موقف المؤمن من كأس العالم
ينبهر ضعفاء النفوس بما يشاهدونه من فتن مادية تفوق ما اعتادوه في حياتهم العادية؛ فهذا كأس العالم -الذي لم يتبق على بدايته غير أيام قليلة- قد أعدت له أحدث المباني والمعدات والتقنيات ووسائل المواصلات والتواصل…
البعد الاقتصادي والأخلاقي لكرة القدم
وتحولت لعبة الكرة من مجرد تسلية أو لهو مباح إلى إمبراطورية ضخمة من الاقتصاديات -التي لا تبالي بالفرق بين المباح وغير المباح-، والملهيات المحرمة كالأغاني الماجنة والرقص والعري والخمور، ودعوات للحرية الخارجة عن حدود الشرع، والترويج للزنا والشذوذ وغير ذلك من الموبقات..
فالرياضة في زماننا هذا أصبحت ماكينة هائلة تطحن الموافق والمخالف؛ فأما الموافق فهو في سكرة وغيبة عن حقيقة ما يحاك له من سيطرة على نفسه ودينه وقواه العقلية وماله ووقته…
وأما المخالف فهو موسوم بالتخلف والرجعية وعدم مجاراة التقدم والحضارة، وهو معرض للإيذاء إن أبدى إنكارًا أو غضبًا لدين الله عزَّ وجلَّ…
المقاطعة وعدم المشاركة واجب شرعي
ولا شك أن المؤمن يجب أن يكون منكرًا لتلك المنكرات العظام..
وإنكار هذه الآثام لا يتحقق إلا بمقاطعتها، لا سيما وأن أغلب الفرق المشاركة كافرة بالله العظيم، والكثير منها يرفع الصليب شعارًا له مكذبين بذلك نص القرآن، وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما نصه: … لا يجوز للمسلم أن يرفع شعارات النصارى، ولا أن يشاركهم في احتفالاتهم، ولا أن يستقدمهم لغير ضرورة لبلاد المسلمين..1.
والمقاطعة تشمل عدم المشاركة بأي شكل من الأشكال، وكذا عدم المشاهدة لأنها تنافي الإنكار القلبي -على الأقل- الذي هو أضعف الإيمان؛ عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»2.
ضابط الإنكار العلني والسري للمنكرات
وإنكار المنكرات العلنية يجب أن يكون علانية لمن قدر على ذلك، وإلا فيسعه عند العجز وخوف البطش: الإنكار السري أو الإنكار القلبي كل بحسبه؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: … وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غِيبة ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره فلا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام إذا كان الفاعل لذلك متمكنا من ذلك من غير مفسدة راجحة. وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتًا كما هجروه حيًّا إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين..3.
فضل العبادة في وقت الفتن واختلاط الأمور
والمؤمن عليه في مثل تلك الفتن أن يضبط انفعالاته وأفعاله بما يقتضيه الشرع، وأن يأخذ العظة والعبرة؛ فمن ذلك ما أوصى به النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالانشغال بالعبادة زمن الفتن؛ عن معقل بن يسار رضي الله عنـه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»4.
وفي لفظ: «الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»5.
وفي ثالث: «الْعِبَادَةُ فِي الْفِتْنَةِ كَالْهِجْرَةِ إِلَيَّ»6.
يقول النووي: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد7.
ويقول المناوي: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ» أي: وقت الفتن واختلاط الأمور. «كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» في كثرة الثواب. أو يقال: المهاجر في الأول كان قليلًا لعدم تمكن أكثر الناس من ذلك فهكذا العابد في الهرج قليل؛ قال ابن العربي: وجه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة8.
القابض على دينه كالقابض على الجمر
وعن أنس بن مالك رضي الله عنـه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر»9.
قال المناوي: «القابض فيهم على دينه كالقابض على الجمر» شبه المعقول بالمحسوس، أي: الصابر على أحكام الكتاب والسنة يقاسي بما يناله من الشدة والمشقة من أهل البدع والضلال مثل ما يقاسيه من يأخذ النار بيده ويقبض عليها، بل ربما كان أشد، وهذا من معجزاته؛ فإنه إخبار عن غيب وقد وقع10.
وقال الملا علي القاري: … قال الطيبي رحمه الله… والمعنى كما لا يقدر القابض على الجمر أن يصبر لإحراق يده كذلك المتدين يومئذ لا يقدر على ثباته على دينه لغلبة العصاة والمعاصي وانتشار الفسق وضعف الإيمان. انتهى. والظاهر أن معنى الحديث كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد وتحمل غلبة المشقة كذلك في ذلك الزمان لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلا بصبر عظيم وتعب جسيم… قال الجعبري: أي هذا الزمان زمان الصبر؛ لأنه قد أنكر المعروف وعرف المنكر وفسدت النيات وظهرت الخيانات وأوذي المحق وأكرم المبطل..11.
من ألوان العبادة الواجب الانشغال بها
والعبادة المطلوبة زمن هذه الفتن هي نفس العبادة المطلوبة في كل زمان، وإنما المقصود الانشغال بها عن مشاركة أهل الفتن والمنكرات، وهي كما يقول شيخ الإسلام: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله12.
كرة القدم فتنة شغلت الكثير
وقد ارتقت العبادة في زمن الغفلة والفتنة إلى منزلة الهجرة إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأسباب متعددة؛ منها ما ذكرناه فيما تقدم عن النووي رحمه الله تعالى، وهو قوله: وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد…
وانشغال الناس بتلك الفتنة في كأس العالم معلوم؛ ومن أخطر مظاهر الانشغال ما نجده من ضعف حضور المصلين إلى المساجد إذا كانت المباريات وقت إقامة الجماعات، ولذلك دلالة خطيرة وهي أن فتنة هذه اللعبة لم تنحصر في الغافلين عن الصلاة، بل تعدت ذلك وأصابت المصلين، وإلى الله الـمُشتكى..
ثبتنا الله تعالى وعموم المسلمين على الحق حتى نلقى ربنا وهو راضٍ عنا..
الهوامش
(1) [مجموعة فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/120-121)].
(2) [رواه مسلم (49)].
(3) [الفتاوى الكبرى (3/434- 435)].
(4) [رواه مسلم (2948)].
(5) [رواه أحمد (20298)].
(6) [رواه أحمد (20311)].
(7) [شرح مسلم (18/ 88- 89)].
(8) [فيض القدير (4/373)].
(9) [رواه الترمذي (2260) وغيره، وصححه الألباني].
(10) [فيض القدير (6/590)].
(11) [مرقاة المفاتيح (15/307)].
(12) [العبودية صـ(44)].
اقرأ أيضا
استغلال كأس العالم لترويج الشذوذ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق