الثلاثاء، 22 نوفمبر 2022

مفاتيح لفهم أحكام الفوائد البنكية

مفاتيح لفهم أحكام الفوائد البنكية

د. عطية عدلان
مدير مركز «محكمات» للبحوث والدراسات – اسطنبول
 

هل صارت وظيفة الخطاب الشرعيّ “المُتلفَزِ” محصورة في القيام بتطويع الأحكام الشرعية لكل جديد مهما كان صريحًا في مخالفته للإسلام؟! 

وهل أفلست المؤسسات الدينية من العلماء الأعلام الأفذاذ؛ حتى يتولى أمثال “خالد الجندي” وفريقه الإفتاء في مسائل مالية بالغة الدقة والحساسية؟! أم إنّه “التجديد الديني!” الذي يريدون فرضه على عقولنا وفهومنا بالقمع الفقهي والإرهاب الفكريّ! لهذه الإشكالات وأمام طوفان الشبهات نحن مضطرون لأن نقدّم حلولًا سهلة ميّسرة؛ بغرض فك الالتباس وفض الاشتباك، هذه الحلول تمثل مفاتيح عامّة لفهم كثير من المسائل البنكية.

الأصل والاستثناء

لن تستطيع -إذا قمت باستقراء الشريعة- إلا أن تسلّم بهذه القاعدة المفتاحية: “الأصل في المعاملات والعقود الإباحة”؛ أمّا التحريم فهو استثناء، إلا أنّ المعاملات المحرَّمة التي استُثنيت من الأصل حُصِرَتْ أصولُها وجذورُها؛ بما لا يسمح لأيّ نازلة مستحدَثة أن تجد لنفسها مهربًا خارج نطاق التناول الشرعيّ، وقد تتبّع العلماء المعاملات المحرَّمة فوجدوها ترجع إلى أصول عامّة، مثل الربا، والغرر، والميسر، والاتجار في ما حُرّم استعماله، وجماع هذه الأصول جِذران، الأول: أكل أموال الناس بالباطل، والثاني: الإفضاء إلى النزاع؛ فإذا عَلِمتَ هذا ثم سمعت متطفلًا على الفقه، يتمطى في برنامج تلفزيوني، ويقول: إنّ فوائد البنوك معاملة جديدة مستحدَثة على غير مثال سابق؛ فأعطه ظهرك، ثم فَتِّشْ في أقوال فقهائنا؛ لتجدهم عَرَّفوا ربا الجاهلية بأنّه: “زيادة مشروطة في دَين مقابل الأجل”، عندها سوف يطمئن قلبك بأنّ فوائد البنوك -سواء منها ما يأخذها من المقترض أو ما يعطيها لِلمُودِع- من نوع الربا المحرَّم في صريح الكتاب وصحيح السنة، والمُجمَع على تحريمه إجماعًا يرتقي إلى مستوى المعلوم من الدين بالضرورة؛ لكون هذه الفوائد “زيادة مشروطة في دَين مقابل الأجل”.

تصحيح الانقسام

ولا ينقسم الربا إلى فضل ونسيئة حتى ينقسم أولًا إلى ربا الديون وربا البيوع، فربا الديون يجتمع فيه الفضل (الزيادة) والنسيئة (التأجيل)، وربا البيوع قد يكون فضلًا، وقد يكون نسيئة، وقد يجتمع فيه الفضل والنسيئة، فأمّا ربا الديون فهو الربا الذي يقع في الديون سواء كانت قروضًا أو حقوقًا مؤجلة، وأمّا ربا البيوع فهو الذي يقع في التبادل التجاري أي البيع والشراء، الأول هو ربا الجاهلية المحرَّم بنص القرآن، والذي عُرِّفَ بأنّه: “زيادةٌ مشروطةٌ في دَين مقابل الأجل” والثاني هو الربا المحرم في السنة بحديث عبادة بن الصامت وغيره من الأحاديث، التي حصرت الأموال الربوية في ستة أصناف هي الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والملح، والتي اتفقت المذاهب الأربعة على أنّها يقاس عليها، وإن اختلفت في علة القياس، وسُميت هذه الأموال الستة وما يقاس عليها (الأموال الربوية)؛ لجريان ربا البيوع فيها وفي ما يقاس عليها، دون غيرها.

وعليه، فإنّ انحصار الربا في أصناف معينة من الأموال، واختلاف العلماء في بعضها بسبب اختلافهم في علة القياس، كل هذا جارٍ في ربا البيوع، لا في ربا الديون الذي تنتمي إليه فوائد البنوك، فربا الديون يكون في جميع الأموال، في المداينة لا في البيع، فلو أنّ شخصًا اقترض من آخر قنطارًا من (التبن) على أن يرده إليه بعد مدة قنطارًا وربع قنطار كان ذلك من الربا المحرَّم؛ فإذا قال لك قائل إنّ العُمْلَةَ الورقية ليست ذهبًا ولا فضة حتى يجري فيها الربا؛ فقل له: نحن هنا نت    حدث عن ربا الديون لا ربا البيوع، وفوائد البنوك من ربا الديون لا من ربا البيوع.

علمًا بأنّنا لا نسلّم لهم بأنّ العملات الورقية لا تقاس على الذهب والفضة، كيف وهي أثمان تتوافر فيها جميع مؤهلات الأثمان؟! فهذه العملات الورقية تَطْمَئِنُّ النفسُ بِتَمَوُّلِهَا، وتحظى بالقبول العام، وتصلح وسيطًا في التبادل ومستودعًا للثروة؛ فما الذي بقي من أوصاف الثمنية والنَّقدية؟! وليس صحيحًا ما يدعيه الغلام الطامح في مشيخة الأزهر بطول عمامته من أنّ العملة الورقية تغيرت أحكامها بعد انهيار قاعدة الذهب في عام 1971؛ لأنّها لم تفقد بهذا المتغير مؤهلًا واحدًا من مؤهلات الثمنية، فلا تزال مالًا مُتَقَوَّمًا وثمنًا للأشياء، ولا تزال كل ورقة تُدفع في مقابل سلعة أو خدمة، أمّا التأثيرات التي طرأت بسبب المتغير فهي اقتصادية لا علاقة لها بأحكام الربا وشرائط وقوعه.

طبيعة عمل البنوك

وليس من عمل البنك -من الجهة القانونية- أن يستثمر، إنّما ينحصر عمله في الاتجار في الائتمان، فيأخذ من المقترض نسبة ويعطي المودع نسبة أخفض؛ ويربح الفرق، ولكن لكونه يُقْرِضُ المستثمرين من مال المودعين سُمي ذلك -تجاوزًا- استثمارًا، وسُمي ما يعطيه للمقترضين تمويلًا، وليس التمويل ولا الاستثمار مما يتنزل عليه الحكم الشرعي، لأنّها أوصاف عامّة غير منضبطة، وإنّما يتنزل الحكم على معاملتين، الأولى إيداع بفائدة سُمي في نص القانون قرضًا ناقصًا، والثاني قرض بفائدة، وليس ثم شراكة ولا مضاربة، فالبنك ليس طرفًا مع أحد في عملية مضاربة أو عملية شراكة؛ آية ذلك أنّ العائد من المضاربة والمشاركة نسبة مئوية من الربح لا من رأس المال، بخلاف العمليتين اللتين يجريهما البنك مع طرفين لا علاقة لأحدهما بالآخر.

السائغ من الخلاف وغير السائغ

ومن الملاحَظ أنّ الحملة في هذه الأيام تركز على نقل الناس من القناعة بأنّ فوائد البنوك من الربا المحرَّم إلى أنّها من المختلَف فيه، وهذا من قبيل التدليس؛ فليس كل خلاف يكون معتبرًا، وكيف يُعتَدُّ بخلاف من خالف في التحريم؟ وهو قول المجامع الفقهية الكبرى في العالم الإسلامي! وعلى رأسها: مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني بالقاهرة عام 1965، ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة 1985، ومجمع رابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة المنعقدة بمكة المكرمة 1985، فإذا أضفت إليها فتاوى الأفذاذ من أمثال: محمد أبو زهرة وعبد الحليم محمود والشعراوي وحسن مأمون وعبد المجيد سليم وجاد الحق وعطية صقر وغيرهم من علماء الأمة في الأقطار كافّة؛ لم يَبقَ هنا من يستحق أن نوليه اهتمامًا.. والله المستعان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق