يا شعوب أمتنا: “لا تهنوا ولا تحزنوا”
د. عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
لم أكن منخرطًا في الدعوة لثورة (11:11)؛ لأسباب قد تتجلى بوضوح في ثنايا هذا المقال، ومع ذلك فإنّني أتقدم بالتحية والإجلال لكل الذين دعوا إليها، وجميع الذين سعوا فيها، وأقول لهم ولشعوبنا العربية المقهورة: “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون”، أجل.. أنتم الأعلون بإيمانكم وثباتكم وسمو آمالكم، أنتم الأعلون وإن بدا عدوكم متعالياً بسلطانه مَزْهُوًا بملكه وصولجانه؛ فلا تهنوا ولا تحزنوا فيصيبكم الوهن ويغشاكم اليأس والقنوط، وتلك – عافاكم الله – هي القاصمة.
وإن كنتم قد أخفقتم في إحراز النصر فقد أخفق مِنْ قبلُ مَنْ كانوا أفضل وأخير منّا جميعا؛ فجاء خطاب الوحي لهم على هذا النحو: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)) (آل عمران: 139-141)، فلو أنّكم تحررتم من فخّ التلاوم وجلد الذات؛ لأبصرتم القرح الذي أصاب النظام في كبده، ولو أنكم حلَّقْتم – بعيدا عن الواقع الضيق – في آفاق الأسباب البعيدة والسنن التليدة؛ لأيقنتم أنّ ذلك اليوم الذي انقضى مقدمةٌ لمحق الأعداء، وما قبله وما بعده تمحيصٌ وتخليصٌ وتأهيلق لطلائع النصر.
إنّ أكبر وأهم مكسب خرج به الشعب المصريّ اليوم هو أنّ الطاغية الذي كان يلبس مسوح الحملان الوديعة بدا سافرا على حقيقته الوقحة البشعة، فها هو قد فَغَرَ فَمَهُ بسعة شوارع مصر وميادينها، وها هو يكشر عن أنيابه من المصفحات والمدرعات التي تجوب البلاد بطولها وعرضها، في مشهد استفزازيّ يجسد قول الشاعر:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة
هيفاء تنفر من صفير الصافر.
لست مع من يلوم الشعوب أو يتهمها بالخنوع والتخاذل؛ فإنّ النظام يحتكر كل أدوات الإكراه بشكل كامل، وإنّ هذه الأدوات شيطانية وجهنمية بشكل مخيف، وإنّ المواجهة مع هذا النظام هي في الحقيقة مواجهة مع النظام الإقليمي الشرق أوسطيّ، ومع النظام الدوليّ العالميّ؛ فكيف يتسنى لهذه الشعوب تغيير ذلك الوضع الجاثم بغير رؤية يضعها الكبار، ومشروعٍ يرسمون ملامحه ويحددون بدقة مراحله، وخططٍ للتغيير يشرف عليها متخصصون، وتنفذها طلائع فتية بآليات تغيير حقيقية؟!
إنّ خروج الناس للشوارع والميادين، وتظاهرهم واعتصامهم وهتافهم ضد النظام، ليس من أدوات التغيير في شيء، إنْ كلٌّ ذلك إلا وسائل للتعبير، وليس للنظام العسكريّ الذي يؤدي دور الاحتلال بالوكالة أذنٌ يستمع بها لرأي الشعوب وصوتهها الذي تعبر به عن حاجاتهها، وأقصى ما يمكن أن تؤديه هذه “الطقوس الثورية” هو أن تكون حاضنة للحراك الذي يتولى التغيير بأدواته، التي يعرفها أربابها، وينفق على توفيرها وتدبيرها رجال يدركون قيمة الإنفاق في سبيل الله، ويتولى قيادتها كبار لا يخيفهم رهب ولا يلهيهم رغب، وتنفذها طلائع من أبناء الأمة قد باعت نفسها لله تعالى وآثرت الآخرة على الأولى.
وأحسب أنّ قناعة الواعين الراشدين من أبناء الأمة قد استقرت اليوم على أنّ هذه الأنظمة لم يعد يجدي معه تقليد يناير 2011م، وأنّه لابد من البحث عن طريق آخر، فهاكم الطريق الذي تنشدون، فإن كنتم صادقين في السعي للتغيير فدونكم السبيل فاسلكوه، وامضوا فيه على هدى وبصيرة، ولا تيأسوا إن طال بكم بعض الشيء وتسلسلت مراحله، فإن كنتم في ريب من هذا الطريق فما عليكم إلا أن تسألوا التاريخ عن جميع الثورات التي غيرت وجه الدنيا، فإن عدتم بعد طول البحث بجواب واحد راشد فالزموه، ولا تحيدوا عنه، فإن أبيتم إلا أن تركبوا الصعب بخوض ما ترونه سهلا فستدركون بعد فوات الأوان أنكم أهدرتم الأعمار فيما لا فائدة فيه ولا جدوى منه، وستندمون “ولات ساعة مندم”.
ولست بالذي يبرح المقام قبل أن يذكر لأصحاب الفضل فضلهم، فلا حرمنا الله من رجال من أمثال: عبد الله الشريف ومعتز مطر ومحمد ناصر وحسام الغمري وعماد البحيري ومحمد علي وغيرهم ممكن أثبتوا أنّهم رجال كالجبال، فلقد ابتلوا وامتحنوا في أهليهم وأنفسهم وأمنهم ومصالحهم وأموالهم فما ضعفوا وما استكانوا، واستمروا بلا ملل ولا كلل، ولا حرمنا الله كذلك من أصحاب الأقلام التي لا تفتأ بالليل والنهار تخوض بالعلم والفهم معركة الوعي، لهم جميعا منّا خالص الدعوات بمزيد من الثبات.
أمّا دعاة الاستكانة من المداخلة والدجاجلة فلا مكان لهم بين أبناء الشعب المصريّ في نسيجه الجديد، فلقد بلغ هذا الشعب مع انصرام هذا اليوم غاية لا يستهين بها إلا سطحيّ لا يفهم الشعوب ولا يدرك مزاجها ولا سيكلوجيتها، هذه الغاية هي حالة التضامن الشعوريّ العام، فلقد بدا للجميع أنّ الوطن – وقبله الدين – مستهدف بالمسخ والطمس والتغييب، بدا للجميع أنّ الوضع قد جاوز حملة مغولية أو صليبية على البلاد؛ فانخرطت القلوب والمشاعر في حالة تضامنٍ شعوريٍّ عام.
لم يعد ينطلي على الناس مقالات أولئك المفتونين المأفونين، من جنس قولهم: إنّ الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها! فهل هناك فتنة أعمق وأمحق من حكم يهدر مقدرات البلاد ومعها كرامة العباد؟ ويبذل وسعه في طمس الهوية وتبديل الشرع وحرف الأمة عن مسارها في كل الميادين؟! هل هناك فتنة أخطر من تلك التي لم تكن لتقع لو أنّ بلادنا احتلها صهاينة غلاظ أكباد؟!
إنّ مشيخة الفتنة تسوق النصوص في غير ما وردت فيه، وتسحب الأحكام على غير مواقعها، وهي تعلم ذلك وتوقنه، وتحاول أن تخفي عورتها بما تبديه من مظاهر للتنسك والتحنث؛ وأنّى لها أن تخفى على أهل البصائر؟!
فإلى الأمام أيتها الشعوب، في مصر وغيرها، وسوف تنجلي الكربة عن قريب بإذن الله، ألا ترون الأعداء قد شغل الله بعضهم ببعض؟! فلا تيأسوا وثقوا بربكم وأيقنوا به وتوكلوا عليه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق: 3).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق