرم التسلط" هو السلسلة التي تجعل الحاكم في قمته معبودا من طرف الرعية في قاعدته أما ما بينهما فهم خدم البلاط ورجال الدين والاعلام والمستفيدين من الوضع والذين هم على تماس مباشر مع عامة الشعب، لهذا فالحل يكمن في اعلان العصيان والتمرد والقطيعة مع هؤلاء بشرط الشجاعة والارادة الكاملة في تحمل كل المترتبات لدفع الثمن كاملا، لأن الشعب الذي أوجد المشكلة يملك حلها بنفسه ويكفي أن يسحب هو قاعدته من الملوك ليسقطوا تلقائيا لأنه هو مصدر قوة هؤلاء الحكام أولًا وأخيرًا.

    

شخصيا، لا أظن أن تحرّر الشعوب من عبوديتها ثم تحرّرها من ملوكها الفاسدين سيكون قريبًا، خاصة مع تتالي الأجيال التي تعوّدت على الخضوع فأنتجت لنا ما يسميه المفكر الفرنسي بـ"المواطن المستقر" كفردٍ راضٍ بطمأنينة البؤس بدل مغامرة الرفاهية وبعَسل العبودية المرّ على حنظل الحرية الحلو، لهذا يجب أن تتعلم أمّة العرب غرس الحرية كثقافة في أولادها ونشأتها الصاعدة لتقوم هي بما عجز عنه آباؤها. يقول خليل جبران:" لا يبني العصفور عشّه في القفص لغرض واحد.. لكيلا يعلّم أولاده العبودية!".

قراءة كتاب العبودية المختارة 

 اونلاين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق