البيتكوين وأخواتها.. حلال أم حرام؟!
د. عطية عدلان
البيتكوين (Bitcoin) عملة افتراضية إلكترونية ليس لها وجود فيزيائي، ولا تخضع لسلطان أي بنك من البنوك المركزية أو أي مؤسسة مالية أو سياسية، يتم تداولها عبر شبكة إلكترونية لا رقابة عليها ولا سلطان، وهناك عملات أخرى إلكترونية، ولكنها ليست بشهرتها، مثل: الداش والريبل والإيثريوم وغيرها، وقد بدأ سعرها بسنتات، وما لبث أن ارتفع إلى آلاف الدولارات؛ مما أغرى الكثيرين بشرائها والمضاربة والاستثمار فيها.
وتختلف البيتكوين وشقيقاتها عن العملات المتداولة في ثلاثة أمور رئيسية: أنّها افتراضية إلكترونية ليس لها وجود فيزيائي، وإنّما تُصنع إلكترونيًّا بمجموعة معقدة من الخوارزميات، وأنّ التعامل بها لا يُشترط فيه معرفة اسم العميل ولا معلومات عنه، وإنما يكون عبر مركزه المُشفَّر في الشبكة، وأنّها متحررة من جميع أنواع الرقابة، فلا سلطان عليها من البنوك أو وزارات المالية.
طموح وجموح
البعض يَعُدُّ العملاتِ الرقمية وسيلةً للخلاص من هيمنة الدولار ومن الأنظمة المالية التي تفرض سلطة اقتصادية مستبدة لدول تمارس (البلطجة)، وفرصةً للفكاك من أسر النظام الدولي الواقع في قبضة حفنة من المرابين يملكون الشركات المتعددة الجنسيات، ويمارسون من خلال حيازة الدولار عملية السيطرة على الأسواق، والابتزاز لمقدّرات الشعوب، والتركيع للدول التي تأبى الخضوع للنظام الدولي الذي تقبض أمريكا وحلفاؤها على أَزِمَّته، وهي إلى جانب ذلك وسيلة لنقل المال دون الخضوع لسلطان الأجهزة التي تمارس الظلم في كثير من الأحيان، ثم هي تتيح الفرصة للاستثمار البعيد عن السوق المتوحشة التي يهيمن عليها الحيتان.
وعلى الجانب الآخر، يراها البعض عملة غامضة وهمية، غير موثوقة ولا محمية، فهي لا تستند -مثل الذهب والفضة- إلى قيمة في ذاتها، ولا تعتمد -كالعملات الورقية- على قيمة مستمَّدة من قوة القانون، وليست سلعًا حتى تقع بها مقايضة، ولا نقودًا حتى يقع بها بيع أو صرف، فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ المنشئ لها مجهولٌ وأنّ القائمين عليها مجاهيل؛ ازداد الخطر في التعامل بها؛ إذ لا يستطيع أحد أن يجيب عن سؤال محتم: ماذا لو حدث انهيار في المنظومة الإلكترونية لسبب ما مِن داخلها أو خارجها؟ ثم إنّ كثيرًا من الخبراء الاقتصاديين حذروا من وقوع أزمة اقتصادية عالمية بسبب هذا التعامل المنفلت من كل قيد.
بين الطموح والجموح
إنّ تفكير الناس خارج صندوق النظام الدولي، ورغبتهم في التحرر من الهيمنة الدولارية، وتوجههم إلى التعامل والتداول خارج النظام المالي الذي فرضته أمريكا؛ هذا التوجه يحرك فينا الطموح والأمل الوثّاب؛ في نيل الحرية والاستقلال الحقيقي، فنحن أمّة لا ينقصها لتبلغ الرشد والتمكين والخلاص من التبعية المُذِلّة، إلا الاستقلال في أمرين: القرار السياسي والأداء الاقتصادي، وهذان لا يتحققان إلا بخلق منظومة رشيدة، متحررة من أسْر العولمة التي تستعمل سلطان الدولار في نهب الثروات وابتزاز المنكوبين.
وهذا لا يكون -قَطُّ- بالدخول تحت هيمنةٍ من نوع جديد؛ فالذي يتخلص من قيد ظاهر ليضع نفسه في قيود غامضة لم ينل حريته في الحقيقة، وإنّما انتقل من عبودية إلى عبودية، فما هذه العملات الوهمية؟ ومن المهيمن عليها؟ وما القُوى الدولية التي ستبادر إلى اعتمادها لتُدخلها في منظومتها الاقتصادية وتُخضعها وجميع المتعاملين بها لهيمنتها؟ إنّ الطموح لا يتحقق بالنَّزَق والجموح، إنّما يتحقق ويحقق لأمتنا التحرر الحقيقي؛ بتحرك الجميع -حكامًا ومحكومين- نحو استثمار إنتاجي، وبالعمل على استعادة الأموال المسافرة والعقول المهاجرة.
حلال أم حرام؟
ونحن جميعًا ندرك أنّنا عبادٌ لله محكومون بشرع الله، وأنّنا يجب أن نبحث في كلّ جديد عن الحكم الشرعي، لكنّ القصور يكون في حصر الخطاب الشرعي في الإفتاء بالحِلّ أو الحرمة، دون نظر إلى البواعث والأبعاد، ودون وضع حلول عملية للخلاص من الأزمات التي تسببت في وقوع النازلة؛ ذلك السلوك الذي يؤدي إلى تقزيم القضية الضخمة، وإلى ضمور التفكير الاستراتيجي الذي يذهب إلى جذور المشاكل ولا يقف عند المسكنات الوقتية.
وقد اختلفت أقوال العلماء المعاصرين في الحكم على التعامل بهذه العملات والمضاربة فيها، فبعضهم أباحها باعتبارها عند المتعاملين بها عملة تجري عليها أحكام النقود، واشترطوا فقط مراعاة شروط الصرف عند مبادلتها بعملات أخرى، أهمها التقابض الفوري، بينما قال الجمهور بحرمتها؛ لِما يشوبها من غرر ومقامرة، وتوقف البعض حتى يتبين أهي عملة مستقرة أم لا، بينما فَصَّلَ البعض فقالوا: هي اليوم ممنوعة، ولا يمنع أن تكون في الغد مشروعة؛ لأنّ مدار الأمر على استقرار التعامل بها في الأسواق، فلئن كانت اليوم غير مستقرة بسبب قلة من يعترف بها فإنّه بالإمكان أن يتغير الواقع فيتغير معه الحكم، وقد قال الفقهاء في مثل هذه المتغيرات: “لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان”.
من الحكم إلى الحكمة
وليس هذا موضع الترجيح وإنّما موضع الترشيد، ففي اعتقادي أنّ هناك معصية يقع فيها الجميع حكامًا ومحكومين، وهو الاستسلام للتبعية السياسية والعبودية الاقتصادية، وعدم التفكير في الخلاص بصورة جماعية تعلي من مصلحة الأمة، وإنّه لمِن الأنانية أن يفكر المرء في استثمار أمواله في ميدان لا نفع فيه للخلق ولا إنتاج فيه ولا تثمير، ولا شيء إلا خلق النقود بلا رصيد من السلع أو الخدمات، وربما كان هذا -قبل الدخول في أسباب الحرمة الجزئية كالغرر والمقامرة- هو سبب التحريم الأول، فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ هذا الأنانيّ سلك طريق الاستثمار هذا دون أن يتثبت: أهذه العملة الوهمية تتوافر فيها شروط النقد والأثمان أم لا؟ أهي -مثل سائر العملات- تصلح وسيطًا للتبادل مقبولًا قبولًا عامًّا، وتطمئن النفس بتمولها، وتصلح مستودعًا آمنًا للثروة، ومعيارًا ثابتًا للقيم؟ أم إنّها لا يتوافر فيها شيء من ذلك فتزداد مرجحات التحريم، وتزداد معها الأزمات التي تحيق بالأمة كلها؟! وإنّه ليحضرني هنا تأويل بعض المفسرين لقول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أنّ التهلكة في الإمساك عن الإنفاق؛ بما يترتب عليه من ضعف، وكذلك الانجفال عن التثمير الحقيقي إلى تلك الصور الأنانية التي تغلب عليها روح المقامرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق