الخميس، 17 نوفمبر 2022

عصر التنوير.. واتجاهات ثورة العقل (6)

 عصر التنوير.. واتجاهات ثورة العقل (6)

محمود عبد الهادي


الكاتب: علم الأخلاق يعتبره ديكارت رأس الحكمة وتاج العلوم والمعارف وأنه لا بد من الاطلاع على كل العلوم قبل الخوض في علم الأخلاق 

جاء عصر التنوير في القرنين الـ17 والـ18 الميلاديين ليكمل ما بدأه عصر النهضة في القرنين السابقين، كردة فعل طبيعية للظلم والقهر والاستبداد الذي كانت الشعوب الأوروبية تعاني منه على أيدي السلطة السياسية ممثلة في الملكية، والسلطة الدينية ممثلة في الكنيسة، والسلطة الاقتصادية ممثلة في الإقطاع.

وكان عصر التنوير هو القاعدة التي قام عليها البناء الفكري للنظام السياسي والاقتصادي والديني والأخلاقي في القرون اللاحقة حتى يومنا هذا، وقد أشرنا في المقال السابق إلى أن عصر التنوير شهد ثورتين فكريتين، الأولى عقلية والأخرى تجريبية، وسنتناول عددا من رواد هاتين الثورتين من المفكرين والفلاسفة والعلماء، لنتعرف على الاختلافات التي كانت بينهم، والموقف من الأخلاق عند كل منهم، والتغيرات التي طرأت عليها بمرور الزمن.

اعتبر ديكارت علم الأخلاق رأس الحكمة وتاج العلوم والمعارف وأنه لا بد من الاطلاع على كل العلوم قبل الخوض فيه، فالفلسفة عنده كشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها علم الطبيعة، وأغصانها بقية العلوم الكبرى، وهي الطب والميكانيكا والأخلاق العليا الكاملة

رواد الثورة العقل

برزت في الثورة العقلية على مدى عصر التنوير 3 اتجاهات، كل منها يعتبر مقدمة للذي يليه، التيار الأول طالب بإعلاء قيمة العقل مع تقديس الرب والتشديد على أهمية الإيمان في الحياة، والثاني يعتبر أن نور العقل مقدم على نور الرب، لأنه السبيل إلى معرفته والإيمان به، أما الاتجاه الثالث فطالب بإقصاء الدين والإيمان وفرض هيمنة العقل بالكامل، وكان لكل منها موقفه من الأخلاق، والتغيرات التي طرأت عليها، وفي ما يلي نتعرف على نماذج من رواد هذه الاتجاهات:

رينيه ديكارت

يعتبر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) أبرز فلاسفة هذه الحقبة، كان حريصا على انتمائه للدين المسيحي والإخلاص له، يقول في كتابه المنهج "كان أول مبدأ اتبعته أن أخضع لقوانين بلادي وعاداتها، وأن أستمر على هدي الدين الذي أنشأني الرب فيه منذ نعومة أظفاري، وأن أتّبع في جميع المجالات الآراء الأكثر اعتدالا والأبعد عن روح التطرف والمغالاة، إلا أن منهجه يضع الشك في كل شيء، في وجوده وفي العالم وفي المعرفة، حتى أصبح شكه دليلا على وجوده "أنا أشك إذن أنا موجود"، كان يبدأ بالشك كي ينتهي إلى وجود الأنا ووجود الإله وخلود النفس.

وقد أدركت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية خطورة كتب ديكارت، وسرعان ما قامت بإدراجها على قائمة الكتب المحرمة عام 1667، وقد أصدر الملك الفرنسي لويس الرابع مرسوما بمنع تدريس كتبه في الجامعات الفرنسية، مما زاد من أهميتها وزيادة دورها في غرس البذور الأولى للثورة الاجتماعية والسياسية والدينية التي شهدتها فرنسا وأوروبا.

كان ديكارت يعتقد أن العقل والجسد كيانان مختلفان، وقد وضع منهجا جديدا في الفلسفة يعتمد فيه على المنهج الرياضي والهندسي، في محاولة للوصول بالفلسفة إلى درجة اليقين التي وصل إليها التفكير الرياضي والهندسي، وقد حدد لمنهجه هذا 4 قواعد على نحو ما ورد في كتابه "المنهج"، وهي: اليقين والتفكيك والتركيب والاستقراء.

اعتقد ديكارت أن الرب يشبه العقل، من حيث أن الرب والعقل يفكران ولكن ليس لهما وجود مادي أو جسمي، إلا أن الرب يختلف عن العقل في أنه غير محدود، وأنه لا يعتمد في وجوده على خالق آخر، فهو يؤمن بوجود رب قدير لدرجة لا حدود لها.

أما علم الأخلاق فيعتبره ديكارت رأس الحكمة وتاج العلوم والمعارف، وأنه لا بد من الاطلاع على كل العلوم قبل الخوض في علم الأخلاق، فالفلسفة عنده كشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها علم الطبيعة، وأغصانها بقية العلوم الكبرى، وهي الطب والميكانيكا والأخلاق العليا الكاملة.

ورغم حرص ديكارت الدائم على تأكيد إيمانه بوجود الله فإن منهجه أوصل الكثيرين إلى الإلحاد وإنكار وجود الله.

باروخ سبينوزا

يعتبر سبينوزا أحد أعمدة عصر التنوير، وهو فيلسوف هولندي يهودي (1632-1677) كان من أوائل المتأثرين بالفكر الديكارتي، إلا أنه خالف ديكارت في قوله إن الجسد والعقل كيانان منفصلان، حيث يرى أنهما كيان واحد وأن الخير الأسمى يكون في المعرفة، والمعرفة عنده هي اتحاد الروح بالطبيعة الكاملة.

رأى بايل ضرورة فك ارتباط الأخلاق بالدين، وطالب بدراسة الأخلاق من وجهة نظر العقل الطبيعي وحسب بدلا من تحديدها بواسطة الدين، وقال إنه من الممكن لمجتمع ما أن يتكون بكامله من الملاحدة، مما فتح المجال لنقاشات جديدة حول جدوى الدين في المجتمع والدولة

ألّف سبينوزا كتاب "الأخلاق" الذي يعتبر من أهم الكتب التي أثّرت في الفلسفة الغربية في عصره، وكان يرى أن كل تأملات الفلسفة الميتافيزيقية وكل ما يمكن أن يضعه العقل البشري من أفكار ليس له غاية نهائية إلا توجيه الإنسان في حياته من أجل هدف سامٍ لهذه الحياة الإنسانية، وهذا الهدف هو السعادة وسلامة الإنسان العقلية والأخلاقية، وقد تناول في كتابه 3 محاور رئيسية تركزت حول الإله والإنسان والأخلاق، وعلى غرار ديكارت فقد عمد سبينوزا إلى استخدام المنهج الرياضي والهندسي في تقديم أطروحاته.

وفي مقال له بعنوان "في إصلاح العقل" يتناول المعرفة الإنسانية حصريا ويربطها بالأخلاق والسعادة والفضيلة الإنسانية، وفي كتابه "تهذيب العقل" تحدث سبينوزا عن أنواع المعرفة والسبل المناسبة للوصول إلى الفهم الصحيح لما فيه خير الإنسان، ليتمكن من إثبات وحدة العقل والطبيعة، وأنه ليس هناك تناقض بين الروح والجسم والفكر، حيث كان يرى أن أهواء الإنسان الدينية والسياسية هي سبب بقائه في حالة العبودية، وأن من الخطأ الاعتقاد بأن الثروة والشهرة والمتعة هي ما يجلب السعادة للإنسان، لأن هذه الأشياء لا توصلنا إلى السعادة الحقيقية التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق العقل المستنير والتفكير القويم.

ومن هنا يتبنى سبينوزا بشكل حاد الفصل بين الإيمان والعقل، فهو يرى أن الإيمان والفلسفة منفصلان، وأن غاية الفلسفة هي الحق والحقيقة، فيما غاية الإيمان هي الطاعة والتقوى، وأن الأسس التي تقوم عليها الفلسفة هي المبادئ العامة التي تحكم الأشياء، أو القوانين الثابتة للطبيعة، وهذه نستخلصها من دراستنا للطبيعة وحدها، أما الإيمان فيتأسس على الكتب المقدسة والتسليم بها.

كما يرى أنه ما دام الهدف الأساسي للإيمان هو تهذيب الأخلاق بجعل الناس يطيعون الأوامر الأخلاقية فإنه لن يتضرر من الفلسفة إذا لم تدع إلى أي عصيان أو تعصب أو كراهية في المجتمع.

ويذهب سبينوزا إلى أن العقائد مختلفة لدى الشعوب، وكذلك فهي تتغير وتتطور، أما الإيمان الذي يتمثل في التقوى والطاعة والدعوة إلى العدل والإحسان فثابت وغير متغير، ولذلك يجب ألا يتدخل العقل في إثبات عقائد معينة لأن هذه ليست وظيفته، بل وظيفته الأساسية اكتشاف القوانين وإدراك نظام الطبيعة.

ويميل سبينوزا إلى الرأي القائل إن الإيمان طريق ضروري لقيادة العامة عن طريق الكتاب المقدس، والجمهور لا يستطيع الوصول إلى المبادئ الأخلاقية عن طريق النظر العقلي والتفلسف والبرهان، ولذلك فهو بحاجة إلى من يقدم له حقائق الأخلاق بالأسلوب الخيالي والمجازي في صورة مباشرة، وعلى أنها قوانين مفروضة في صورة شريعة، ذلك لأن العامة لا يستطيعون التوصل بتفكيرهم الخاص إلى الصواب والخطأ، وهم في حاجة دائمة إلى من يقودهم ويقدم لهم القواعد جاهزة، وهذا ما يوفره لهم الدين، وإذا كانت الغاية من الحياة الإنسانية هي السعادة فإن الدين يقدم للعامة طريقا مختصرا وبسيطا للوصول إليها، وهو الطاعة والخضوع والالتزام بالأوامر الإلهية، أما الوصول إلى السعادة عن طريق النظر العقلي، والمتمثل في إدراك طبيعة الوجود وقوانينها الذي إذا اتفق سلوك الإنسان معه تحققت له السعادة فهذا ليس ممكنا للعامة، بل هو خاص بأصحاب العقل والتفكير الفلسفي، ومن هنا يذهب سبينوزا إلى ضرورة التسليم بسلطة الدين والكتب المقدسة وعدم إخضاعها للعقل.

بيير بايل

يعتبر بايل (1647-1706) أحد الفلاسفة المتأثرين بفلسفة ديكارت القائمة على الشك، كما يعتبر أحد رواد حركة التنوير الفرنسية، دخل في نزاع مع الديانة الكاثوليكية انتهى به إلى التخلي عن الديانة المسيحية والدعوة إلى التسامح الديني، ولكنه ظل مؤمنا بوجود إله.

غير أن بايل خطا خطوة جديدة حين دعا ولأول مرة إلى تغليب النور الطبيعي -أي نور العقل- على النور فوق الطبيعي، أي نور الإله، إذ إن التوصل إلى فهم الرب أو الإيمان به لا يتم إلا عن طريق النور الطبيعي، نور العقل، وكان لهذه الخطوة تأثير كبير في الذهاب إلى أبعد من ذلك، وصولا إلى التحرر الكامل من هيمنة الدين، وفرض هيمنة العقل مكانها.

خالف بايل سابقيه من أمثال ديكارت وسبينوزا في ما يتعلق بالأخلاق وارتباطها بالدين، واعتبر أن الأخلاق يجب دراستها من وجهة نظر العقل الطبيعي وحسب بدلا من تحديدها بواسطة الدين، وكان لطرحه المبكر أنه من الممكن لمجتمع ما أن يتكون بكامله من الملاحدة دور كبير في فتح المجال لنقاشات جديدة حول جدوى الدين في المجتمع والدولة والدعوات اللاحقة بعلمانية الدولة وفصل الدين تماما عنها.

ورغم أن بايل تبنى التصور العقلاني للدين وانتقد هيبة رجال الكنيسة وتسلطهم على العقول وطالب بالحرية الدينية والعقائدية فإنه ظل يخشى من أن يتجاوز الحدود التي وضعها الرب له، حيث يرى أن العقل البشري بدون مساعدة العقل الإلهي يضل ويضيع ويذهب في متاهات لا نهاية لها، وهو ما لم يتفق عليه معه الجيل التالي من التنويريين مثل فولتير وبيدرو وروسو.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق