الاثنين، 21 نوفمبر 2022

أصحاب السبت.. عبر ودروس

أصحاب السبت.. عبر ودروس


علي فريد الهاشمي


 مَا زِلتُ- مُنذْ وَعَيْتُ- أعجبُ من عقوبة (أصحاب السبت) الذين مسخهم الله قردةً وخنازير، وكثيراً ما كنتُ أقولُ لنفسي- كلما قرأت قِصتَهم في القرآن الكريم-: لماذا لم يُهلكهم الله بالكلية كما أهلك الأمم البائدة بالطوفان أو الصيحة أو الريح الصرصر؟!

ثم بدا لي أنَّ عقوبتهم جاءت من جنس عملهم.. فَهُمْ- رغم أنهم لم يكفروا بالله تعالى ولم يرفضوا أمره بالكلية-؛ مَسَخُوا أمر الله حينَ لفقوا بينه وبين أهواء نفوسهم؛ فأماتوا أمر الله باطناً وأَحْيَوْهُ ظَاهراً..
وهو جَلَّ وعَلا لم يُهْلِكْهُم بالكليةِ كما أهلكَ الأممَ البائدةَ، بل جَازاهم بجنس عَملِهِم حين جَمَعَ لهم النقيضين: الموتَ والحياةَ- كما جمعوا هُم إِمَاتَةَ الأمرِ باطناً وإحياءَه ظاهراً-؛ فأمَاتَهُمُ اللهُ بَشَراً وأَحْيَاهُم مُسُوخَاً!!
وأعجبُ مِنْ ذلك وأشدّ نكايةً وإعجازاً أنهم حين تَخَابَثُوا مَعَ الله جل وعلا، وتحايلوا على أَمرِهِ، وَقَدَّمُوا وَسَخَ الدنيا على ما عنده من النعيم الدائم؛ اختارَ اللهُ لهم المَسْخَ إلى نوعين من الحيوانات؛ أحدهما معروف بشدة الخبث والاحتيال- وهم القردة-، والآخر معروف بحبه للوَسَخِ والعيش فيه- وَهُم الخنازير.. ولا أعرف مُشَاكَلةً بين طبيعة الجريمة بتدرجاتها وطبيعة العقاب بتدرجاته كهذه المشاكلة.. حتى لَيُروى- في بعض التفاسير- أنَّ شبابَهم مُسِخُوا قِردةً وشُيوخَهَم مُسِخُوا خنازير.. وهي مُشَاكَلةٌ أخرى- إنْ صَحَّتْ- تُناسبُ طبيعةَ الشبابِ قِردةً، كما تُناسبُ طبيعةَ الشيوخِ خَنازِير!!
تذكرتُ كلَّ ذلك وأنا أشاهد- ليلَ نهار- مَسْخَاً من نوعٍ آخرَ تُمارِسُه الآلةُ الإعلامية الجبارة على عقولِ الناسِ (في شأنِ الاحتفالية الملعونة لكأس العالم في قطر)؛ لِيِسقُطَ في شِباكِهَا حتى أولئك الذين يُسَمُّونَ أنفسَهم أهلَ وَعْي، ويُطلقون- ليلَ نهارٍ أيضاً- وُسُومَاً عن (معارك الوعي)، وتصحيح المسار، والعودة إلى الجذور، والحفاظ على الأصول.. ليصيرَ كُلُّ ذلك هباءً منثوراً أمامَ أهواء النفوس وتحزب الجماعات وطغيان المصالح!!
وليس أبشع من مسخ الأجساد إلا مسخ العقول؛ فإنَّ عَينَكَ لا تَكادُ تُخطِيءُ- حين تًطالع كتاباتِ بعضِ ضحايا الآلة الإعلامية الجبارة- عَقلَ كلبٍ في جسد إنسان يرى العَظْمَةَ في يَدِ قاتِلِهِ ولا يرى الهَرَاوَةَ وراء ظَهرِه، أو عَقْلَ فَأرٍ في جسد إنسانٍ يرى قطعةَ الجُبْنِ ولا يُبصر الفخ، أو عَقْلَ حِمارٍ في جسدِ إنسانٍ يَحملُ الأسفارَ ولا ينتفع بها!!
وإنَّه لا يَزالُ في أهلِ الباطل- رغم فجاجة الردة في هذا الزمن- مَنْ يَحرصُ على خَلْطِ باطِلهِ ببعضِ الحق لِيُعْمِيكَ بِغُصنٍ مِن الحق عن غَابةٍ من الباطل.. وما أكثر أهل الباطل في هذا الزمن، وما أكثر العقولَ الممسوخة كِلاباً وحميراً وفئراناً.. فاحذروا أصحاب السبت في كُلِّ زمانٍ ومكان!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق