22/23.. هل آن الأوان؟جمال الجمل
(1)
نقترب من نهاية عام 2022، والاقتراب من النهايات عموما يحرك في الإنسان غريزة مراجعة الزمن، وبرغم ازدحام العام بالأحداث، إلا أن الحدث الأبرز كان وسيظل هو استئناف المواجهة المباشرة بين الغرب وروسيا في أوكرانيا. وإذا أهملنا التفاصيل اليومية للعملية العسكرية وفكرنا في الخطوط الرئيسية للمواجهة ونتائجها، يمكننا أن نعثر بسهولة على مقدمات واضحة لنتائج لا مهرب منها (إذا لم تحدث مفاجآت مدهشة خارج التوقعات)، وأبرز النتائج تتمثل في موت مرحلة الحرب الباردة وعدم عودتها مجددا بين الشرق والغرب، وفي مستويات تالية يحق لنا أن نناقش بجدية ترتيبات جنازة العالم أحادي القطبية وما يلي الجنازة من صراعات الوارثين المتوقعين لعرش العالم، وطبيعة القوى الحاكمة في مرحلة ما بعد الهيمنة الأمريكية المطلقة التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود.
وهذا التصور المبسط للمرحلة الانتقالية التي نعيشها يفرض علينا التفكير في مسارات عدة، في مقدمتها: موقف العرب مما يحدث في العالم، ومدى استعداد الأنظمة والشعوب للعالم الجديد. وهذا هو الشاغل الأساسي الذي يركز عليه هذا المقال من خلال طرح الأسئلة وإثارة العواصف الذهنية بين المهتمين، خاصة وأن دواوين الأنظمة ومستودعات التفكير العربية تضع نفسها دائما في الطابور المتأخر الذي يكتفي بتتبع خطى الآخرين والسير في الدروب التي يشقها رعاة الأنظمة.
(2)
من المعلوم أن العالم لا يتغير فجأة ولا يضع تواريخ محددة للتغيير، لأن التغيير يظل عملية دينامية تتخلل الحياة ببطء وتتقدم بشكل غير محسوس إلا للمدققين.
على المستوى الدولي تبدو ملامح وأسئلة التغيير عريضة وبارزة، وعلى مستوى الأدوات والمؤسسات يبدو واضحا أن الأمم المتحدة لم تعد مقبولة كمرجعية دولية نزيهة، حتى أن قراراتها وتصويتها صار أقرب إلى "ورقة غربية" يتم استخدامها في الإعلام والقضايا التي يتفق عليها طرفا الصراع.
وبعيدا عن ذلك تبدو المنظمة في حالة عجز واقعي عن تقديم أية حلول لمشاكل العالم، لهذا كثرت المقارنات بين دور المنظمة كغطاء لأمريكا وحلفائها في حربي أفغانستان والعراق، وكذلك في المقارنة بين الدعم الغربي لأوكرانيا في مقابل التواطؤ الدولي ضد فلسطين لصالح العصابة الصهيونية، كما انكشفت خديعة التشكيلات العسكرية الخاصة التي يصفها الغرب بالإرهاب إذا خرجت عن طوعه، ويضعها تحت عناوين براقة مثل "فيالق الحرية" إذا كانت تخدم توجهاته.
ولا ننسى نوعية التحفظات والأسئلة التي أثيرت في عام 2022 عن ضمانات العولمة الغائبة، حيث تابعنا مصادرات الأموال الخاصة وتسييس قرارات المؤسسات المصرفية والرياضية، وتابعنا تقييد حركة السفر، وازدواجية المعاملة مع المهاجرين، ومجاهرة الدول بتقديم السلاح للمساعدة في تمديد وإشعال حرب مستعرة، في مقابل قرارات نقيضة تندد بدول أخرى تبيع السلاح أو تمنحه لحلفائها. ولعلكم تتابعون تهويل الغرب في قضية بيع "مسيرات" إيرانية إلى روسيا، ولا يخفى عليكم حجم الأخبار والتقارير التي تكشف هوس الغرب بتتبع حركة السلاح في الصين وكوريا الشمالية؛ لضمان عدم تغذية روسيا بأسلحة تساعدها في التفوق على إمدادات الناتو!
(3)
الترجمة العربية لازدواجية الغرب في مجال التسليح تتمثل بوضوح في حالة فلسطين، حتى أنني ألمحت في مقال سابق إلى أن أوكرانيا تكاد تتحول إلى "إسرائيل الشرق الأقصى". ويمكنكم المقارنة مع ما يحدث في "إسرائيل الشرق الأوسط" بطرق متعددة، أذكر منها الآتي كمثال:
دولة صاحبة أرض وشعب وحق يتم الاستيلاء عليها وتهجير أهلها قسرا، بينما الغرب يمد المعتدي بالسلاح، مع أنه غيّر هو الدولة ولغتها وأسماء مدنها وقراها ويسعى أمام أعين العالم كله لإقامة دولة دينية يهودية ذات طابع عنصري يقسم سكان الأرض إلى "مواطنين" و"أغيار"، فاليهود القادمون من الشتات صاروا أصحاب كل شيء، بينما "السكان الأصليون" مجرد "أغيار" يتم هدم بيوتهم وترحيلهم قسرا لتشييد مستوطنات (يرفضها معظم الغرب في التصريحات، ويسكت عنها في الواقع).
بالتوازي يرفض الغرب ما يحدث لأوكرانيا ويسميه بصوت عال "عدوانا"، ويتبرع بسخاء لتسليح كييف لتدافع عن أرضها، وهو حق مقبول إذا كان الغرب قد منح هذا الحق للفلسطينيين والعراقيين وحركة طالبان في أثناء حكمها الأول لأفغانستان، لكن الواقع يقول إن فلسطين يتم خنقها بتواطؤ غربي، مع أن البكائية التي ينوح بها الغرب على أزمة الكهرباء في أوكرانيا ظلت واقعا يوميا تعايش معه سكان غزة طوال سنوات الحصار الذي فرضه الاحتلال وساعدت فيه الغرب ودول جوار؛ مثل مصر التي تعاونت مع الأعداء في استكمال "طوق الخنق"، عن طريق المعابر التي تتحكم من خلالها في حركة الفلسطينيين ومعيشتهم!
(4)
أوردت هذه المقارنة لأوضح موقف الأنظمة العربية الذي انتقل بسهولة من "تحرير كامل التراب الفلسطيني" و"لا اعتراف.. لا صلح.. لا تفاوض"، إلى النقيض الفاضح الذي تجاوز سياسة التفاوض إلى الولاء المعلن لإسرائيل والمساعدة في حلم "إسرائيل الكبرى"، مرورا بقبول حل الدولتين والأرض مقابل السلام، ثم السلام مقابل الرضا الصهيوني وفتح أجواء الملاحة والهرولة في إجراءات التطبيع الانبطاحي غير المشروط..
هذه الإشارة تذكرنا بأننا غفرنا للأمم المتحدة التغافل عن حماية قراراتها السابقة المتعلقة بحفظ الحق الأدنى للحق الفلسطيني، منذ قرار التقسيم وحتى القرارات المتتالية لإدانة سرقة التراث وتهويد الأرض وتكريس الأبارتايد والترانسفير وشن الغارات على المدنيين ومجاهرة "دولة عضو في الأمم المتحدة" بالتوسع في أسلوب الاغتيالات والمفاخرة به! فيا أيتها الأمم المتحدة شكرا لك عجزك وانقيادك، فنحن في العجز والانقياد سواء، والعدل أن نتغير أو نزول.
(5)
السؤال الذي يطرح نفسه بعد ذكر هذه النبذة التاريخية هو: ما مصير المخطط الأمريكي الغربي الصهيوني المسمى بالشرق الأوسط الكبير في ضوء المتغيرات الجارية في العالم؟
روسيا أعلنت رفض الهيمنة الأحادية، والصين أيدتها بصوت مسموع بعد قمة العشرين الأخيرة، والهند وجنوب أفريقيا ودول صامتة أخرى تتريث لترتيب خطواتها وفق المتغيرات المقبلة، بينما الميزانسين السياسي العربي يراوح في مربع القسمة بين المعسكرين: هؤلاء أتباع سايكس، وهؤلاء موالي بيكو!
هذا لا يعني إحساس العرب أجمعين بما يحدث من تغير دولي، فالسعودية لعبت خارج التعليمات الأمريكية في واحد من القرارات النادرة التي تخبرنا بأن استقلالية القرار العربي ليست مستحيلة، والجزائر تعلن ما تخفيه النوايا في أقطار عربية أخرى فتمسك العصا من المنتصف في علاقتها بروسيا والصين إلى جانب الولاء المزمن لأمريكا والغرب.
كما أن مشهد أعلام فلسطين الذي تبنته الجماهير العربية في الجمعية العمومية لشعوب العالم (مونديال كرة القدم) يخبرنا أن قضية فلسطين تبهت في القصور الرسمية وقرارات الأنظمة، لكنها لا تزال القضية المركزية في الوجدان العربي الحائر. لكننا بنظرة المتفائل نستطيع القول إن هناك "فطرة عربية" تحتفظ بالسلّم الصحيح لقضايا الشعوب وأولوياتها، لذلك أسعدني إشهار العلم الفلسطيني في تحرك شعبي ضد التحرك الغربي في قضية المثليين، ومحاولة بيعها باعتبارها قضية "حقوق إنسان" في الوقت الذي تنتهك فيه حقوق الإنسان العربي كاملة، ولا يتذكرها الغرب إلا كاستثناء لأفراد بعينهم وفي مواقف سياسية تستخدم للضغط، أو لتمرير المعونات وفق شروط المؤسسات الغربية.
(6)
أحلّق بعين الطائر على كثير من القضايا المتداخلة، لأنني (كما قلت) لا أسعى لتقديم معلومة نهائية ولا نصيحة قاطعة، ولكنني أسعى لفتح العيون وتنشيط الأذهان من أجل التفكير واستبيان موقعنا من العالم المتغير. فعلى سبيل المثال إذا كان مصير الأمم المتحدة قضية دولية، فإن مصير جامعة الدول العربية قضية إقليمية تستحق الاجتهاد والمحاسبة لكي نتمكن في وقت قريب من إصلاحها أو إغلاقها، فقد أضرت الجامعة بالعرب أكثر مما أضيروا من الاتحاد الأوروبي مثلا، حتى أنها منحت تفويضا (لم يكن يلومها أحد لو سكتت عنه) لتدمير دول عربية من أعضائها! ولا ننسى أنها لم تقدم للقضية الفلسطينية إلا قرارات لا تروي شجرة زيتون ولا تطعم لاجئا ولا تشفي مريضا ولا تحرر أسيرا.
(7)
إشارتي الأخيرة في هذا المقال تنبه إلى أننا جزء من العالم، ولا نبتغي الانفصال عنه، ولا ندعو لانكفاء وقطيعة، أو حتى إلى "كتلة ثالثة" بين الشرق والغرب، كما كانت تحلم كتلة عدم الانحياز، أو كما رسخت فكرة "الشرق الأوسط المعتدل"، لكننا يا سادة يجب أن نخلع رداء البهاليل ونتعامل بقواعد العقل والعدل في عالم واحد، وأفاجئكم فأقول: ليس عندي مانع في أن يستمر أتباع أمريكا في تبعيتهم لها وانبهارهم بها، لأن هذا يقتضي تقليد المتبوع في تقدمه كما في سقطاته، لكنني أتعجب من أننا نتبع الغرب الذي يفرض الديمقراطية ودولة القانون، لكن أنظمتنا تنتهك القوانين وتمارس القمع. وتشير المؤشرات الغربية إلى معدلات عربية متدنية في الشفافية وتداول المعلومات والحريات وأمان الاستثمار، بينما تعلو مؤشرات الفساد والعنف والتدهور الاقتصادي، فأين التبعية التي يحاكي فيها الضعيف أسياده ويتشبه بهم؟
هذه الإشارة تضعنا أمام "تحدي البزرميط".. علينا أن نهرب من مرحلة البزرميط ونفكر في صيغة شاملة للحياة، نرتضي بها، أو يرتضيها حكامنا ويطبقونها في سياق منتظم:
رأسمالية؟.. لا يهم..
اشتراكية؟.. لا مانع..
اقتصاد سوق؟.. ليكن..
عرب؟.. خير..
شرق أوسطيون؟.. أوكيه، بس نقفل الجامعة العربية وندعو إيران وتركيا للعضوية..
المهم يا سادة أن نتعرف على هوية ما، ونتفق على قواعد ما تسري على الجميع، وحينها يمكن أن نضع الثوابت التي نحترمها ونتحاسب على أساسها.
فلنفكر إذن..
التفكير ليس عيبا أو جريمة..
فلنفكر..
فلنفكر..
فلنفكر..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق