اليوم
أمير سعيد
يبدو اليوم في التصور الإسلامي اختزالاً للحياة برمتها، من بداية الحياة إلى منتهاها، والليل من الموت حتى النشور.
يبدأ اليوم بحياة وانبعاث ونشور، وينتهي بوفاة ومصير.
{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الزمر: 42]
يقول ابن كثير في تفسير الآية: قال الله تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء ، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى ، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان ، والوفاة الصغرى عند المنام.
حياة قصيرة تختزل دورة الحياة كلها، يوم يكد فيه الإنسان ويعمل ويخضع للاختبار الرباني ثم يتوفاه الله لينبعث من جديد يدخل معه في اختبار جديد، حتى يأتي يوم الوفاة الكبرى وانقطاع العمل إلا من ثلاث.
{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأنعام: 60]
الحياة الدنيا قصيرة جداً ولا تعد شيئاً إذا ما قورنت بالآخرة، يقول الله عز وجل: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 64] بل لا تكاد ترى في خط خلق الإنسان منذ أن كان ذراً في ظهر آدم عليه السلام، إلى الخلود إما في جنة أو في نار، ومن ثم هي جديرة بأن تستنفد لحظاتها كلها في طاعة الله وطلب رضوانه، إلا أن طول الأمل يعبث بعقول السائرين إلى الموت، فيظنون الحياة طويلة؛ فيأتي هذا التصور الإسلامي لليوم كنموذج للحياة الدنيا برمتها لينعش هذه الحقيقة في نفس المؤمن، وتذكره دوماً بقصر الحياة وفجأة انتهائها.
وإذا كان علماء التربية يكادون يجمعون على أهمية وجود الأهداف الجزئية أو الأغراض المرحلية أو ما شابه من المصطلحات في الوصول إلى الغايات أو الأهداف الكبرى؛ فإن الإسلام يحقق هذه الطريقة في طريق العبودية؛ فيجعل من اليوم بنية جزئية للحياة، والليل انتهاءً لتلك الرحلة وتمهيداً لانبعاث جديد يتجدد معه الإيمان والطاعة.
يبدأ المسلم يومه عند أول لحظة في يقظته فيقول: "الحمدُ للَّهِ الَّذي عافاني في جسدي وردَّ عليَّ روحي وأذنَ لي بذِكرِهِ" [صحيح الترمذي]، ويؤوي إلى فراشه فيقول: " اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا" [صحيح مسلم]
رد علي روحي.. أنت تتوفاها! إنه شعور قوي يهز القلوب الحية، ولربما يخلعها انخلاعاً حين تستشعر ضآلة هذه الحياة القصيرة التي يعيشها المرء كل يوم وليلة.. إنه انبعاث وردة للروح قد منحت للمرء من رب رحيم ليستدرك ما فاته ويعيد حساباته مرة أخرى، ثم هي لحظة في آخر اليوم تستدعي أعمال اليوم كله؛ فتدرك عظم التقصير في حق ذي الجلال فتستمطر رحماته وتطلب منه العفو والغفران.
يوصي النبي صلى الله عليه وسلم المسلم عند النوم أن يقول: "باسْمِكَ رَبِّ، وضَعْتُ جَنْبِي، وبِكَ أرْفَعُهُ، إنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فارْحَمْها، وإنْ أرْسَلْتَها فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ به عِبادَكَ الصَّالِحِينَ." [صحيح البخاري]، وفي رواية مسلم: "إنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لَهَا".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه قال: "اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا، لكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا، إنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا، وإنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا." [صحيح مسلم]
ويقول إذا أراد أن ينام: "باسْمِكَ اللَّهُمَّ أمُوتُ وأَحْيَا، وإذَا اسْتَيْقَظَ مِن مَنَامِهِ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيَانَا بَعْدَ ما أمَاتَنَا وإلَيْهِ النُّشُورُ." [صحيح البخاري]
إنها حياة بعد إماتة، وانبعاث ونشور بعد وفاة صغرى.
والأمر ذاته عند أذكار الصباح والمساء، التي تجسد هي الأخرى تلك الحياة القصيرة؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على هذا الذكر صباحاً ومساءً: " إذا أصبح أحدُكم فلْيَقُلْ : اللهم بك أصبحْنا ، و بك أمسيْنا ، و بك نحيا ، و بك نموتُ ، و إليك النُّشورُ ، وإذا أمسى فلْيَقُلْ : اللهم بك أمسَيْنا و بك أصبحْنا ، و بك نحيا ، و بك نموتُ ، و إليك المصيرُ" [صحيح الجامع الصغير – رواه الترمذي]. إنه النشور في مطلع اليوم والمصير عند انتهائه، هكذا إذن وحدة الحياة المصغرة، وهكذا يتجدد الإيمان مع كل طلعة شمس وغروبها.
إن هذا التصور كفيل بأن يربط المؤمنين المتأملين بهذا المفهوم الواضح لتلك الحياة الدنيا، وأن يرفع من همتهم كلما خبت جذوة نشاطهم وفترت عبادتهم؛ فإذا كان الموت واعظاً كافياً مثلما يشتهر القول عن الفضيل بن عياض رحمه الله؛ فإن استحضاره مع كل نومة وقومة يعد حافزاً كبيراً للمسلم في إعادة توجيه اهتماماته والنظر إلى الدنيا من خلال هذا المنظار اليومي.
إنه استحضار لهذا المعنى البديع الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم عند الاستيقاظ "وأذنَ لي بذِكرِهِ".. إنه فرصة صارت سانحة للعبادة جديرة بأن تستغل. إن الكريم سبحانه وتعالى قد أذن للمسلم بذكره، ومنحه فرصة جديدة بعد هذا الانبعاث لأن يستدرك أخطاءه وينضم إلى قافلة العابدين السالكين إلى طريق الجنة في معية الرحمن وحفظه "وإنْ أرْسَلْتَها فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ به عِبادَكَ الصَّالِحِينَ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق