الشائعات وإدارة الصراع.. كيف تتلاعب الدول بمشاعر الجماهير؟
- صناعة الشائعة ونشرها أصبحا عملا إبداعيا لا يمكن أن يتم وينجح إلا في ضوء فهم احتياجات الجماهير
- إدارة الصراع تحتاج إلى دراسات جديدة لأساليب التأثير على الجماهير، وتغيير اتجاهاتها، لذلك تزايد الاهتمام باستخدام الكلمات في توجيه سلوك الأفراد خاصة خلال الأزمات.
- أصبحت الدول تحتاج إلى باحثين مؤهلين لتحليل عملية انتشار الشائعات، وتأثيرها على جماهيرها، حيث أصبحت الدول تستخدم الشائعات في إدارتها للصراعات بشكل منتظم للتأثير على العقل الإنساني، ومشاعر الناس في فترة معينة. كما تستخدمها الدول لتحقيق الكثير من الأهداف السياسية والاقتصادية والعسكرية، عبر وسائل الإعلام والإنترنت.
صناعة الشائعات
تطورت عملية صناعة الشائعات منذ بداية القرن الـ21، ففي البداية يتم اختيار توقيت مضمون الشائعة، وتوقيت نشرها، والجمهور المستهدَف بها، فتتم دراسة احتياجات الجماعة المستهدفة من الشائعة، وتصنيع شائعةٍ تشبع هذه الاحتياجات.
لذلك أصبح تصنيع الشائعة ونشرها عملا إبداعيا لا يمكن أن يتم وينجح إلا في ضوء فهم احتياجات الجماهير ومصالحها ووعيها وقدرتها على الوصول إلى المعلومات الصحيحة.
هناك الكثير من المواقف والنظريات التي يدرسها صناع الشائعات، ويستغلونها لترويج معلومات زائفة تتناسب مع حالة الجماهير، والمشكلات التي تواجهها.
استمع 12 مليونا في أميركا لخبرٍ، فاجتاحت الهستيريا المنازل الأميركية، وقام الكثير من السكان بإخلاء منازلهم، والفرار إلى الملاجئ، ثم تبين أن الخبر زائف
الشائعات ونظريات التأثير
تطورت عملية صناعة الشائعات في ضوء تطور نظريات التأثير على الجماهير، واستخدام الأساليب السيكولوجية لتوجيه الناس والتحكم في سلوكهم وميولهم وردود أفعالهم.
كان من أهم هذه النظريات نظرية "الرصاصة السحرية" (Magic bullet) أو ما يُعرف أيضًا بالإبرة تحت الجلد (Hypodermic Needle)، والتي تمّ طرحها من قبل عالم الاجتماع الأميركي "هارولد لاسويل" بعد الحرب العالمية الأولى.
تُعد نظرية الرصاصة السحرية من أقدم النظريات في مجال الاتصال وعُرّفت بأنها رسالة قوية مقصودة تؤثر بشكلٍ فوري على الجمهور، وتشير هذه النظرية إلى أنّ سلوك الأفراد متماثل، والطبيعة البشرية الموروثة تجعلهم يتلقون الرسائل الإعلامية بطريقة مشابهة، وبالتالي فإنَّ ما تنتجه الوسائل الإعلامية من رسائل، هو بمثابة رصاصة لها تأثيرات على الفكر وردود فعل الجماهير.
الرصاصة السحرية في أميركا
بناءً على دراسات انتخابية أُجريت داخل المجتمع الأميركي آنذاك، إذ أوضح أنَّ باستطاعة الشعب اختيار مرشحيه على الرغم من الرسائل الإعلامية القوية. فبدأت نظريات أخرى تنبثق مثل نظرية التنافر المعرفي التي تقول إن الفرد يميل إلى تصديق الأخبار التي تعبّر عن توجهاته الداخلية، وانحيازاته التأكيدية، عكس ما تتبناه نظرية الرصاصة السحرية التي تفترض أن جميع الرسائل تؤثر على الأفراد، ولو كانت هذه الرسائل لا تشبه محفزات الفرد الداخلية.
انتصرت معركة العقلانيين لفترة من الزمن، لكن ظهور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أدّى إلى تغيير في أنماط الاتصال وإلى تقييم جديد للعصر الحديث، فعادت نظرية الرصاصة السحرية في شكل الإعلام الجماهيري وظهرت بشكلٍ جليّ في عصر وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار الأخبار الزائفة.
اعتمد الباحثون في تطوير نظرية الرصاصة السحرية على شائعة، حيث قامت محطة راديو أميركية في 30 أكتوبر/تشرين الأول عام 1938 في عيد الهالوين بقطع برامجها لتذيع خبرا، هو أن الأرض تتعرض لغزو من الفضاء في ولاية نيوجيرسي.
استمع 12 مليونا في أميركا لهذا الخبر، فاجتاحت الهستيريا المنازل الأميركية، وقام الكثير من السكان بإخلاء منازلهم، والذهاب إلى الملاجئ، وقاموا بتخزين المواد الغذائية، ثم اتضح بعد ذلك أن الخبر إعلان عن مسرحية بعنوان "حرب العوالم" تقدمها فرقة مسرحية جديدة.
هذا الخبر الزائف (الشائعة) تم الاعتماد عليه كدليل على صحة نظرية التأثير المباشر السريع لوسائل الإعلام التي تم استخدامها في الدعاية خلال الحرب العالمية الثانية.
الرصاصة السحرية في نيجيريا
في نيجيريا عام 2019، لم يكن انتشار الأخبار الزائفة خلال الانتخابات بالشيء الجديد، نظرًا إلى أن الانتخابات النيجيرية السابقة، شهدت هذا النوع من الدعاية، لكن الجديد كان وصول الأخبار الزائفة لمعدل عالٍ وخطير واعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الدعاية الإعلامية للانتخابات. على سبيل المثال لا الحصر، انتشرت شائعة تؤكد وفاة الرئيس المرشح محمد بخاري وأنه تمت الاستعانة بشبيهٍ من السودان، وبسبب الغياب المتكرر للرئيس محمد بخاري، وسفره إلى لندن ورحلاته الطبية المتكررة وعدم إصدار الرئاسة أي توضيحات، صدّق عددٌ كبير من النيجيريين ما تم تناقله على مواقع التواصل الاجتماعي. ووجد بخاري أنَّ تلك الشائعة، أثرّت بشكل عميق في سلوك ناخبيه ما دعاه في العديد من خطاباته للقول إنه حقيقي وليس مستنسخًا.
بالإضافة إلى انتشار أخبار ادّعت بأنَّ الرئيس محمد بخاري يدعم جبهة المسلمين الذين يشكلون 90% من الرعاة النيجيريين مقابل 10% من المزارعين المسيحيين، ما أدى إلى إحداث فجوة كبرى وصراع بين الطرفين وصل إلى مقتل العشرات وتدمير الممتلكات.
لوحظ إذًا في نيجيريا انتشار لا يستهان به للأخبار المضللة، واستجابة كبيرة من الجمهور المتابع للأخبار على صفحات التواصل الاجتماعي، ما أعاد إلى الضوء مجددًا نظرية الرصاصة السحرية.
ويمكن القول إنه في الحالتين النيجيرية والأميركية وغيرهما، قد يدفع إيمان الناخبين بالأخبار الزائفة دون قيامهم بالانتقاء والتمحيص، للتأكيد على قابلية الجمهور للتأثر والتلاعب به، طالما أن الإعلام مستمرّ في الضخ والشخص المستهدَف مستمرّ بالتصديق، وبالتالي، وعلى الرغم من انتقاد نظرية الرصاصة السحرية سابقًا، فإنه لا يمكن غض النظر عن استمراريتها وأهميتها في عصر ما بعد الحقيقة وفي عصر الإعلام الجديد.
من أهم الأمثلة تعرض الجمهور الأميركي لطوفان من الشائعات عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول بشأن هجمات إرهابية جديدة يقوم بها عرب، ورسائل إلى بعض الأشخاص ملوثة بالجمرة الخبيثة
نظريات جديدة لفهم التأثير
لكن الكثير من علماء النفس واللغة والاجتماع والاتصال والإعلام والسياسة عملوا بعد ذلك على تطوير نظريات جديدة تم الاعتماد عليها في إدارة الصراع، والتحكم في الجماهير وتوجيهها.
أصبحت صناعة الشائعات ونشرها واستخدامها في الصراع تحتاج لنوعية جديدة من الدراسات التي يشارك فيها باحثون من تخصصات مختلفة، فبالرغم من وجود دراسات حاولت تعريف الشائعة، وأساليب نشرها واستخدامها، فإن المجال ما زال واسعا، وحاجة الدول تشتد إلى دراسات جديدة تربط استخدام الشائعات في إدارة الصراع بتحليل الخطاب الإعلامي، وتقييم المعلومات، والتأكد من صحتها، وتوعية الجماهير، وتشكيل الرأي العام.
الشائعات وحاجة الجماهير للمعلومات
تشتد حاجة الجماهير للمعلومات خلال الأزمات والصراعات، وهذا يوفر الكثير من الفرص لنشر الشائعات التي تستخدم لتحقيق أهداف صُنّاعها.
من أهم الأمثلة على ذلك تعرض الجمهور الأميركي لطوفان من الشائعات عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول تدور حول هجمات إرهابية جديدة يقوم بها أشخاص عرب، ورسائل إلى بعض الأشخاص ملوثة بمرض الجمرة الخبيثة، فما أهداف صناع تلك الشائعات من نشرها؟
هذا النموذج يوضح أن صناع الشائعات يستغلون حدثا تحتاج فيه الجماهير للمعلومات، وذلك لتشكيل حالة خوف تتم فيها إثارة مشاعر الجماهير، والتأثير على اتجاهاتها، وانتزاع استجابات عاطفية سريعة منها.
شائعات ترتبط بالأحداث
في ضوء ذلك المثال يمكن أن نكتشف عددا من الأساليب والوسائل التي يستخدمها صناع الشائعات من أهمها:
- استغلال حاجة الجمهور للمعلومات خلال أزمة تهدد وجود المجتمع.
- التأثير على مشاعر الجماهير لانتزاع استجابات عاطفية سريعة.
- عدم قدرة الجمهور على التأكد من صحة المعلومات أو التفكير في مصداقيتها.
- عدم قدرة أفراد الجمهور على الحصول على معلومات من مصادر متعددة ومتنوعة.
- ارتباط الحدث الذي تدور حوله الشائعة بحاجة الجمهور.
- سرعة نشر الشائعة من مصادر مختلفة يزيد إمكانيات تصديقها، والتعامل معها باعتبارها حقيقة.
- تتزايد فرص انتشار الشائعة، وتصديق الجمهور لها عندما يتم نشرها في وسائل الإعلام مثل الصحافة والإذاعة والتلفزيون.
- مع ذلك تزايد دور مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في نشر الشائعات خلال العقدين الماضيين.
- تتزايد فرص انتشار الشائعات خلال الكوارث التي تتعرض لها المجتمعات مثل العمليات الإرهابية والانقلابات العسكرية، والإضرابات لأنها تؤثر على جمهور كبير من الصعب أن يقوم بالبحث عن المعلومات الصحيحة.
- يتزايد انتشار الشائعة وتأثيرها كلما تناقصت قدرة المصادر التي تمتلك المعلومات الصحية، أو التي تستطيع شرح الحدث على الوصول إلى الجماهير عبر وسائل الإعلام.
- كما تتزايد فرص انتشار الشائعات كلما تناقصت ثقة الجماهير في وسائل الإعلام التي تمتلكها السلطات أو تديرها، لذلك تكون فرص انتشار الشائعات أكبر في الدول الشمولية.
المصادر الخائفة
هناك الكثير من الحالات التي انتشرت فيها الشائعات نتيجة لخوف المصادر التي تعرف المعلومات الصحيحة، أو تستطيع شرح الحدث للجمهور من الاتصال بوسائل الإعلام، فيمر وقت طويل دون أن يحصل الجمهور على الحقيقة، وخلال ذلك الوقت تنتشر الشائعة، ويستجيب لها الجمهور عاطفيا دون تفكير أو قدرة على تقييم المعلومات.
عندما تأتي الحقيقة متأخرة فإنها تتصادم مع المعلومات الزائفة التي استقرت في أذهان الجمهور الذي يرفض المعلومات الصحيحة.
وهناك الكثير من الحالات التي عملت فيها السلطات الرسمية على صناعة الشائعات ونشرها، أو استغلال شائعات انتشرت بالفعل لتحقيق أهدافها، ولذلك ترفض نشر المعلومات الصحيحة.
لكن أهم نتائج ذلك هو فقدان الجماهير ثقتها في السلطة ومصادرها الرسمية، والوسائل الإعلامية التي تسيطر عليها أو تديرها، الأمر الذي خلق مناخا عاما يساعد على انتشار الشائعات، وتزييف وعي الجمهور، وتناقص قدرة الشعوب على الحصول على المعرفة الحقيقية والصحيحة.
كما أن قيام السلطات بخلط المعلومات الصحيحة بالزائفة، والمبالغة في تصوير إنجازاتها، يجعل الجمهور أكثر قابلية لتصديق الشائعات.
رد الفعل العاطفي
من أهم أهداف صناع الشائعات دفع الجمهور للقيام برد فعل عاطفي عن طريق التلاعب بالمشاعر، وإثارة المخاوف والكراهية والعداء، وتوجيه الرغبات، لذلك يتم استغلال الرموز التي تثير المشاعر الوطنية والتعصب للدولة أو الجماعة، ومن أهم الرموز التي تستخدم في صياغة الشائعات تلك التي تثير العداء والكراهية بحق دولة تعتبر معادية.
لكن هذه الرموز يتم استغلالها أيضا في توجيه الجماهير للقيام بأعمال تهدد نظام المجتمع والعملية الديمقراطية ونزاهة الانتخابات، وتدفع هذه الجماهير للقيام بأعمال عدوانية ضد رموز ديمقراطية عن طريق تصويرها بأنها تتناقض مع الوطنية، أو تهدد مصالح الدولة واستقرارها.
الشائعات واستغلال الهوية
يستخدم صناع الشائعات الرموز المتعلقة بهوية معينة لإثارة مشاعر غضب الجماهير على جماعات تنتمي لهويات أخرى، ولذلك يؤدي استخدام الشائعات إلى تهديد تماسك المجتمعات ووحدتها عندما تتعدد الهويات داخلها، فيتم استخدام الشائعات لإثارة عداء جماعات أو قطاعات معينة من الجماهير بهدف إقصاء جماعات أخرى على أساس اللون أو العرق أو الدين.
لذلك تشكل الشائعات خطرا حقيقيا يواجه المجتمعات عندما تفتقد الجماهير فرص الحصول على المعرفة، وإدارة المناقشة الحرة للقضايا والمشكلات المجتمعية، وعرض احتياجات وطموحات كل الفئات في المجتمع.
إدارة الصراعات باستخدام الشائعات
يقوم صناع الشائعات بدور خطير في إدارة الصراعات الداخلية في المجتمعات، ويتزايد هذا الدور خلال فترات الانتخابات والأزمات.
وقد طور صناع الشائعات أساليبهم في إخفاء المعلومات الزائفة داخل رسائل تحتوي على معلومات حقيقية، كما وظّفوا الرموز اللغوية لإثارة مشاعر الجماهير، والتأثير على اتجاهاتها.
عندما تتناقص الثقة
أما في الصراع بين الدول، فقد تزايدت أهمية الدور الذي يقوم به صناع الشائعات لإلحاق الهزيمة النفسية بالعدو، ودفع الجماهير إلى الشعور بالإحباط والعجز، وتستجيب الجماهير لهذه الشائعات كلما قلت قدرتها على الحصول على المعرفة من وسائل إعلامية تثق بها.
هذا يعني أن الشائعات أصبحت سلاحا مهما يتم استخدامه في إدارة الصراعات داخل المجتمعات، وعلى المستوى الدولي.
الشائعات وإدارة العقول
استخدم عالم الإعلام الدولي الأميركي هربرت شيلر مصطلحا مهما هو "مديرو العقول" للدلالة على المسيطرين على النظام الإعلامي الدولي.
لكن هذا المصطلح يمكن أن يشمل داخله الكثير من الذين يمتلكون القدرة على إدارة عملية التضليل الإعلامي، وتزييف الوعي. وأصبح صناع الشائعات من الذين يقومون بدور مهم في إدارة العقول، والتأثير على الجماهير وتزييف وعيها.
إن الشائعات لا تصنع نفسها، فهناك دائما من يقوم بتصنيعها واستخدامها في إدارة صراعه مع الآخرين.
ولكي نطور دراستنا للشائعات يجب أن نربط بين صناعتها واستخدامها في إدارة الصراعات على المستويين الداخلي والدولي، ففي العصر الحديث تحولت الشائعات إلى صناعة تستخدم فيها دراسة اتجاهات الجماهير واحتياجاتها ومشاعرها، وكيف يمكن التأثير عليها.
إن كل الدول يجب أن تدرك خطورة استخدام هذا السلاح في إدارة الصراعات عن طريق التلاعب بمشاعر الجماهير وعواطفها واستغلال احتياجاتها.
لكن هل يمكن أن تواجه الجامعات العربية هذا التحدي عن طريق تطوير دراسة الشائعات وربطها بعلوم حديثة مثل إدارة الصراعات والرأي العام والإعلام والمعلومات!
وهل يمكن أن تقوم الجامعات بتأهيل جيل جديد من نُقّاد المضمون، وخبراء المعلومات الذين يستطيعون الكشف عن الشائعات ومواجهتها بتقديم المعلومات الصحيحة والوفاء بحق الجماهير في المعرفة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق