مصر: حين كانت يد البلتاجي بيد اسكندر
وائل قنديل
في يوم واحد، رحل اثنان من رموز القوى السياسية القديمة في مصر: السيد الغضبان، الإعلامي وأحد الآباء المؤسسين لراديو صوت العرب في فترة المد القومي بستينيات القرن الماضي. والقيادي الناصري القومي العربي أمين اسكندر.
توارى السيد الغضبان (94 عامًا) عن الأنظار والأسماع، منذ لم تعد صوت العرب هي صوت العرب بعد مشروع أنور السادات التأسيسي لمستنقعات التطبيع التي تغرق فيها غالبية الأنظمة العربية الآن، مكتفيًا بإطلالات متقطّعة عبر أعمدة صحافية في جرائد المعارضة المصرية.
وقبل ثورة يناير، اشتعل حماسًا مع الإعلان عن تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير، فكان متحدّثًا باسمها، ثم خلد إلى التأمل من بعيد، بعد أن خلعت الثورة نفسها، عقب نجاحها في خلع حسني مبارك من الحكم.
التقيته للمرة الأخيرة في حفل زواج ابنة أحد القيادات الحزبية بالقاهرة، في فترة التشظّي الكامل لجبهة المعارضة المصرية، وهي الفترة التي بدأت بأحداث قصر الاتحادية إبّان تولي الرئيس محمد مرسي الحكم، وامتدت حتى الانقلاب عليه عسكريًا، بغطاء من القوى المدنية في 30 يونيو/ حزيران 2013.
"القرف"هي المفردة المناسبة لوصف حالة الغضبان، حين تبادلنا حديثًا جانبيًا عما يجري، ومآلاته الكارثية، واستغراق كل طرفٍ من أطراف المعارضة التي كانت متحدة على هدف جمعي وحلم قومي عام قبل وحتى 2011، في حلمه الحزبي الضيق قابعًا في قوقعته الأيديولوجية لا يريد أن يبرحها.
كان مدهشًا لي وله أن الفرقاء الذين يتبادلون الأحضان والضحكات العالية والحوارات الودودة في العرس هم أنفسهم الذين يتعاركون في الندوات وعلى الشاشات وخلف الميكروفونات وفي الميادين التي جمعتهم معًا، يتعاركون لمصلحة ذلك المتربّص بالجميع، متوثبًا للانقضاض على حصادهم الجماعي.
لم أقرأ أو أسمع شيئًا عن الأستاذ الغضبان منذ وقعت الواقعة، وصار رفاق الأمس أعداء ألداء خلال العشر سنوات الماضية. ويبدو أن الرجل اختار أن يعتزل هذا القبح كله، حتى لقي ربه أول أمس.
أما الأستاذ أمين اسكندر، الناصري القومي العربي النصراني، فكان طوال الوقت من الأشداء المخلصين لقضية فلسطين، جسورًا في التصدّي لمحاولات التطبيع الثقافي والصحافي، كما كان معارضًا حقيقيًا لنظام مبارك بفساده واستبداده وتبعيته، منفتحًا على الجميع ممن يشاركونه الغايات، حتى وإن اختلفت المنطلقات والوسائل.أتذكّر في يوم الأحد الثاني من يناير/ كانون ثاني 2011، كانت يد أمين اسكندر النصراني الناصري تحتضن يد محمد البلتاجي الإخواني، يسيران كتفًا بكتف في تظاهرةٍ مندّدة بجريمة تفجير كنيسة القدّيسين بالاسكندرية في اليوم نفسه.
كان الهتاف موحدًا، والموقف كذلك من قضية الوحدة الوطنية ومدنية الدولة المصرية، فكتبت وقتها تحت عنوان "لكي تتصالح مصر مع نفسها": تأمل الصورة المنشورة فى الصفحة الثالثة بجريدة الشروق أمس.. دقق جيدا فى هذه اللحظة التى تتشابك فيها يدا المثقف المصرى العربى أمين إسكندر والنائب الإخواني السابق محمد البلتاجى، أثناء مظاهرة حاشدة في حي شبرا العبقري، حي الحالة المصرية في نقائها وصفائها وبهائها التاريخى.
تلك هى الصورة التى تحتاجها مصر، وينبغي أن تبحث عنها وتثبتها وتجذّرها في أعماق الجميع.
وكانت تلك هي صورة الثورة المصرية من دون منازع، غير أنها لم تصمُد مثبتًة على جدار الوطن سوى أشهر معدودات، إذ ذهب كلٌّ في طريق، فراح اسكندر يفتش عن عبد الناصر في ملامح الجنرال الصاعد وسط طقوس مزيّفة مهيبة صنعها الأستاذ هيكل بكتاباته وحواراته التلفزيونية، فيما ابتلع السجن محمد البلتاجي، وسط حالةٍ مريعةٍ من التواطؤ والتحريض، شاركت فيها أطرافٌ عديدة، ثم أفاقت على كابوسٍ مخيف، لكن أوان الهتاف والكلام كان قد ولّى، ولم يبق إلا العجز والسكوت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق