الخميس، 24 نوفمبر 2022

الحكَّاء (36) لمن لا يعرف حكاية فاطمة

الحكَّاء (36)  لمن لا يعرف حكاية فاطمة

(1)

بعض المناضلين يرحلون في هدوء دون ضجيج، لا يعرف حكايتهم إلا القليل ممن حولهم، ربما لا تحمل الحكاية أحداثًا لافتة، لكنها تعكس إيمانًا مذهلًا لأناس لا يعرفون إلا العطاء، فاطمة واحدة منهم.

في القدس تبدأ الحكاية في عام 1939، تولد فاطمة لأب نيجيري وأُم فلسطينية، بملامح سمراء أفريقية خالصة، لا يمر الكثير من الوقت على ولادتها حتى ترتبك خطط والديها، مع ما أصاب الأمة من نكبة عام 1948.

يصاب والدها بهول المفاجأة، يرسل إلى أمها في المخيم يطمئنها، يذعن الوالدان لعناد ابنتهما فاطمة، عامان وتقرر الأسرة بأكملها العودة والاستقرار معًا في بيت القدس من جديد

تهرب والدة فاطمة برفقة أولادها: هم ولدان وفتاتان، والوجهة مخيم للاجئين في الأردن، بينما ينضم الأب إلى المحاربين في القدس، ضمن الثورة الكبرى التي فقدت قوتها وعتادها بعد سنوات من اندلاعها.

يتمركز المخيم بجوار المدرج الروماني، والجزء الأكبر منه داخل مغارة، فاطمة بسنوات عمرها التسع لا يتقبل عقلها الصغير صفة اللاجئ، تقول في نفسها: لمَ عليّ أن أحيا في مغارة وبيتنا في القدس موجود؟! لا يستوعب عقلها أمر الحرب وما يجري فيها، تكرر على أسماع أمها أنها ترغب بالعودة إلى بيتهم في القدس، لكن أمها تخبرها أنه لم يحن الوقت بعد.

تهرب من المخيم ذات يوم وتسأل ببراءة الأطفال عن مكان وجود الحافلات، تلتحق بالحافلة المتجهة إلى القدس، ولأن العلاقات بين أهل البلدين مترابطة لم تجد صعوبة في أن يقتنع مَن في الحافلة بصدق حديثها أنها ذاهبة لوالدها.

يصاب والدها بهول المفاجأة، يرسل إلى أمها في المخيم يطمئنها، يذعن الوالدان لعناد ابنتهما فاطمة، عامان وتقرر الأسرة بأكملها العودة والاستقرار معًا في بيت القدس من جديد.

(2)

نحن في عام 1956، تتعلم فاطمة التمريض وتعمل به، قبل أن يتاح لها فرصة للعمل في السعودية ممرضةً لتوفر لعائلتها مصدر دخل أفضل، لكنها لم تبق هناك أكثر من عامين، ثم تعود إلى مدينة قليقلة بفلسطين، لتعمل هناك ممرضة مدة 8 سنوات، إلى أن تحل نكبة جديدة.

في عام 1967 يهاجم الصهاينة قرية قليقلة، ويدمرون آبار المياه، ويهدمون الكثير من المنازل، ويقلبون القرية رأسًا على عقب، ليُهَجَّر الكثير منها، ومن بينهم فاطمة.

لم يعد دور الممرضة كافيًا لإرضائها، وتقرر الدخول في معارك مباشرة مع العدو، تتعرف على بضع فتيات خلال عملها في المستشفى الإنجيلي في نابلس، يشكلون مجموعة مقاومة عرفت باسم (طلائع الثأر).

تقرر المجموعة أن عملها في البداية هو مساعدة الجنود المصريين الذين قدموا إلى فلسطين للمساعدة في مواجهة الصهاينة، تستقبلهم مع زميلاتها، يحرقن ملابسهم العسكرية في مواقد إعداد الطعام ويمنحنهم ملابس مدنية، لئلا يبقى ما يوحي بهويتهم العسكرية فيصبحوا فريسة في يد الصهاينة، وليتمكنوا من الخروج من فلسطين والعودة إلى مصر.

تنجح المجموعة في مهمتها، حتى ينكشف أمرهم، ويطردهم مدير المستشفى، لكن من المفارقات الغريبة للقدر سقوط نابلس في يد الصهاينة، لتقرر فاطمة البقاء والمساعدة في إسعاف المصابين حتى بعد قرار طردها من المستشفى.

(3)

تنقطع كافة الأخبار عن نابلس بسبب الهجوم الصهيوني، حتى يظن أهل فاطمة أنها استشهدت في الهجمات العسكرية.

تنجح في الهرب، تعود إلى القدس لتكون المفاجأة السارة لأهلها أنها لا تزال على قيد الحياة، لكن عودتها تلك كانت مفتاحًا لبداية جديدة من المقاومة.

تعرف أن أختها إحسان انضمت لحركة (فتح) المُقاوِمة، تقرر الانخراط معها لتعويض تجربة (طلائع الثأر)، ويكون قرار الحركة بعد انضمامها بعدة أيام تنفيذ 7 عمليات فدائية في أماكن متفرقة سعيًا إلى ضربة مفاجأة للعدو متعددة الجبهات، ويقع الاختيار على فاطمة وأختها إحسان لتفجير سينما صهيون.

تصل بالفعل إلى السينما مع أختها وشخص آخر يدعى محمد شحرور، في يوم عرض فيلم عن انتصار الصهاينة في حرب الأيام الستة.

تضع حقيبة المتفجرات تحت أحد المقاعد، تسعى في مغادرة المكان، لكن رجل الأمن يمنعها، تدعي الحاجة إلى الذهاب إلى صيدلية لإصابتها بألم شديد، تنجح في الخروج، لتسمع بعد دقائق صوت انفجار ضخم، تفرح ويهتز قلبها بنشوة الانتصار.

ثمة مفاجأة بعد ساعات قلائل، خبر بفشل العملية، يكاد عقلها ينفجر، كيف هذا وقد سمعت بنفسها صوت الانفجار؟! تعود بعدها إلى المستشفى الذي تعمل به، في ذات الوقت ولسوء حظها يتوجه إلى بيتها شاب يحمل إليها رسالة من ياسر عرفات، يخبرها أن العملية فشلت، وأن عليها الرحيل من المنزل سريعًا، ولأنه كان تحت المراقبة، فإن الصهاينة يلقون القبض عليه وعلى فاطمة نفسها.

تمر سنوات صعبة على فاطمة في السجن، تتوفى خلالها أمها، حتى يأتي يوم تدوي فيه صافرات الإنذار داخل السجن، وتبدأ السجينات في تغطية النوافذ بالبطاطين، وهي لا تفهم ما يحدث، حتى وجدت جندية يهودية تقول لها: "غدرتم بينا وإحنا صايمين"

(4)

في مكتب التحقيق تفهم فاطمة السر، فقد وضعت الحقيبة تحت كرسيها، لكن الحقيبة اصطدمت بقدم صحفي أميركي، كان يجلس وراءها بالمصادفة، يشك في الأمر، ويخبر أفراد الأمن الذين أخذوا الحقيبة إلى خارج السينما وقاموا بتفجيرها.

تتعرض فاطمة للمحاكمة بعدما أصبحت حديث الصحافة العبرية، التي اختلقت اعترافات مكذوبة عن ندمها ونسبتها إليها، وأنها كانت تخزن ترسانة ضخمة من الأسلحة والمعدات برفقة فريقها، وغيرها من الاتهامات التي خضعت على إثرها لـ7 جلسات محاكمة انتهت بحكم عليها بالمؤبد.

تواجه فاطمة داخل السجن أنواعًا مختلفة وغريبة من المعاناة، وتجد نفسها في صحبة عدد من السجينات اليهوديات الجنائيات اللاتي دخلن السجن في تُهَم سرقة، وأخريات في تهم منافية للآداب، كن مسلطات عليها للضغط عليها نفسيًّا، حتى إن إحداهن ضربتها بقسوة فكسرت لها أسنانها.

(5)

تمر سنوات صعبة على فاطمة في السجن، تتوفى خلالها أمها، حتي يأتي يوم تدوي فيه صافرات الإنذار داخل السجن، وتبدأ السجينات في تغطية النوافذ بالبطاطين، وهي لا تفهم ما يحدث، حتى وجدت جندية يهودية تقول لها: "غدرتم بينا وإحنا صايمين".

لم تفهم ما حدث حتى أمرها الجنود بالركوع على الأرض برفقة السجينات العرب، وسمعت الجملة تتردد على لسان الجميع أن المصريين غدروا باليهود في أثناء صيامهم، لتعرف بعدها أن حرب التحرير اندلعت، وأن الجيش المصري نجح في عبور قناة السويس.

تتحول السجون إلى ملاجئ لليهود هربًا من الطائرات المصرية.

تمضي سنوات السجن طويلة ومريرة، إلى أن يطلق سراحها في الشهر الحادي عشر من عام 1977 ضمن صفقة تبادل أسرى بعد أكثر من 11 عامًا في سجون الاحتلال، لكن فاطمة تقرر السفر إلى لبنان والعمل ممرضة مع المقاتلين اللبنانيين في البقاع اللبنانية حتى عام 1983.

ثم تعود إلى فلسطين بطلب من ياسر عرفات لتشكيل أول وحدة شرطة نسائية في غزة في عام 1994، وكانت هي القائدة عليهن، كان قوام الوحدة 30 امرأة، لكنهن واجهن بعض التعنت في البداية لعدم اقتناع الكثيرين من أهل غزة بأن تكون امرأة شرطية عليهم.

وبعد سنوات من الخدمة الشرطية تقرر ترك كافة أشكال العمل السياسي والحياة الشرطية وتسافر للعيش في مصر، وتظل فاطمة برناوي فيها حتى توافيها المنية في 3 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2022 في مستشفى فلسطين بمصر بعد مسيرة طويلة من المواجهات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق