عن لجنة العفو السيساوي، والمأساة التي تتكرر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
أمران في رمضان كانا يضغطان على نفسي للكتابة فيهما، الأول: التسريبات التي أذعيت لقيادات الإخوان وعبد المنعم أبو الفتوح في مسلسل الاختيار، والثاني: الحديث الحقوقي الذي يملأ مصر بخصوص العفو عن المعتقلين في سجون #السيسي_عدو_الله
أما الأمر الأول، فأؤجله لوقت أكون فيه أكثر هدوءا، فإنه يحتاج إلى حكمة وهدوء وضبط للألفاظ.. وأما الثاني، فنستعين بالله ونقول:
1. الذين كانوا يتصورون في 2013 أن إنهاء حكم مرسي هو امتداد للثورة، وأن ما فعله السيسي ليس انقلابا عسكريا.. هؤلاء يجب دائما، يا عزيزي القارئ، أن تفقد الثقة في تفكيرهم وعقلهم.. وإذا هم صدقوا مع أنفسهم، فيجب أن يتوقفوا عمليا عن الإفتاء في شأن السياسة.. لأن الخطأ البشع في الموقف الصريح الواضح، يعبر عن خلل في طبيعة التفكير وفي تصور الأمور.. وإذا عجزوا عن رؤية ما حصل في 2013، بل كانوا جزءا منه، فهم أعجز عن رؤية ما سواه وما هو أخفى منه!!
وهذا مع افتراض حسن الظن فيهم، وأنهم كانوا مجرد مغفلين وطنيين حسبوا أنهم بهذا يحققون مصلحة الوطن، فكانوا يُساقون إلى حتفهم وهم لا يشعرون.. فأما أن يكونوا ممن داعبتهم شهوة السلطة والوزارة والمكانة، أو أن غلبت عليهم كراهيتهم للإسلاميين، فهؤلاء لا نتحدث عنهم.. فإنهم هم العدو!
تبدو هذه الجملة خارج السياق، ولكني أكتبها الآن لأني سأحتاجها فيما بعد!
2. لئن كان مسلسل #الاختيار3 يريد تزوير التاريخ، وربما يكون قد نجح في هذا جزئيا عند بعض الشرائح الصغيرة السن، أو التي تسكن كومباوندات المناطق الراقية، فإن ميزته العظمى أنه رجع مرة أخرى إلى لحظة الثورة والانقلاب..
عن نفسي، أنا سعيد بعودة الحياة إلى هذه اللحظة التي سار قطار السيسي والدولة المصرية بكل القوة والجبروت في طريق إنهائها وطمسها وحذفها من العقول والقلوب..
من يهتم بالتوثيق والتسجيل وشأن الذاكرة يعرف إلى أي حد خاض السيسي ونظامه خوضا جادا لتجاوز اللحظة وإنهائها وتغييبها..
كان من فضل الله علينا وعلى الناس أنه هو نفسه كان يبعثها من جديد للذاكرة ليعلق عليها شماعة فشله، كما في سد النهضة أو في أزماته الاقتصادية..
لقد كانت كلمته عن الثورة تعيد النقاش من جديد، فينهدم بهذا عمله وعمل نظامه في طمسها وتغييبها!
نعم، من الأهمية القصوى أن نظل دائما نتناقش حول لحظة 2011 و2013.. نعم، نعم.. هذه هي اللحظة المفصلية التي تقرر فيها مصير البلد، والنقاش حولها ليس نقاشا حول الماضي، بل هو في عمقه نقاش حول المستقبل وحول طريق الخلاص.
تركز النقاش حول لحظة الثورة ولحظة الانقلاب هو نصف الحل بلا أدنى مبالغة.. لأن نقاشنا حول أي لحظة أخرى معناه أننا نتوه ونغيب في سراديب الأفكار والأحداث وغابات الفلسفة والتنظير.
لهذا فأنا سعيد حقا، بأنه صنع مسلسلا يعيد إلى الأذهان، وبشكل مكثف النقاش حول لحظة الثورة والانقلاب.. لقد حاول أن يقدم روايته المزورة.. ولكن هذه المحاولة هي التي ستثير غيره لتقديم روايتهم أيضا.. وكفى به مكسبا عظيما.
3. نأتي إلى ما حصل في 2011 وفي 2013..
كانت ثورة شعبية، سكت عنها الجيش بإذن الأمريكان، والتقت المصالح حول إزاحة مبارك، فكان!
ثم اختلفت الغايات، وتضاربت المصالح، وأسفرت الأحداث عن انتخابات نزيهة فاز فيها الإسلاميون، وسرت صعقة كهربائية في الإقليم المستبد وفي إسرائيل، وفي الشرائح العلمانية، وفي دولة العسكر، وبعد أخذ ورد وتردد قرر الأمريكان الاستجابة لإسرائيل والخليج وتنفيذ انقلاب عسكري في مصر بيد عبد الفتاح السيسي.
تصور الجميع أن الانقلاب سيكون سهلا، وقد كان يمكن أن يكون كذلك، لولا أمرين:
الأول أن مرسي لم يستسلم كما فعل مبارك، والثاني: أن الإسلاميين كانوا قد خرجوا إلى الشارع قبل عزل مرسي!
لو استسلم مرسي لانتهى الأمر وكان الانقلاب سهلا!
لو كان الأمر بيد قيادة الجماعة لقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل وفكروا في الحياة في ظل النظام الجديد (لأن قيادة الإخوان تحت عوامل الاختراق الأمني المنتشر في صفوف قياداتهم، والانهزام النفسي التام في صفوف قياداتهم غير المخترقة لم يؤمنوا لحظة بأنها ثورة شعبية وأنها لحظة فارقة.. ولهذا حديث آخر).
لكن مرسي لم يستسلم.. والناس قد نزلوا إلى الشارع بالفعل.. فانفلت القرار من يد قيادة الجماعة، وصارت الدولة أمام جسد الجماعة السائل، ومن وراء الجماعة الشعب الكبير الذي رأى أحلامه تتبدد ويعود للحظيرة من جديد.
(هنا لا أنفي أبدا أن السيسي كانت له شعبية، وأن كثيرا من الناس نزلوا في 30 يونيو.. لكنني أنفي تماما وبشدة أن هؤلاء كانوا أغلبية بل ولا شبه أغلبية.. وهذا أمر أذكره هنا كتوضيح جانبي لا أكثر.. وليس هو موضوعنا)
4. الجسد السائل للجماعة، والحالة السائلة للشعب أسفرت عن أمرين متداخلين: قيادات الجماعة -خصوصا مع الضربات الأمنية التي استهدفتهم- لا تستطيع إعادة الناس للبيوت، ولا تستطيع التصرف مع المفاجأة الصاعقة (كانوا يعتقدون حتى اللحظة الأخيرة أن السيسي رجلهم).. والدولة نفسها التي تراخت تعمدا في زمن مرسي بعد ارتباكها منذ ثورة يناير لم تستطع بدورها فرض السيطرة التامة على المشهد!
والحالة الثورية التي لا تزال باقية من يناير، مع الحالة الثورية التي ضخّتها آلة العسكر لتجميل الانقلاب، أسفرتا معا عن حراك خارج التنظيمات وداخل التنظيمات!
والتقت إرادة قيادات الإخوان المخترقة والمنهزمة نفسيا في القاهرة وفي الدوحة على الاختفاء والصمت والسكون.. ويوما ما سيُكتب ويُنشر كيف عملت بعض القيادات بجد واجتهاد على تسكين وتثبيط وإسكات طاقات الجماعة كأنما هم أكفأ ضباط لأجهزة الأمن!
هذا الاختفاء، هو الذي أدى إلى بروز بعض المخلصين مثل الشهيد محمد كمال وإخوانه (جميعهم جرى قتلهم فيما بعد)، ليحاولوا إعادة الجماعة إلى الحياة، وإعادة الجسد السائل الذي كان يتحرك بالقصور الذاتي إلى النظام.
(أكثر الناس سيندهش حين يعلم أن الجماعة ظلت بلا رأس لأكثر من عام.. أي أن كل المظاهرات الحاشدة الرهيبة التي استمرت حتى 2015 كانت مجرد حركة بالقصور الذاتي، بلا تخطيط ولا توجيه.. وهذا يخبرك عن حجم الخيانة التي اقترفتها القيادات البائسة التي دمرت الجماعة وعصفت بمصير الأمة كله في هذه اللحظة الفارقة)
وما إن بدأ محمد كمال يعيد ترتيب صفوف الجماعة، وما إن بدأت الجماعة تعود إلى الحياة، حتى ظهر الفارق الكبير في حركة الجماعة، وبدأت الخيانة تظهر، وإذا بالقيادات المختفية تعود من جديد لتفصل الذين كانوا يعملون، وإذا بأجهزة الأمن تفرج عن قيادات بعينها لتعود إلى مكانها من جسد التنظيم لتعيد السيطرة عليه، وإذا بعناصر كانت تسرح وتمرح بين أبو ظبي والرياض والقاهرة، تستطيع أن تسافر بسهولة بين هذه العواصم وبين الدوحة واسطنبول حتى تحقق القضاء على محاولة محمد كمال والتي كان بوسعها حقا أن تغير التاريخ!
وما بين الدوحة واسطنبول ولندن جرى تصفية الجماعة وتقطيع أوصالها، وإلقائها على طبق من فضة لعبد الفتاح السيسي، ليأكلها هنيئا مريئا، مع توسلات بالمصالحة والحوار والعودة إلى الحياة.. ولكن السيسي أكل الجماعة وتوسلاتها ثم أكل بعدئذ ما تيسر له من القيادات التي شاركته في ذبح الجماعة!!
5. ما الغرض من كل هذه الثرثرة التاريخية؟
الغرض منه ببساطة هو التذكير ببعض هذه الأمور:
- الجماعة كقيادة لم تتخذ أبدا قرار مقاومة الانقلاب العسكري.. بل تعاونت قياداتها المعروفة في كسر من قاوموا!
- النظام ضرب الجماعة بكل العنف من قبل أن تفكر أي شرائح داخل الجماعة في المقاومة، وحشد منهم عشرات الآلاف إلى السجون.. ليست الجماعة فحسب، بل كل من استطاع القبض عليه في مظاهرة.. ثم تطور الحال عبر السنين إلى اعتقال كل من يجد على صفحته منشورا مؤيدا لثورة يناير في 2011
- الجماعة تطلب المصالحة منذ ما قبل مذبحة رابعة، والسيسي هو من يرفض.
- الذين قاوموا الانقلاب، واستهدفوا الجيش والشرطة، كانوا مجموعات شبابية محدودة سرعان ما فصلتهم الجماعة وانفصلوا عنها.. ومعهم مجموعات سبق أن تركوا الجماعة كلها من قبل الثورة أو من قبل الانقلاب أو من بعده، حين شاهدوا بواقع الحال أن كل طرق التغيير السلمية تنتهي عند الدبابة!!
- الذين أخذهم النظام إلى السجون هم في غالبيتهم العظمى لم يقاوموه بشيء.. أكثرهم أخذ من منشور فيسبوك ومن مظاهرة سلمية ومن بلاغات كيدية ومن مكان تصادف أن كانت فيه مظاهرة أو ستكون فيه مظاهرة أو أخذوا للضغط على أقاربهم.. أو أخذوا لأنهم كانوا يديرون صفحات أو مواقع رافضة للحكم العسكري... إلخ!
ركز في هذه الأمور فسنحتاجها بعد قليل.
6. دعنا الآن لا نتحدث من منطلق الإيمان بالله أو الواجب الشرعي على الناس الذين وقعوا تحت الظلم.. بل دعنا نترك حتى منطلق الغريزة الحيواني الذي يحمل كل حيوان على الدفاع عن نفسه وعن عرينه وعن حماه..
دعنا نتكلم بالمنطق الفلسفي والفكري السخيف.. حين يُكتب التاريخ، ويقرؤه قارئ التاريخ.. فقل لي بربك، أيهما خير:
أن يقرأ سطرا يقول: حدثت ثورة، ثم انقلب عليها جنرال عسكري، فاستسلم له الناس وخضعوا..
أم يقرأ سطرا يقول: حدثت ثورة، ثم انقلب عليها جنرال عسكري، فاشتعلت الأرض تحته، وقاومه الناس حتى خلعوه وأدبوه، أو حتى: حتى هزمهم وقهرهم بعد صراع عنيف؟!!
أي السطرين تحب أن يقرأهما ابنك عنك؟
أي السطرين تحب أن يكتب في تاريخك؟!
فإذا كنت باردا بلا كرامة ولا يهمك ما يقال عنك.. فماذا تحب أن يُكتب في صحيفتك التي ستلقى بها الله يوم القيامة؟!
هل تحب أن تكون محشورا في زمرة الخانعين (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)
أم تحب أن تكون في زمرة الذين قاوموا وبذلوا حتى لقوا الله بإحدى الحسنيين؟!!
7. الآن تجتمع كلمة الحقوقيين وأصحاب المبادرات السياسية والوطنية.. سواء من كان منهم من طرف النظام أو من طرف المعارضة أو من طرف المحايدين على عبارة واحدة، اتفقوا عليها على اختلاف بينهم في كل شيء.. وهذه العبارة تقول:
"الإفراج عن كل المعتقلين ممن لم يتورطوا في العنف".. وبعضهم يضيف لمزيد من الدقة والإحكام والإنصاف "ومن لم يتورط في التحريض على العنف"
يقصدون بهذا: أولئك الذين لم يرضوا أن ينقلب عليهم العسكر، ولم يخضعوا للإجرام والظلم، فقاوموا!!!
يستحق هؤلاء وقفة طويلة نثبت فيها لهم وعليهم الحقيقة الساطعة التي تقول: بأن أغلب المعتقلين إذن ليسوا ممن تورط في عنف ولا في التحريض على العنف!!
وهذا بحد ذاته دليل على الإجرام الكبير والوحشية الشنيعة التي يتصف بها هذا النظام!!
فأي شيء أشرف للناس إذن: الذين أخذهم هذا النظام إلى السجون وهم لم يفعلوا له شيئا.. أم الذين سقطوا في أيديه وهم يقاومونه؟!!
ألم يكن الذين قاوموا أكثر شجاعة وكرامة وحمية فأُخِذوا بحق وهم يقاومون، أو ماتوا وهم واقفين.. من أولئك الذين أُخِذوا وهم يتكلمون ويهتفون، وماتوا وهم يصيحون ويشتكونه في أروقة محاكمه؟!
بل نزيد على ذلك خطوة فنقول: ألم يكن الذين قاوموا أكثر ذكاء ونضجا ومعرفة بطبيعة هذا النظام من أولئك الذين ظنوا أن سلميتهم أقوى من الرصاص فإذا بهم يسكنون نفس ذات الزنازين؟!
لكن المدهش هنا، والذي يستحق التوقف عنده طويلا، هو لماذا يقبل أولئك الحقوقيون وأصحاب المبادرات أن يكون النظام شرعيا بعدما ارتكب جريمة الانقلاب العسكري نفسها، وجرائم ذبح الناس في الشوارع وحشرهم في الزنازين وإعدامهم بالمشانق وبالرصاص الحي؟؟
لماذا يقبلون أن يكون النظام بعد كل هذه الجرائم نظاما شرعيا يعتبر الذين خرجوا عليه وقاوموه مجرمين بالفعل لا يستحقون العفو والخروج؟!
لئن كان المعيار هو القانون والدستور، فالنظام هو المجرم الأول الذي خرق الدستور والقانون.. وما فعله هؤلاء ليس إلا رد فعل غريزي!
أو فليدخل معهم الذين ارتكبوا هذه الجرائم من أركان النظام وأنصاره!
ولئن كان المعيار هو الإنسانية والرحمة وفتح صفحة جديدة فليخرج الجميع وعفا الله عما سلف للجميع!!
أسمع قائلا يقول: كن واقعيا، ولا تطالب بالمستحيل، والسياسة فن الممكن.. والمهم هو خروج المعتقلين ورفع الأذى عنهم.
وأقول لك: موافق على ما تقول
نعم، ميزان القوى ليس في صالحنا، خروج أي عدد هو أمر مهم ومطلوب ومنشود، فليخرج من استطاع ما استطاع
ولكن واجب مثلي أن يُذَكّر دائما بالحق الذي هو الميزان الذي قامت عليه السموات والأرض!
لئن عجزت وعجز الناس عن إخراج المعتقلين فلا بد أن يبقى واضحا وساطعا ونقيا أن الذين أُسِروا وهم يقاومون هم أشجع الناس وأذكاهم وأنبلهم وأفضلهم..
لئن عجزت وعجز الناس عن إخراج هؤلاء فالعار كل العار أن نسمح بالنظر إليهم كمجرمين أو أو نسكت عن بيان الحق الذي يعيد إليهم حقهم وفضلهم ومنزلتهم..
وأما أصحاب المبادرات والحقوقيون، فأكثرهم (أؤكد: أكثرهم وليس كلهم) لا يُنسى له غفلته وغباؤه حين كان جزءا من قتل تجربة مرسي ودفنها.. فليتواضعوا وليتهموا عقولهم قبل أن يتسببوا لمرة أخرى في تلويث وتجريم أشرف الناس وأنبلهم وأشجعهم وأذكاهم.
الأربعاء، مايو 04، 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق