إشراقات قرآنية سورة الملك
بين يدي سورة الملك
أسماؤها
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين وإمام الهداة أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
سورة الملك هذه السورة العظيمة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنجية، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وحسّنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سورة في كتاب الله تعالى ثلاثون آية لم تزل بصاحبها حتى أنجته من عذاب القبر)، وفي بعض الألفاظ سماها المنجية سورة ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))[الملك:1].
اسمها المشهور: سورة الملك، وهو الذي في المصاحف وكتب الحديث، وبعضهم يسميها: ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))[الملك:1] كما في الحديث السابق.
وبعضهم يسميها (تَبَارَكَ)، ويسمي الجزء كله باسم جزء تبارك مثل جزء عمّ، ولكنها بهذا تشتبه مع سورة الفرقان التي تُستفتح بالاستفتاح ذاته ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ))[الفرقان:1]، فتسمى هذه (تبارك الملك)، وتلك (تبارك الفرقان).
ومن أسمائها: المانعة أيضاً؛ فإنها تمنع عذاب القبر عن صاحبها، وقد ذكر الرازي أن ابن عباس سماها: (المجادِلة)؛ لأنها تجادل عن صاحبها، ولم يذكره غيره من أهل التفسير، وقد عد بعض أهل العلم أسماءها نحواً من ثمانية أسماء، وغالبها أوصاف لهذه السورة، أما أسماؤها الحقيقية فهي: (الملك)، أو (تبارك)، أو (تبارك الذي بيده الملك).
مكان نزولها وعدد آياتها
وهي سورة مكية عند جميع المفسرين، وعدد آياتها ثلاثون آية كما نص وصرّح به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق.
إشراقات في قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك ...)
هذه السورة هي حشد لآيات الله في الأنفس، والآفاق، والكون، والأرض، والسماء، والنجوم، والطيور، وغيرها، وإقامة للحجة على الكافرين بدلائل السمع والبصر والعقل.
معنى (تبارك)
تُستفتح بقوله سبحانه: ((تَبَارَكَ))[الملك:1]، كما في سورة الفرقان أيضاً ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ))[الفرقان:1].
وتبارك هو: من البركة، والبركة تعني الخير الكثير الدائم، فالله عز وجل هو صاحب الخير، والفضل، والإحسان، والمن ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ))[النحل:53]، والخير الكثير، فخير ربنا كثير لا يُعد ولا يُحد ((هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ))[ص:39]، ((يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))[البقرة:212]، ورزق أهل السماء، والأرض، والبر، والبحر، والأملاك، والأفلاك، والطيور، والبشر، والحيوانات، كلها قطرة في بحر جوده وكرمه، فهو ذو الخير الكثير، والعبد يلجأ إليه في ملماته وأحواله وضروراته.
فقلت لعبد الله لما لقيته وقد شد أحلاس المطي مشرقا
تتبع خفايا الأرض وادع مليكها لعلك يوماً أن تجاب فترزقا
فيؤتيك مالاً صالحاً ذا مثابة إذا ما مياه الأرض غارت تدفقا
الخير الكثير الدائم خيره سبحانه لا ينقطع، كما قال سبحانه: ((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ))[القلم:3]، فهو يرزق المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، وخيره على أهل الدنيا، وعلى أهل الآخرة، لا يتوقف ولا ينقطع، ولا يمل مع كثرة السؤال، ولا ينفد مع كثرة النوال.
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
إذاً: هذا من معاني ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))[الملك:1].
(تَبَارَكَ) يعني: عظمت بركته، وعظم خيره وعطاؤه وفضله.
وقد جاء في القرآن الكريم أيضاً لفظ يشبه لفظ (تبارك)، وهو قوله: ((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ))[الإسراء:43]، وجمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في دعاء الاستفتاح، حيث كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك)، يعني: عظمتك، ومنزلتك، وملكك، وسلطانك.
فمعنى (تعالى): أي: علا وارتفع، فالله تعالى له علو القدر، وعلو القهر والغلبة، وعلو الذات، فهو العلي الأعلى، العلي بذاته وأسمائه وصفاته وجلاله وعظمته.
وأيضاً جاء فعل ثالث وهو (تقدس)، وإن لم يكن ورد في القرآن الكريم، لكنه جاء في حديث متكلم فيه عند الترمذي و أبي داود و أحمد وغيرهم: (ربنا الله الذي في السماء تبارك اسمك) ، وهذا اللفظ عند ابن ماجه في الدعاء والرقية للمريض: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك).
إذاً: (تقدس) مثل (تبارك) مثل (تعالى)، لكن (تقدس) معناه: إثبات القدسية لله سبحانه وتعالى، وهذا مأخوذ من القدوس، فإن من أسمائه القدوس، والقدوس هو المقدس المنزه عن كل عيب ونقص، المثبت له كل كمال سبحانه وبحمده؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) فيُسبحه ويُقدسه ويُنزهه.
معنى (بيده الملك)
تستفتح هذه السورة بهذا الفعل ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))[الملك:1]، يعني: في تصرفه وقبضته ملك السماوات والأرض، فهو بيده سبحانه، وهو له، والملك يعني أنه يملك الأشياء، فكل شيء ملكه سبحانه.
وأيضاً يعني: أنه الملك، الآمر، الناهي، المتصرف، الحاكم، السلطان، الذي ليس فوقه ملك ولا سلطان؛ ولذلك هو سبحانه يوم القيامة يأخذ السماوات والأرض بيمينه ويهزهن ويقول: (أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ) ومن أسمائه: (ملك يوم الدين)، أو (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ))[الفاتحة:4]، وهما قراءتان.
(( بِيَدِهِ الْمُلْكُ ))[الملك:1] فكل شيء له.
معنى (وهو على كل شيء قدير)
((وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[الملك:1] لا يُعجزه شيء، له القدرة التامة، والقدرة تدل على العلم، فإن القدير هو عليم سبحانه، ومن مظاهر قدرته خلق السماوات والأرض والأكوان؛ ولهذا قال: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ))[الملك:2] فالله تعالى قدير لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، في الدنيا ولا في الآخرة.
استفتح بهذا الاستهلال الذي فيه التنزيه والتعظيم لربنا سبحانه.
إشراقات في قوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً...)
ثم قال: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ))[الملك:2] فهذا من بركته، وهذا من ملكه، فالدنيا والآخرة والموت والحياة له، وهذا من قدرته سبحانه.
دلالات بلاغية في تقديم ذكر الموت على الحياة
((خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ))[الملك:2]، وابتدأ بالموت قبل الحياة، لماذا؟
أولاً: لأن الموت سابق ((كُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ))[البقرة:28].
إذاً: ابتدأ بالموت؛ لأنه هو الأول، فالناس كانوا أمواتاً، والأرض كانت ميتة، ثم ((إِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ))[الحج:5]، فالموت سابق للحياة، هذا أولاً.
ثم إن من معاني البداءة بالموت الإشارة إلى أن الإنسان يصير إلى الموت أيضاً بعد الحياة، وأن الابتلاء يكون بعد الموت، وأن على الإنسان أن يذكر الموت ولا ينساه ما دام حياً؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الحديث الذي رواه أحمد وغيره-: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) (هاذم) يعني: قاطع، (يهذم) يعني: يقطع.
وفي بعضها: (هازم أو هادم) يهدم اللذات، لكن المقصود (هاذم اللذات) يعني: لذات أهل الدنيا لا تكمل.
(هاذم اللذات) معناه: أن الموت يأتي على الإنسان فيقطع لذته، أو معناه أن الإنسان يتذكر الموت فتنقطع لذته، فإن الموت يفضح الدنيا، ولا يسمح للإنسان أن يسترسل في المتعة واللذة.
ومن هنا بدأ الله تعالى به في هذه السورة فقال: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ))[الملك:2].
دلالة خلق الموت والحياة للابتلاء على شرف الحياة الصالحة
وقوله سبحانه: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))[الملك:2] هذا مبني على خلق الموت والحياة، يعني: كما قال: ((كُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))[البقرة:28].
إذاً: الابتلاء هنا -وهو الاختبار- مرتبط ومتصل بخلق الموت والحياة، ولكن الابتلاء الواضح هو على الإنسان ما دام حياً، أما قبل أن يكون حياً فليس محلاً للابتلاء والمحاسبة والسؤال، وفي ذلك دليل على شرف الحياة وفضلها وفضيلتها، ويكفي فيها أن الإنسان خلال الحياة يذكر ربه، ويعبد ربه، ويقدم لنفسه عملاً صالحاً.
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) كما في المسند ، وقال صلى الله عليه وسلم : (إن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيراً)، ولو مد للإنسان ساعة في الأجل فسبح وحمد وهلل وكبر وذكر؛ لكان له بذلك الأجر العظيم.
وفي المسند -وهو حديث صحيح- أيضاً: قصة الأخوين اللذين (هاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمات أحدهما شهيداً، وتأخر أخوه بعده سنة، ثم مات على فراشه، فرآه الصحابة رضي الله عنهم وقد سبق أخاه الشهيد في منزلة الجنة، فاستغربوا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تعجبون من ذلك؟! أليس عاش بعده سنة؟! أليس صام بعده رمضان؟! أليس صلى بعده كذا؟! أليس عمل بعده كذا؟! فهو خير منه).
إذاً: الحياة فرصة، فيها مجال للعبادة والاستثمار والعمل الصالح، وما دام هذا النفس يتردد في الإنسان فهو محل ابتلاء، يستطيع أن يستثمر هذه الحياة بجلائل الأعمال، وفي (كل معروف صدقة)، (وفي كل كبد رطبة أجر).
ولو أن الإنسان تصور حجم الخير والبذل والمعروف الذي يمكن أن يقدمه ما دام حياً لنفسه ولقريبه ولبعيده، حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- (اللقمة يضعها الرجل في فم امرأته) إلى هذا الحد، أو القطة تطعمها، أو الكلب تسقيه، فهذه في محاسن أعمال العبد.
وهذا دليل على شرف الحياة، وأن المؤمن يستقبلها باغتباط، وفرح، وسرور، فهي منحة ومنة من الله العظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه؛ قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)، فشبه الذاكر الله تعالى بالحي، وشبه الذي لا يذكر الله تعالى بالميت، وبينهما فرق هائل كبير.
ودائماً تجد تعبير القرآن وصف المؤمنين بالأحياء، والكافرين بالأموات: ((وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ))[فاطر:22]، ((إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ))[النمل:80].
دلالات في قوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)
المؤمن يفرح بالحياة، وينتعش بها، وينساق إليها، ويحتفل بها، ليس فقط للمتعة، وإن كانت المتعة الحلال فيما يسّر الله للعبد المؤمن مما جُبل عليه البشر حتى الأنبياء، ولكن أيضاً لما في هذه الحياة من فرص الخير، والعمل، والإنجاز.
((خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))[الملك:2] أيكم أحسن، وأحسن أيش؟ أحسن عملاً.
إذاً: الابتلاء مداره على العمل أولاً، أن يكون العمل طيباً أو سيئاً؛ ولذلك الآية فيها إيجاز شديد، وفيها جانب إيجابي، يعني: ذكر الله تعالى الحسن من العمل، وإنما المقصود: (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، أو أيكم أسوأ عملاً، فمن كان عمله حسناً فهو إلى الجنة، ومن كان عمله سيئاً فهو إلى النار.
إذاً: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أو أسوأ عملاً، ولكن الله تعالى ذكر الجانب الحسن حثاً للناس وتحفيزاً لهم على حسن العمل، وعلى العمل، وفي ذلك إشادة بالعمل وقيمته وأهميته، وأنه ضرورة للنجاح في الدنيا والآخرة، لكن أيضاً هنا العمل لم يقل الله سبحانه وتعالى: (ليبلوكم أيكم أكثر عملاً)، وإنما قال: أحسن، فدل على أن المطلوب هو الإحسان، الإنجاز؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة عند البيهقي وسنده صحيح: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).
وهنا قال: (أَحْسَنُ عَمَلًا) ولم يحدد العمل، لم يقل: أيكم أحسن صلاة، ولم يقل: أيكم أحسن عبادة، وإنما قال: (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فهذا نكرة في سياق الشرط -يعني (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)- ليشمل العمل كله.
فإحسان العمل مطلوب، سواء كان الإنسان في عبادة، أو في عمل دين، أو في عمل دنيا، أو في إحسان إلى أهل، أو في خدمة، أو في خير، أو بر، أو معروف، أو مصلحة، أو حتى في عمل دنيا، فهذا ابتلاء للإنسان (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).
المراد بالإحسان في العمل
ومن أحسن ما قيل في هذا: لما [سئل الفضيل بن عياض رضي الله عنه عن قوله تعالى: (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) قال: أخلصه وأصوبه، ثم قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل]، فلا يُقبل حتى يكون خالصاً صواباً.
الخالص هو: ما أريد به وجه الله، وهذا يقصد به عمل الآخرة، أما عمل الدنيا فيكفي فيه ألا يراد به غير الله، يعني: لو أن إنساناً أحسن إلى فقير أو مسكين، ولم يستحضر نية التقرب إلى الله، لكنه لم يعمل هذا العمل أيضاً رياءً وسمعة، وإنما عمله بدافع حب الخير، هذا يؤجر عليه، كما نص عليه أهل العلم، وجاءت دلائله في الكتاب والسنة ، كما قد بيّنته في مواضع أخرى.
فيكفي ألا يكون الإنسان أراد به غير الله سبحانه وتعالى، أما العبادة المحضة والقربة المحضة فلا بد أن يكون مراداً فيها وجه الله سبحانه وتعالى، فهذا جانب الإخلاص.
الجانب الثاني: وهو جانب الصواب، والصواب في مجال العبادات اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولزوم طاعته وطريقه في الصلاة والزكاة في الصوم في الحج في العبادات، وأما في الأمور الحادثة والمصالح العامة فالصواب هو ما كانت مصلحته أعظم، وضده ما كانت مفسدته أعظم، وإنما يعرف عظم المصلحة وبعدها من رزقه الله تعالى البصيرة والعقل والفهم والإدراك ومعرفة مآلات الأمور.
وجه مناسبة قوله (وهو العزيز الغفور) لما قبله
فمن هنا قال سبحانه: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ))[الملك:2]، وما أجمل هذا الختام؛ فإن قوله سبحانه: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) ربط لقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، يعني: منكم من يُخفق في هذا الابتلاء، فيعصي وينحرف، فهذا يُقابله قوله: (الْعَزِيزُ)، فإن الله تعالى عزيز، يعني: قوي منتقم جبار ممن عصاه، فالعزيز تناسب من أخفقوا في هذا الابتلاء.
أما قوله: (الْغَفُورُ) فهي تناسب من أحسنوا في العمل، ونجحوا في الابتلاء، فإن الله تعالى غفور لهم، كما قال سبحانه: ((وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى))[طه:82]، فيغفر الله تعالى لهم زللهم، وخطأهم، ولممهم، وما سلف من ذنوبهم وخطاياهم.
إذاً: قوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) مناسب جداً لقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).
إشراقات في قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً ...)
ثم قال سبحانه في سياق تعداد النعم وإقامة الحجة على العباد: ((الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا))[الملك:3]، والسماوات السبع هي هذه القبة التي يراها الناس فوق رءوسهم، والقرآن خاطب الناس بمقتضى ما يعرفون، بمعنى أن القرآن ليس كتاباً خاصاً للفلكيين والعلماء في مختبراتهم ومعاملهم، ولا للفلاسفة، ولا لأهل العلوم الدقيقة، القرآن جاء لهؤلاء، فليس في القرآن ما يُناقض علومهم، ولكنه أيضاً جاء للرجل في الصحراء، والبادية، والمزرعة، والإنسان البسيط، ومحدود العقل، ومحدود التفكير، فهو خطاب عام لجميع الناس.
فلما يقول: ((خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا))[الملك:3] يرفع المستمع رأسه فيرى السماء فوقه، ويعلم بأن الله تعالى خلق سبع سماوات فوقنا، هل هذه السماوات هي مجرات؟ هل هي نجوم؟ هل هي مما يشاء الله تعالى؟ هذه قضية لم نتعبد بها، وإنما نؤمن بأن فوقنا سبع سماوات.
(طِبَاقًا) يعني: بعضها فوق بعض، وهذه السماوات من خلق الله سبحانه وتعالى، ونؤمن بأن الأمر كما قال سبحانه أيضاً: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ))[الملك:3] أنها في غاية الإحكام والدقة والإتقان؛ ولهذا يوم القيامة تتشقق السماء بالغمام، وتفتح السماء، وتكون أبواباً، وتتصدع ((وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا))[الحاقة:17]، أما الآن فهي في غاية الدقة في البناء والإحكام؛ ولهذا قال: (مَا تَرَى).
(مَا تَرَى) ليس خطاباً خاصاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو خطاب لغير معين، يعني: لكل أحد، انظر بعينيك (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)، وهو أصلاً لما يقول: (مَا تَرَى) يُنبهك على أن الله أعطاك بصراً، فانظر في هذه السماوات بالنظر المجرد، أو انظر إليها من خلال المناظر والمناظير والتلسكوبات الفخمة الضخمة هل ترى في السماوات من تفاوت؟
والتفاوت هو: الاختلاف، التخالف، أن يكون بينها اختلاف، أو أن يكون فيها من شقوق أو صدوع.
((فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ))[الملك:3].
هو قال: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) يعني: كأنك نظرتها فلم تجد فيها شيئاً؛ ولهذا قال: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ)، انظر إلى السماء مرة أخرى (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)؟ يعني: من شقوق أو صدوع في السماء؟ لا، هذا يُدرك بالحس.
المراد بذكر الكرتين
قال سبحانه: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ))[الملك:4] (كرتين) هنا ليس المقصود مرتين فقط، لا، يعني: مرة بعد مرة، مثلما تقول -مثلاً- لمن ناداك، تقول له: لبيك وسعديك، يعني: أُجيبك إجابة بعد إجابة، مرة بعد أخرى، كرر، مثل قوله تعالى: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))[العلق:1]، ((اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ))[العلق:3] ليس المقصود أن تقرأ مرتين، ولكن مرة بعد مرة، يعني: كرر.
فهذا ليس مثل قوله تعالى: ((الطَّلاقُ مَرَّتَانِ))[البقرة:229]، لما يقول سبحانه: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) يعني: ليس ثلاثاً، الثالثة تبين بها المرأة، فإذا طلقها مرتين بعد ذلك يكون التسريح بإحسان لو طلقها مرة ثالثة؛ لأن المقصود ثنتين فقط، أما في هذه الآية فالله سبحانه وتعالى لما يقول: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) يعني: كرة بعد كرة، انظر، ثم انظر مرة أخرى، وأعد النظر ثالثة ورابعة، واستمر في ذلك، مثل (لبيك) كرر.
دلالات قرآنية في قوله تعالى (ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير)
((يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ))[الملك:4]، ولم يقل: يرجع؛ لأن كلمة (يرجع) جاءت، فقال: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ)، (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ)، فلم يناسب أن يقول: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) يرجع إليك البصر، وإنما قال: (يَنْقَلِبْ) من باب التنويع والتغيير في العبارة، بل إن كلمة (يَنْقَلِبْ) هنا أجمل؛ لأن النظرة الأولى كانت بداية عند الإنسان، قيل له: كررها، ارجع وانظر مرة أخرى، ثم ارجع مرة أخرى.
قال: (يَنْقَلِبْ) كأنه يرجع ويرتد إليك، (يَنْقَلِبْ) معناه: يرتد إليك، ويرتد -يعني- مكرهاً، فإن الإنسان نظر باختياره مرة أولى، وباختياره مرة أخرى، كأنه يبحث عن صدوع أو شقوق أو فطور أو تفاوت.
وهذا -كما قلت- كما أنه خطاب لآحاد الناس، وبسطاء الناس، وضعاف العلم، وضعاف المعرفة، والعاديين، هو خطاب لكبار الفلكيين، والمتخصصين، والعالمين، والعارفين، كلهم يشهدون بما في خلق السماء من الهول، والذهول، والإبداع، والعظمة.
حتى إنني قرأت في إحدى الصحف الأمريكية في صحيفة نيوزويك لعالم من كبار علماء الفلك قبل سنتين، يقول: إنه مكث سبعين سنة وراء هذه المجاهر والتلسكوبات، ينظر في السماء، وفي النجوم، ويراقب حركة الأفلاك، وبعدها أعلن على الملأ أنه يشهد بأن وراء هذا الكون خالقاً مبدعاً عظيماً حكيماً.
فسبحان الله! سبعين سنة من أجل هذه النتيجة، طبعاً هذه النتيجة مهما كانت هي نتيجة جميلة، لكن متى سيعبد هذا الإنسان ربه؟ متى سيؤدي بعض حقه عليه؟ متى سوف يُسبحه ويُنزهه؟
هذا هو السؤال، بينما إذا أقبل العبد على القرآن وجد مثل هذه المعاني التي توجهه إلى النظر في الكون، وتحثه على ذلك، وتحرضه ((ارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ))[الملك:3-4] تحدي.
يقول ربنا سبحانه وتعالى: ((يَنقَلِبْ))[الملك:4] يرتد ((إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ))[الملك:4]، وكأن هذا خطاب لإنسان حي مخلوق متميز، وليس للبصر الذي هو جزء من الإنسان، إشارة إلى النتيجة التي تتحقق لصاحب البصر، أن البصر يرجع خاسئاً، يعني: عاجزاً عن إدراك خلل أو نقص في السماء.
(وَهُوَ حَسِيرٌ) يعني: منقطع عن ذلك.
إشراقات في قوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ...)
قصد الجمال والزينة في خلق الكون
قال سبحانه: ((وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا))[الملك:5] على هذه الجودة، وعلى هذه القوة، والمتانة، والإحكام، ربنا سبحانه يقول: ((وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا))[الملك:5] يعني: واحدة من بين السماوات السبع الله سبحانه وتعالى ذكر لها الزينة.
إذاً: الجمال مقصد في الكون، وأنت لما ترى النجوم في الليل -خصوصاً في الصحراء- ترى هذه النجوم بإشراقها وتألقها وهمسها وتأثيرها، وطالما تغنى بها الشعراء، ووجد الناس فيها من المعاني الشيء العظيم، فالله سبحانه وتعالى يُبين أن الجمال هنا مقصود في الكون، مقصود في السماوات وفي الأرض وفي الخلق: ((وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ))[النحل:6].
فهنا الله تعالى ذكر الزينة: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) واحدة من السماوات القريبة منا، (بِمَصَابِيحَ) وهي النجوم، مثلما الناس يزينون -ولله المثل الأعلى- قبابهم وسقوفهم بالمصابيح، وأحياناً يسمونها الثريات، يعني: تشبيهاً لها بما هو في السماوات، لكن حينما ترى نجوم الناس ومصابيحهم وثرياتهم تجدها كلعب الأطفال صغيرة، ومع ذلك تجدها معلقة ومحكمة بالسلاسل وبالحديد وبالوسائل القوية، بينما الله عز وجل يجعل هذه المصابيح وهذه الشموس والأقمار والنجوم والكواكب الهائلة الضخمة التي لا يقدر قدرها إلا هو، ومع ذلك لا شيء يمسكها إلا النظام الرباني المحكم الذي جعله الله تعالى يحكمها ويمسكها؛ ولهذا قال: (زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) وهي النجوم والكواكب.
مقاصد خلق النجوم
((وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ))[الملك:5] يعني: ليست هي بذاتها؛ لأن المصابيح هذه ثابتة مستقرة، ولكن تنفصل منها هذه الشعل وهذه الشهب التي تضرب بها وترجم بها الشياطين حينما تحاول استراق السمع، كما في سورة الجن ((فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا))[الجن:9]، ((إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ))[الحجر:18]؛ ولهذا كان قتادة رضي الله عنه يقول: [جعل الله تعالى النجوم في السماء لثلاث: زينة للسماء -الجمال المقصود- ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأول غير ذلك فقد ضل وأضاع نصيبه].
طبعاً ليس مقصود قتادة أنها لم تخلق إلا لهذه الثلاث، الثلاث وردت في القرآن، كما قال سبحانه هنا: (زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) وقال سبحانه: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)، وقال في الآية الأخرى: ((وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ))[النحل:16]، لكن هذا لا يمنع أن يكون الله تعالى خلق النجوم لمصالح أخرى مما نعلم وما لا نعلم.
إنما مقصود قتادة وكلام الأئمة والسلف هو التشنيع على من يجعلون هذه النجوم مجالاً للتنجيم، وادعاء علم الغيب، والحظ، والنصيب، وما أشبه ذلك مما يقع فيه المنجمون والفلاسفة وبعض الفلكيين في العصور السابقة، والمفسدين الذين يخدعون الناس بزخرف القول، هذا هو المقصود، وإلا فما ثبت أنه من مصالح هذه النجوم في السماء، أو في الأرض، في البر أو في البحر، في الشتاء أو في الصيف، للإنسان أو للنبات، أو لغير ذلك؛ فهذا من المصالح، الشمس -مثلاً- خلقها الله سبحانه وتعالى لحكم عظيمة، هذه الحكم للإنسان، وللأرض، وللنبات، وللحيوان، وللجو، وللبحر أيضاً، فيها مصالح عظيمة لا يعرف البشر منها إلا القليل، ويجهلون الكثير، وكما قال سبحانه: ((وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا))[الإسراء:85].
معنى قوله تعالى (وأعتدنا لهم عذاب السعير)
قال سبحانه: ((وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ))[الملك:5] رجوماً لهم في الدنيا، ((وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ))[الملك:5] في الآخرة.
وكثيراً ما يذكر الله سبحانه وتعالى الشياطين فيذكر عذاب السعير، والسعير هي النار، أو دركة من دركاتها، وقد يجوز أن يقال: إن عذاب السعير هو الذي يُعذب فيه مردة الجن والشياطين، كما في قوله سبحانه في قصة الجن، قال: ((وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ))[سبأ:12].
ويجوز أن يكون المقصود النار وجهنم عموماً، كما في قوله تعالى في سورة الجن: ((فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا))[الجن:14-15].
إشراقات في قوله تعالى: (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير...)
((وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ))[الملك:6] يعني: السعير ليست فقط للجن أو لمردة الشياطين، بل العصاة من بني آدم لهم مثل ذلك، ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا))[محمد:10]؛ ولهذا عقب بقوله: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ)، يعني: من الإنس والبشر وأبناء آدم (عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
فيذكر الله تعالى هذا الوعيد ويتوعدهم به، ويُبين أنه مصير سوء ينتظرهم بسبب سوء عملهم، فهو بئس المصير على بئس العمل، كما قال سبحانه قبل قليل: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ)، فمظهر العزة أن الله تعالى يُعاقب هؤلاء الكافرين بعذاب جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
معنى قوله تعالى (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور)
ثم يذكر سبحانه بعض ما يلقونه فيها: ((إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا))[الملك:7] (ألقوا): يعني: بغير اختيارهم، تلقيهم الملائكة مكرهين، ((وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا))[الإسراء:97].
فيقول سبحانه: ((إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ))[الملك:7] الشهيق: هو صوت شديد جداً، وهو صوت النفس في الحلق.
(وَهِيَ تَفُورُ): من الفوران وهو الغليان، ويجوز أن يكون الشهيق هو صوت النار، وأن الله تعالى يجعل لها يوم القيامة ما ليس للنار في الدنيا، فيكون لها صوت وشهيق، كما جاء في مواضع أخرى، وهذا هو ظاهر النص، وينبغي أن يكون هو المعتمد ، وبعضهم قالوا: إن المقصود بالشهيق شهيق أهل النار الذين دخلوها قبل هؤلاء، كما قال سبحانه: ((لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ))[هود:106-107]، فيكون هذا صوت المعذبين فيها، أو صدر منهم -يعني: من هؤلاء الذين ألقوا فيها- هذا الزفير وهذا الشهيق.
(وَهِيَ تَفُورُ): يعني: تغلي وترتفع وتنحدر بأهلها.
معنى قوله تعالى (تكاد تميز من الغيظ)
((تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ))[الملك:8] يعني: تتقطع، على أنها متصلة بعضها ببعض إلا أنها تكاد أن تتقطع من شدة الغيظ والغضب والحنق على هؤلاء الكافرين، وهذا أيضاً ينبغي أن يُحمل على ظاهره، وأن الله تعالى يجعل هذا في النار يوم القيامة؛ لأنها ليست كنار الدنيا، وليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء، فالعذاب في الآخرة ليس كعذابنا في الدنيا، وجهنم ليس كما يتخيل الواحد -مثلاً- في عقله أنه لو وضع حفرة كبيرة، ثم وضع فيها الجمر، ووضع فيها الحطب، ووضع فيها النيران، فهذه لا تقاس بنار الآخرة، وإنما كما قال الله سبحانه وتعالى: ((نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ))[الواقعة:73]، وهكذا الجنة، فليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء.
فنقول: إن قوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) ينبغي أن يُحمل على ظاهره، ويكون هذا في الآخرة.
ويجوز أن يكون -كما قال بعضهم-: أن المقصود هنا التعبير عن شدة الغضب، كما يقال: إن فلاناً غضب حتى خرجت منه شعبة إلى السماء وشعبة في الأرض، ويقصد من وراء ذلك شدة الغيظ والحنق الموجود.
معنى قوله تعالى (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير)
ثم يقول ربنا سبحانه: ((كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا))[الملك:8] (كُلَّمَا): هذه تدل على التكرار، وأنه يلقى في النار فوج بعد فوج، فكما أن المؤمنين يحشرون أفواجاً إلى ربهم وإلى الجنة، فكذلك المشركون والمكذبون يحشرون إلى النار أفواجاً، وكما قال ربنا سبحانه: ((يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ))[الإسراء:71]، فيُحشرون أفواجاً، إما بحسب الأمم، وإما بحسب درجة الكفر، وإما بحسب نوع الضلالة التي ارتكبوها، فـالوثنيون -مثلاً- طبقة، وعبدة النار طبقة، ومكذبو الرسل طبقة، والملحدون الذين لا يؤمنون بالله تعالى طبقة، وهكذا مما يعلمه الله تبارك وتعالى.
المهم (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ) يعني: ملأ، أو مجموعة، أو دفعة من الناس، ألقوا فيها جميعاً.
إذا ألقوا ((سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا))[الملك:8] والخزنة: جمع خازن، وهم الملائكة الموكلون بالنار، الخزّان، والمقصود هنا: القائمون عليها، وإلا فأصل الخزن يكون في الأشياء التي تحفظ، وإنما المقصود أنهم قائمون على النار، وعلى عذاب أهل النار.
فالله سبحانه وتعالى يقول: يسألهم الخزنة فيقولون لهم: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ))[الملك:8] ما جاءكم رسول؟! فيرد هؤلاء.
والنذير: هو المنذر المبلغ، ما قامت عليكم الحجة؟! ما سمعتم النبي؟! ما جاءكم كتاب؟ يسألونهم، وهذا السؤال لإقامة الحجة والبلاغ؛ ولهذا كان يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (لن يدخل أحد النار إلا وقد أعذر من نفسه)، ما هناك واحد يدخل النار ويقول: أنا مظلوم يا رب، لا، الآن في الدنيا -مثلاً- لو تأتي للسجن تجد كل إنسان يقول: أنا مظلوم
لن يدخل السجن إنسان فتسأله ما بال سجنك إلا قال مظلوم
وإذا إنسان تعرض لأي شيء في الدنيا ففي الغالب أن الإنسان يقول عن نفسه: إنه مظلوم، سواء كان فعلاً مظلوماً، أو يظن أنه مظلوم، أو يريد أن يقول: إنه مظلوم ولا يريد أن يعترف بخطأ، لكن في الآخرة من كمال عدل الله عز وجل أنه ما هناك أحد يدخل النار وهو يقول: أنا مظلوم أبداً، يدخل وهو قد أعذر من نفسه.
دلالة قوله تعالى (قالوا بلى قد جاءنا نذير)
فهؤلاء يسألونهم: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ))[الملك:8-9]. إذاً: هذا دليل على أن المقصود بالعذاب هم من بلغتهم الحجة، وجاءهم النذير، جاءهم الرسول، وجاءهم القرآن، وجاءهم البلاغ، فأصروا، وكذبوا، واستكبروا، هؤلاء هم الذين يدخلون النار ويعذبون بها، ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))[الإسراء:15].
أما أهل الفترة الذين ماتوا قبل الإسلام، أو ماتوا بعد الإسلام، لكن لم تبلغهم الرسالة، ولم تبلغهم الحجة، ولم تصل إليهم الدعوة؛ فهؤلاء لا يُحكم عليهم بهذا المصير، وإنما يكون أمرهم إلى الله عز وجل فيما يقتضي كرمه وعدله جل وعز.
إقرار الكفرة بتكذيبهم بما جاءت به الرسل ورد الملائكة عليهم
فهؤلاء قالوا: ((بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ))[الملك:9]، جاءنا رسول ((فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ))[الملك:9]، جاءنا رسول يُبلغ عن الله سبحانه وتعالى (فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) أبداً، نفي مطلق، يعني: لا أنتم ولا غيركم، فكأنهم نفوا جميع الرسل، وجميع الكتب، وجميع الشرائع؛ لأن قوله: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) (مِنْ) هنا تدل على استغراق جميع الأشياء، يعني: كما قال سبحانه: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا))[الأنعام:91].
((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ))[الملك:9] يجوز أن يكون هذا من تمام كلامهم، أنهم كانوا يسخرون بالنذير، بالنذر والرسل، ويقولون لهم في الدنيا: إنكم في ضلال ضائعون، وليس ضلالاً فقط، وإنما ضلال كبير، أنتم ضالون ضلالاً كبيراً، يعني: واسعاً عظيماً، فيكون هذا من كلام أهل النار في الدنيا للرسل الذين جاءوهم وبلغوهم.
ومن الإعجاز أن يكون هذا الكلام نفسه يصلح أن يكون من كلام الخزنة للكفار، يعني: كأن الكلام الذي كنتم أنتم تقولونه للرسل في الدنيا إنما ينطبق عليكم أنتم الآن؛ ولهذا الخزنة أيضاً يقولون لهم: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ)، كيف يأتيكم رسل بالبينات والهدى والحجج ثم تكذبون وتقولون: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)؟! (إِنْ أَنْتُمْ) يا أهل النار (إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ).
ولهذا قال سبحانه: (وَقَالُوا)، والدليل على ذلك أنهم قالوا: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ)، يعني: خطاب للجمع، للفوج من أهل النار الذين ألقوا فيها فخاطبهم خزنتها بقولهم: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ).
عظيم ندامة الكفرة بتركهم الاستهداء بدلالة السمع والعقل
((وَقَالُوا))[الملك:10] يعني: رجع الكلام لأهل النار ((لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ))[الملك:10]، وقدموا السمع، وهذا دليل على قوة حجة السمع، والسمع يعني الوحي، وإقامة الحجة من الرسل والأنبياء، حجة القرآن الكريم على من بلغه هذا القرآن أن يتدبر ويتأمل ويقرأ ويفهم ويتمعن، فهذا معنى السمع، وأيضاً أن يستمع للواعظين والمرشدين والمصلحين، وأن يستمع للآيات والدلائل والعبر والحجج.
فهؤلاء قالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ)، وهم كانوا يسمعون بآذانهم، لكن لم يكن سمع المنتفع المستفيد، كما قال سبحانه: ((وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ))[الحاقة:12]، فهؤلاء كان لهم آذان ولكنها غير واعية.
ومن هنا تأسفوا وقالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) أيضاً إشارة إلى العقل، وأنه من أعظم النعم، ولا يخاطب بالديانة أصلاً إلا من لهم عقول، فإن العقل هو مناط التكليف، ومناط الحجة على العباد، وغير العاقل غير مكلف؛ ولهذا يجب أن ندرك من هذا ومثله أن الله سبحانه وتعالى يخاطب العقول، ويحتج على الناس بالعقول، ويأمر الناس بتحريك هذه العقول، والانتفاع بها، والتبصر، والنظر -مثلاً- في السماوات أو في الأرض، كما قال سبحانه قبل قليل: ((فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ))[الملك:3] هذا بصر، ولكن البصر لا يفيد الإنسان إلا إذا كان له عقلٌ يتدبر، ويستفيد من العبرة.
فقالوا هنا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ)، وربما كانوا يعقلون في أمر الدنيا، تجد الواحد منهم -مثلاً- في الحسابات، وفي المصالح الدنيوية، والمادية، والمكر، والكيد، والتخطيط، أو في السياسات إن كانوا أصحاب سياسة، أو في التجارات إن كانوا أصحاب تجارة، أو في الخطط المختلفة، ربما كانوا متفوقين جداً، لكنها كانت عقولاً نفعية، عقولاً مادية، عقولاً معيشية، ولم تصل هذه العقول إلى أن تخترق حجب المادية، وترشد أصحابها إلى أن يعملوا لأخراهم كما يعملوا لدنياهم، وأن يحرصوا على أن يحسنوا العمل للآخرة كما يحسنوا العمل للدنيا.
ولهذا قالوا: ((لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ))[الملك:10] إذاً: هم من أصحاب السعير، وهم مستحقون لذلك.
عاقبة التكذيب والكفر والجحود
ولهذا قال: ((فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ))[الملك:11] اعتراف، والاعتراف -كما يقال- سيد الأدلة، ما بعد هذا الاعتراف شيء، يعني: من ذا الذي سوف يدافع عنهم، وهم الذين قاموا بالاعتراف بالذنب واستحقاقهم لهذا العذاب.
قال سبحانه: ((فَسُحْقًا))[الملك:11] يعني: ذهاباً وهلاكاً وبواراً ودماراً.
((لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ))[الملك:11] صاروا أصحاب السعير، صارت لهم، وهم لها، يُكوون ويصلون، ولهذا قال سبحانه: ((لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ))[الحشر:20].
هنا قال: ((فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ))[الملك:11]، هذا لون للعاصين الكافرين الذين أخفقوا في الابتلاء، وأساءوا في العمل، فالله تعالى انتقم منهم؛ لأنه العزيز.
إشراقات في قوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير)
بقينا فيمن أحسنوا ونجحوا في الابتلاء، فأحسن الله إليهم وغفر لهم؛ لأنه الغفور، فهو العزيز الغفور، ولهذا ناسب هنا أن يقول سبحانه: ((إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ))[الملك:12] يخافون الله تعالى بالغيب، يخافون الله والله غيب لم يروه، وإنما قامت الحجج والبينات الكونية والعقلية والسمعية على وجوده وألوهيته ووجوب عبادته، هذا معنى (بالغيب).
يخشون ربهم بالغيب، وهم لم يروا الآخرة، ولكنهم آمنوا بها بخبر الصادق المصدوق.
(يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) يعني: في الخلوة، وهم في غرفهم الخاصة بعيداً عن عيون الناس، ليس خوفهم أو تظاهرهم بالخوف رياءً، ولا مجاملةً، ولا نفاقاً، وإنما يخافون الله تعالى بالغيب، هؤلاء (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)، فهذه المغفرة من الغفور سبحانه، فهو العزيز الغفور، ولهم أيضاً أجر كبير؛ لأن المغفرة لو اقتصر عليها ربما فهم منها محو الذنوب والتسامح عنها، لكن لما قال: (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) يعني: جزاءٌ عظيم من الله تبارك وتعالى.
إشراقات في قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور...)
مناسبة الآية لسابقتها
قال سبحانه: ((وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ))[الملك:13] هنا قوله: (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) إشارة إلى عظمة الإيمان، وأن الإيمان يقوم على الإيمان بالغيب الذي لم يروه، فناسب أن يقول: ((وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ))[الملك:13] يعني: سواء كان الإنسان في الملأ أو في الخلاء؛ فالله تعالى مطلع عليه، وإذا تكلم العبد سراً أو تكلم جهراً فالله تعالى يسمعه.
و((قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ))[المجادلة:1]، كانت عائشة رضي الله عنها في طرف الحجرة لا تدري ماذا تقول، وسمعها الله تعالى من فوق سبع سماوات، فأنزل قوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ).
وقال سبحانه: ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ))[آل عمران:181].
ولما جاء ثلاثة نفر، وقالوا: هل يسمع ربنا أو لا يسمع، وتكلموا، وقال بعضهم: إن جهرنا سمع، وإن أخفينا لم يسمع، قال سبحانه: ((وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ))[فصلت:22-23]؛ ولهذا قال سبحانه بعدما قال: (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) قال: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ)، يعني: تهمس أو تصرخ الله تعالى يسمع، وهما عنده سواء، لماذا؟ لأنه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أصلاً هو عالم بهذا المعنى في قلبك حتى قبل أن تنطق به، بل عالم به قبل أن يكون معنى في قلبك أنه سيكون، والوسوسة التي في خاطرك الله تعالى يعلمها.
ولهذا قال سبحانه: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يعني: بالحاجة التي ما زالت بالصدر لم يبح بها صاحبها ولم يتكلم، كما قال سبحانه: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا))[المجادلة:7]، وكما قال سبحانه: ((يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى))[طه:7]، وأخفى من السر، السر الذي لا يعلم به صاحبه ما لم يكن سراً، ولكنه سوف يكون سراً، فالله تعالى يعلمه.
ومن هنا قال: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُم)، هذه الرقابة الإلهية التي لا يفوتها شيء هذه من آثار الإيمان، تجعل المؤمن يتعامل مع ربه سبحانه في كل الظروف والأحوال وهو يشعر أن الله تعالى مطلع ورقيب وحسيب لا يفوته شيء، ولا يخفى عليه شيء.
وأيضاً كان من مناسبة هذا السياق أن بعض المشركين الذين كانوا يسخرون من المؤمنين، ويعاندونهم، ويعارضونهم، كانوا يقولون: إن الله تعالى يسمع كلامنا إذا جهرنا، ولا يسمع إذا أسررنا، ولذلك اهمسوا لا يسمعكم إله محمد، فالله تعالى فضحهم وبين أنه حتى هذا الهمس الله تعالى يسمعه ويعلمه، وينزل فيه قرآناً يتلى: ((وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ))[الملك:13].
معنى قوله تعالى (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)
ما الغرابة في ذلك؟ ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))[الملك:14]؟! كيف لا يعلم وهو الخالق؟!
فقوله: (مَنْ خَلَقَ) يعني: الله، ألا يعلم الله سبحانه وتعالى الخالق واللطيف الخبير؟! ألا يعلم؟! بلى يعلم.
وأيضاً من معاني (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) يعني: ألا يعلم الله من خلق، ألا يعلم الله خلقه المخلوقين، هل الله لا يعلم عبده الذي خلقه؟! هذا شيء خلاف العقل؛ لأنه إذا كان الله تعالى هو الخالق للإنسان بكل تفاصيله ودقته -وقد قال سبحانه: ((وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[الملك:1]- بعد ذلك لا بد أن يكون هذا الخالق القدير عليماً مطلعاً على كل شيء، لا يفوته شيء، ولهذا قال: (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
و(اللَّطِيفُ): اللطف: هو الشأن الخفي، تقول: خبر لطيف، أو شيءٌ لطيف، يعني: خفي المدخل، ليس واسعاً، ولا كبيراً، الشيء اللطيف اليسير.
إذاً: لما يقول: (وَهُوَ اللَّطِيفُ) يعني: الذي يعلم دقائق الأشياء، وتفاصيلها، ومعانيها، ومفرداتها، هذا من خصوص معنى (اللَّطِيفُ).
و(الْخَبِيرُ): هو صاحب الخبرة التامة، ومن خصوص معنى (الْخَبِيرُ) الذي يعلم الأشياء قبل وقوعها، وقبل حدوثها أيضاً، فهذا قوله: (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) يناسب قوله: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ)، فالله لطيف يعلم السر ويعلم الجهر، ويعلم الدقيق والجليل، والكبير والصغير، وكلام الاثنين والثلاثة والأربعة والخمسة.
وقوله: (الْخَبِيرُ) مناسب لقوله: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، فيعلم الكلام حتى قبل حصوله، والمعنى حتى قبل وقوعه.
إشراقات في قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً ...)
ثم يقول سبحانه في ضمن السياق والاحتجاج: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ))[الملك:15] هذا من فضله وحجته على عباده، فهي نعمة تحتاج إلى شكر، وآية تحتاج إلى إيمان.
(جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) (لَكُمُ) الأرض مخلوقة لكم، سخرها لكم، وذللها لكم.
(الْأَرْضَ ذَلُولاً) مذللة، والناس يعرفون الذلول، البعير المذلل يركبه الصغير ويركبه الكبير، وربما ضربه أو استعجله وهو ساكت مطرق، فالله سبحانه وتعالى قال: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) هادئة مسخرة، يحفر الناس فيها، يناسب فيها الحفر، ويزرعون فيناسب الزرع، ويدفنون فيناسب الدفن، ويبنون فيناسب البناء، ويتحركون عليها ويمشون، فالأرض مذللة لكل ما هو صالح للبشر، كما قال سبحانه: ((أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا))[المرسلات:25-27]، فهو هنا (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) مثل الذلول البعير المعبد المذلل.
قال: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) وهذا إذن إباحة ورضا من الله سبحانه وتعالى، وقد يتضمن أمراً شرعياً، أو مصلحياً، أن يسير الناس في مناكب الأرض لمصالح الدين أو لمصالح الدنيا، ((وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ))[المزمل:20]، يعني: بالتجارة، ((وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[المزمل:20] مصالح الدنيا ومصالح الدين.
(فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) والمنكب في الأصل هو الكتف، يسمى منكب الإنسان، وللأرض مناكب، هذه المناكب قد تكون هي الجبال كما نقل عن ابن عباس ؛ لأنها مرتفعة في الأرض مثل المناكب، والمناكب أيضاً هي الطرق التي يسير الناس فيها مذللة معبدة ميسرة، ولكن قوله سبحانه: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) إشارة إلى أن الناس راكبون على هذه الأرض الذلول المسخرة لهم، ما تثور، ولا تضطرب، ولا تميد، ولا تتزلزل، وإنما هي مسخرة بأمر ربها سبحانه، فيقول سبحانه: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) كأنهم يمشون على هذه المناكب.
(وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الذي يخرجه لكم من هذه الأرض، أو ينزله لكم -سبحانه- من السماء، كما قال: ((وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ))[الحديد:25].
دلالة قوله تعالى (وإليه النشور)
(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) لأن الإنسان وإن مشى وأكل وشرب عليه أن لا ينسى أن الحياة إلى نهاية، و((إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى))[العلق:8] ولهذا قال: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) يعني: أن الناس ينشرون ويبعثون، النشر: هو البعث.
لَو أَسندت ميتاً إلى صدرها قام ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر
فالنشور يعني: الحياة بعد الموت، (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، فالله سبحانه وتعالى هنا يقول: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) يعني: كلوا واشربوا وتمتعوا وتنعموا بما أحل الله لكم، وامشوا في مناكب الأرض، وتمتعوا بمناظرها الجميلة، وحدائقها الغناء، وبحارها، وجبالها، وسهولها، ووديانها، وبالسماء وبنجومها أيضاً، لكن لا تنسوا (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).
إشراقات في قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور)
يقول ربنا جل وتعالى: ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ))[الملك:16]، والسياق هنا واضح: (أَأَمِنْتُمْ) أيها الناس، هل أمنتم؟! ((أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ))[الأعراف:99].
وليس المقصود أن المؤمن لا يركن إلى ربه سبحانه ويطمع في فضله، وإنما المقصود الغفلة عن هذه النعم، والغفلة عن هذه الآيات، فربنا سبحانه يذكرهم على فرض أن هذه الآيات أو بعضها قد رفعت عنهم، فيكف يكون شأنهم؟
(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ))[الزخرف:84]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)، في الحديث السابق.
فالله تعالى في السماء كما ذكر في هذه الآية الكريمة، والمقصود الله عز وجل، ولا نقول: إن المقصود -مثلاً- الملائكة، أو غير ذلك، وإن كان الله تعالى يسلط رسله على من يشاء، فالله عز وجل قادر على أن يخسف بهم الأرض، هذه الأرض الهادئة الساكتة الذلول ربما تهتز وتضطرب تحت أقدامهم يوماً من الأيام.
(óفَإِذَا هِيَ تَمُورُ) يعني: ترتج، وأحياناً الزلزال لا يستغرق إلا بضع ثوان، وإذا بناطحات السحاب تصطفق، وإذا بالمباني تنهار، وإذا بالبحار تتدفق ذات اليمين وذات الشمال، وإذا ببضع ثوان يكون ضحاياها أحياناً مئات الآلاف من البشر، هذا للحظة واحدة فقط، مع أن الأرض وضعت أصلاً لتكون صالحة للحياة البشرية عليها، وزودت بكل ما يحتاجه الإنسان من مقتضى رحمة الله عز وجل، ولهذا هذه السورة الكريمة في الواقع هي سورة الرحمة؛ لأن فيها مظاهر الرحمة في السماء، وفي الأرض، وفي خلق الإنسان، وفي الإمهال أيضاً، ولهذا تكرر فيها لفظ (الرَّحْمَنُ) -يمكن- أربع مرات أو أكثر.
فهو هنا سبحانه يقول: ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ))[الملك:16] تضطرب وترتج وتميد.
إشراقات في قوله تعالى: (أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً ...)
((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا))[الملك:17] يعني: هذا نوع ثان من العقاب، هب أن الأرض سكنت وسكتت، الله تعالى قادر على أن يبعث عليكم ريحاً قاصفاً فيهلككم بهذه الريح التي تضرب وجوهكم بالحصباء والحجارة.
(أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً) سواء كان هذا الحاصب من السماء أو من الأرض نفسها.
(فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ): إذا حدث هذا أو ذاك علمتم كيف يكون نذير الله تعالى لكم، يعني: قد أنذركم من ذلك، وحذركم منه، وأمركم بطاعته، وقال سبحانه: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))[الروم:41].
إشراقات في قوله تعالى: (ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير)
قال سبحانه: ((وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ))[الملك:18]، كذبت قبلهم أمم من الأقوام السابقة، كذبوا رسل الله عز وجل (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ)، يعني: فكيف كان إنكار الله تعالى عليهم بتكذيبهم؟! كان إنكاراً شديداً، وأخذاً أكيداً، ونزعاً سريعاً.
إشراقات في قوله تعالى: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ...)
قال سبحانه بعد ما ذكر لهم الأرض، وذكرهم بها، وبنعمة الله تعالى عليهم بسكونها وهدوئها، وتوفير كل وسائل الحياة عليها، انتقل إلى الفضاء والهواء، قال: ((أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ))[الملك:19] يعني: كثير من الناس تقتلهم العادة، اعتادوا أن يمشوا على الأرض، ولهذا مهما كلمتهم عن معجزات الأرض لا ينتبهون ولا يستيقظون، فالله تعالى ضرب لهم مثلاً في الفضاء، قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ) الطيور فوقهم في السماء، الطيور ليست على الأرض، وإنما جعل الله تعالى مجالها الفضاء والهواء فوق الناس.
(صافات ويقبضن) يعني: تصف الطيور أجنحتها عند الطيران، فإن الطير إنما يكون طيرانه من خلال صف هذه الأجنحة، وهذا الريش الذي جعله الله تعالى، فيصف هذه الأجنحة ويطير بها، بمقتضى ما جعل الله تعالى من تكوين جسمه، ومن قدرته على الطيران، ومن تسخير الهواء وقابليته لذلك.
قال: (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) يعني: الأصل أنها خلال الطيران صافات، ولكن أحياناً تقبض ليساعدها هذا على سرعة الطيران واستمراره، الناس يستغربون، وكثير من الناس إذا رأوا شيئاً لأول مرة اندهشوا منه، يعني: الإنسان الذي يرى الفيل وعمره عشرين سنة لأول مرة يراه يستغرب من هذا الخلق الهائل، ولكن لأنه تعود على رؤية البعير منذ أن كان طفلاً صغيراً لا يلفت نظره، فالعادة أحياناً تحرم الإنسان من كثيرٍ من الاعتبار.
الله سبحانه وتعالى يقول: ((مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ))[الملك:19] هذه الطيور لا تمسكها إلا إرادة الله عز وجل، لا يمسكها إلا الله، ليس يمسكها سلسة ولا شيءٌ، وإنما يمسكها الله عز وجل الذي ((يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا))[فاطر:41].
معنى قوله تعالى (إنه بكل شيء بصير)
((إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ))[الملك:19] يعني: البصير هنا معناه: المبصر الذي لا يفوته شيءٌ، فهو يرى كل شيء، وأيضاً من معاني (البصير) يعني العليم بما يصلح الأشياء، كما تقول: هذا الإنسان بصير بهذا العمل، أو بصير بهذه الآلة، أو بصير بهذا الشيء، يعني: أنه صاحب بصيرة، وصاحب معرفة به، فقوله سبحانه: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) يعني: يرى هذه الأشياء وهو بصير بها، عالم بما يصلحها.
إشراقات في قوله تعالى: (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن...)
قال سبحانه بعد ما احتج عليهم بالأرض وما جعل فيها، والطير وما سخر لها، قال: ((أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ))[الملك:20] من هو؟ من هذا الجند؟
جند لكم خاص بكم أنتم ينصركم غير الله سبحانه وتعالى، ومن دون الله ليس بإذن الله، ولا بأمر الله، الله تعالى له جنود: ((وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ))[المدثر:31]، لكن هؤلاء جند من دون الرحمن، من هؤلاء؟ جندكم الشياطين، جندكم الأوثان التي تعبدونها.
((إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ))[الملك:20] غرور: خديعة كبيرة، الخديعة هذه يفيقون منها عند الموت، أو يفيقون منها في الآخرة، ولات ساعة مندم.
معنى قوله تعالى (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ...)
((أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ))[الملك:21] هل هناك أحد إذا الله تعالى أمسك عنكم الرزق، هل أحد غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟! أبداً، قال سبحانه: ((بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ))[الملك:21].
فهذا فيه إشارة إلى أن الله تعالى ينزل عليهم المطر، والمطر تقوم عليه حتى حياة الأرض والنبات ((أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ))[الزمر:21].
وأهل مكة كانوا يعتمدون كثيراً على الآبار الموجودة في مكة ، ولو أن السماء توقفت عن المطر لجفت هذه الآبار، ولهذا قال في آخر السورة: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ))[الملك:30].
وهنا قال: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) إن أمسك الله تعالى عنكم رزقه، (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) لا أحد يرزقكم إلا الله.
قال سبحانه: (بَلْ لَجُّوا) يعني: أصروا وأمعنوا.
(فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) في أمرين:
الأمر الأول: العتو، والعتو هو الكبرياء، التكبر في نفوسهم، الاعتداد بالمال والولد والأهل والجاه والمنزلة والدنيا.
والنفور هو: الإعراض، لا يحبون أن يسمعوا تذكيراً، ولا وعداً، ولا وعيداً، ولا خيراً، ولا أن يغيروا ما هم فيه من الضلالة، فهم مصرون عليه.
إشراقات في قوله تعالى: (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم)
قال ربنا سبحانه مُعَجِّباً من حالهم، ومقارناً بينهم وبين الأنبياء وأتباع الأنبياء: ((أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[الملك:22] هذا مثال، المعنى: هل الإنسان الذي يمشي على صراطٍ مستقيم، على طريق واضح، وليس فيه انحراف ولا اعوجاج، وهذا الإنسان يمشي سوياً، يعني: قائماً على قدميه، هذا الإنسان أفضل وهو مستقيم في مشيته، والطريق أيضاً مستقيم، هذا مثال واضح للإنسان الذي هو على صراطٍ مستقيم، على صراط الله سبحانه وتعالى، هذا أفضل أم من هو مكب على وجهه؟ يعني: خسر الثنتين، فهو ليس مستقيماً، وإنما هو مكب على وجهه، يعني: أكثر مشيه وهو ينظر إلى الأرض؛ لأنه يبحث عن الطريق، مضيع، فهو يبحث عن معالم الطريق، وربما يكون في ليل مظلم، فلا يعرف الجادة، وإنما دائماً وأبداً تجد أن رأسه إلى الأرض يبحث عن الطرق وعن العلامات فلا يهتدي إليها.
وأيضاً هو ضمن هذا الطريق يمشي في طريق غير واضح، ولهذا يعثر، هذا معنى (مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ)، بعد كل قليل يسقط على وجهه؛ لأن الطريق ليس معبداً، ولا مستقيماً، وهو أيضاً هنا لا يعرف طريقه، الأول طريقه مستقيم، لكن هذا الإنسان لا يعرف الطريق.
إذاً: الطريق عنده غير معروف، وهو أيضاً في مشيته غير مستقيم، وإنما (مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ)، فهذا هو الفرق بين طريق المؤمنين، وطريق الكافرين.
فالله سبحانه وتعالى يضرب لهم هذا المثل، ويدعوهم إلى هذا التأمل: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ) منكباً على وجهه، مضيعاً لطريقه، لا يهتدي إلى سبيل أفضل وأهدى، (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
إشراقات في قوله تعالى: (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار قليلاً ما تشكرون)
يقول ربنا سبحانه: ((قُلْ))[الملك:23] تأكيداً على معاني النعم والآيات، نعم للشكر، وآيات للاعتبار، ((قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ))[الملك:23] الله سبحانه وتعالى خلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، طفلاً، ثم مراهقاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ((وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ))[النحل:70]، هو الذي أنشأكم وخلقكم، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)، هذه الثلاثة: الأسماع والأبصار والعقول.
إذاً: الأشياء الحسية هذه الأدلة الحسية الملموسة، الأدلة السمعية القائمة، الأدلة العقلية، هذه الوسائل الثلاث للمعرفة، كما قال سبحانه: ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا))[الإسراء:36]، هذه المصادر التي يهتدي بها الإنسان إذا الله تعالى أراد له الهداية؛ ولهذا قال: (جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)، وأهل النار ماذا يقولون؟ يقولون: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ).
(قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ): إذاً هذه آيات، سواء كانت في أنفسكم من السمع والأبصار والأفئدة، أو في السماء، أو في الأرض، أو في الطير (قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)، ولو قضيتم حياتكم كلها شكراً لله سبحانه وتعالى ما أديتم حقيقة الشكر، لكن (إن الله يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها).
إذا كان شكري نعمة الله علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر
إشراقات في قوله تعالى: (قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون)
((قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))[الملك:24]:
(ذَرَأَكُمْ): يعني: نشركم، وهذا دليل على نشر هائل جداً وكبير، وأنت ترى اتساع الناس، وتزايد الأعداد البشرية، ومع وجود ألوان من الخدمات الصحية والتسهيلات واكتشاف الأمراض، أصبحت الأعداد تزداد بشكل كبير جداً، أعداد الناس، فهذا جزء من آية الله تعالى في قوله: (ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ)، يعني: نشركم فيها بعد أن كنتم قليلاً، ومن نفس واحدة، فالله تعالى وزعكم ونشركم في الأرض التي خلقها لكم، وسخرها لكم، وجعلها مذللة معبدة ساكنة، وسلطكم عليها.
(وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لا بد من هذا التذكير (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، والكافرون يريدون أن يستمتعوا بالأرض ويتنعموا، لكن لا يريدون أحداً يذكرهم بالآخرة، يريدون أن يقولوا: ((حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ))[الجاثية:24]؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى يؤكد عليهم ويلح عليهم بقضية الإيمان بالحشر والبعث؛ لأن هذا هو الفيصل بين الإيمان والكفر: ((إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ))[ص:46-47].
إشراقات في قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)
فهنا سبحانه وتعالى يقول: (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، فهم يتساءلون يقولون: أكثرتم علينا الموت والبعث والجزاء والحساب فمتى؟
فالله تعالى يُعجِّب من حالهم: ((وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))[الملك:25]، يعني: وعد البعث والحساب متى هو إذا كنتم صادقين؟! يعني: هم لو كانوا يؤمنون به ما سألوا هذا السؤال؛ لأن سؤالهم كان على سبيل التعجيز، وعلى سبيل الإنكار، وإلا فإن الرجل الذي جاء لنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (يا رسول الله! متى الساعة؟) كان يسأل سؤال مستفهم، جاهل يسأل عالماً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا أعددت لها؟ قال: والله ما أعددت لها كبير صوم ولا صلاة، ولكني أحب الله ورسوله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت).
فهنا يقولون: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)؟
معنى قوله تعالى (قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين)
قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ))[الملك:26] يعني: ليس إلي تحديد وقت الساعة ولا أمرها، حتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له ربه سبحانه: ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا))[الأحزاب:63]، ويقول: ((يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا))[الأعراف:187] عالم بها، ((قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ))[الأعراف:187]، فهو هنا يقول: لا أدري متى الساعة، ولكن أنا نذير مبين فقط، مهمتي هي النذارة، وإقامة الحجة عليكم والبلاغ، وأما علم الساعة ومتى تكون فهو عند الله سبحانه وتعالى، ولكن أمرها قريب.
حال الكفرة عند معاينة ما كانوا ينكرونه
ولهذا قال ربنا سبحانه: ((فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً))[الملك:27] هذا الأمر الذي ينكرونه ويتساءلون: متى؟ (رَأَوْهُ زُلْفَةً) أمام عيونهم مزلفاً قريباً، ومعنى الزلفة: يعني الشيء القريب، كما قال سبحانه: ((وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ))[الشعراء:90]، ((وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ))[التكوير:13] يعني: قُربت لأهلها حتى يدخلوها.
(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) يعني: قريباً منهم أمام عيونهم، وهذا يجوز أن يكون المقصود به الموت، أو عذاب يوم بدر، أو العذاب الذي يلحق الكافرين والمشركين والمعاندين، أو يكون المقصود به الآخرة والبعث، وأنهم إذا حدث هذا الحدث ورأوه زلفة هنا ((سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا))[الملك:27] ضربت بالسوء، انظر: سيئت وجوههم، سبحان الله! لأن الوجه هو المؤشر الذي يُعبر عما في قلب الإنسان وضميره وإحساسه، فيقول: سيئت وجوههم، يعني: أظلمت، وأصابها السوء؛ لأنهم أصحاب سيئات.
((وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ))[الملك:27].
(وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ): (قيل): إما من قِبل الملائكة، يقولون لهم: هذا الشيء الذي كنتم تستعجلونه، (تَدَّعُونَ) يعني: تطلبونه وتدعون به وتسألون به: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ))[المعارج:1] متى هو؟ كما قالوا: ((أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))[الأنفال:32].
(هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) وتستعجلون، أو يقول بعضهم لبعض أيضاً: إنه هذا الأمر الذي كنا ننكره، كما قالوا: ((مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ))[يس:52] قالوها لكن بعد فوات الأوان.
إشراقات في قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا ...)
قال ربنا سبحانه: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ))[الملك:28] هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، يُخاطب هؤلاء القوم، (قُلْ) لهم يا محمد: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين. ((أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ))[الملك:28] نحن عبيده، وهو ربنا، آمنا به، وعليه توكلنا، لكن أنتم من يُجيركم من هذا العذاب الأليم، يعني: هم كانوا يقولون يا محمد! ويا معشر المؤمنين به والمؤمنين بالأنبياء! إن نزل عذاب سوف يصيبكم كما يصيبنا، وإن كانت الآخرة فسيكون لنا ما ليس لكم من الجنات والأنهار والنعيم، فهنا القصة أن يقال لهم: دعوكم مع أنفسكم، دعوكم منا ومن شأننا، لا تشغلوا أنفسكم بنا، لكن تأملوا في أمركم أنتم، نحن إذا افترضنا أن الله تعالى أهلكنا كما تتمنون، وكما تدعون، وكما تتوعدون، أو رحمنا كما نأمل ونرجو من ربنا، لكن بالنسبة لكم من يجيركم من عذاب أليم؟! لا أحد.
إشراقات في قوله تعالى: (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا ...)
قال: ((قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا))[الملك:29] نحن آمنا بربنا، وتوكلنا عليه، ونظن به ظناً حسناً أنه لن يُهلكنا، وإنما نأمل أن يرحمنا بفضله ورحمته، وهو أرحم الراحمين ((وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ))[المائدة:84]، لكن أنتم ليس لكم ذلك.
دلالة الجمع بين الإيمان والتوكل
وانظر كيف جمع بين الإيمان والتوكل (آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا) إشارة إلى تحقيقهم للعبادة، وتحقيقهم للعمل، وتحقيقهم للتوكل، أن التوكل ليس قعوداً، ولا نكوصاً، ولا نكولاً، وإنما التوكل هو العمل، الإيمان من التوكل، والدعاء من التوكل، وعمل الدنيا من التوكل.
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فهذه الطير توكلت على الله، لكنها ما قعدت في أعشاشها، وإنما غدت وراحت، وتحررت، وتحركت، وبحثت عن الرزق، فرزقها الرزاق سبحانه الذي يرزق الطير في أوكارها، والحيات في جحورها، والبشر في بكورها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بورك لأُمَّتِى فِي بُكُورِهَا)، يعني: العمل المبكر أول الصباح، أن تستقبل الحياة بالعمل والإنجاز، وليس بالقعود، فالإسلام دين يأمر بالعمل، ويعتبر أن من التوكل أن الإنسان يبذل كل الأسباب، ومع ذلك يؤمن بالله سبحانه وتعالى، وأن هذه الأسباب لا تفعل فعلها إلا بإذن الله عز وجل.
فهؤلاء نحن (آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)، أما أنتم (فَسَتَعْلَمُونَ) يعني: هذا خطاب للكافرين (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
إشراقات في قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين)
ثم يختم السورة بقوله سبحانه: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ))[الملك:30] إذا جفت مياهكم وينابيعكم وآباركم، ولم يُنزل الله تعالى المطر من السماء، من هو الذي يأتيكم بالماء المعين، الماء العذب، الماء الذي يرى بالعيون؟! (المعين) يعني: المرئي المشاهد بالعيون، الماء الطيب الذي تحتاجونه، والأصل أن هذا الماء من السماء، فإذا قحط المطر، وأجدبت الأرض جفت الينابيع، وقد حدث شيء من هذا كما حصل لقريش لما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأصابتهم سبع سنوات عجاف شداد من القحط والجوع، وقلة الماء أيضاً، على ما هو معروف في جغرافية مكة وطبيعتها. (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)، ومما يروى هنا ما ذكره الزمخشري عن رجل سماه أنه قرئت عليه هذه الآية، فقال: تأتي به الفئوس والمعاول هذا الماء. يعني: يظن أن الأسباب تأتي بهذا الماء، فلما أصبح وجد أنه قد ذهب ماء عينه، فعمي -سبحان الله- فغار ماء عينه، فلم يعد يرى الماء المعين، وهذا مكر الله تعالى بالمكذبين والمستهزئين. نسأل الله تعالى أن يبصرنا وإياكم بالذكر المبين، ويجعلنا وإياكم من أتباع خاتم المرسلين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق