أمريكا اللاتينية تتحرر من القبضة الأمريكية
لم تكن نتيجة الانتخابات البرازيلية مجرد حدث عابر في أمريكا اللاتينية، وإنما معركة كبيرة لها دلالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي؛ ففوز اليسار البرازيلي يأتي مكملا وداعما لحكام اليسار في فنزويلا وبوليفيا وشيلي وبيرو وكولومبيا في مواجهة التدخل والحصار الأمريكيين.
عودة الزعيم اليساري لولا دا سيلفا إلى الحكم في البرازيل تؤكد حالة التمرد العالمي على الهيمنة الغربية؛ فالشعوب تنتزع حقها في انتخاب ممثليها بعد عقود من السيطرة والسطو المنظم باسم الخصخصة وتمكين الشركات العابرة للقوميات والاستثمارات الغربية من امتلاك الأصول ونهب الثروات في البلدان الفقيرة.
قصة كفاح الرئيس البرازيلي الجديد جديرة بالإعجاب، فهو ينتمي لأسرة فقيرة وعمل في طفولته ماسح أحذية، ولم يخجل من تاريخه بل كانت صراحته وشجاعته سببا في فوزه دورتين، ولم ينسه الشعب عندما حاول الليبراليون التخلص منه وحبسوه بتهمة الرشوة، بل سانده الشعب وأعاده إلى الحكم مرة ثالثة، ولخص لولا دا سيلفا ما حدث له بكلمات معبرة عندما قال: “عدت بعد أن حاولوا دفني حيا”!
معركة الاستقلال
تعاني شعوب أمريكا اللاتينية من التدخل الأمريكي المتواصل، وإجهاض محاولات التحرر لتظل دائما تابعة للولايات المتحدة، وقد جعل مبدأ مونرو الذي أصدره الرئيس الأمريكي الأسبق جيمس مونرو عام 1823 القارة الأمريكية الجنوبية فناء خلفيا للولايات المتحدة وعزل دولها عن العالم، ولكن مع اتساع حالة التمرد أصبح من المستحيل استمرار القبضة الأمريكية.
ناصرت الشعوب اللاتينية الأحزاب اليسارية لكونها هي التيار المقاوم للاحتكارات والاستثمارات الأجنبية ولمواجهة طبقة المنتفعين الذين امتصوا دماء الشعوب، ولإسقاط الحكومات التي ساندتها أمريكا، فأفسدت وأغرقت البلاد في الديون.
جاء الفوز المستحق لمرشحي اليسار نتيجة طبيعية للخراب الاقتصادي في ظل الحكومات الليبرالية، وبرامج الإفقار التي جعلت أقلية نسبتها 1% من السكان تمتلك 90% من الثروة، وهو النموذج الذي يتم استنساخه في كل الدول التي تدور في الفلك الأمريكي.
الصين ودعم التمرد
اقتنصت الصين الفرصة واستغلت حالة العداء لأمريكا في القارة الجنوبية بالتمدد وضخ القروض والمنح والاستثمارات في البنية الأساسية والمشروعات الصناعية والموانئ، مقابل الحصول على المواد الخام، وأصبحت في السنوات الأخيرة هي الشريك التجاري الأول لتلك البلدان بدلا من الولايات المتحدة.
فضلت معظم دول القارة اللاتينية التعاون مع الصين وانضمت إلى مبادرة الحزام والطريق، بحثًا عن المصالح والمنفعة، حتى الحكام الليبراليون انضموا إلى تلك المبادرة مثل الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو الذي هزم في الانتخابات الأخيرة؛ فردت أمريكا بمبادرة “الهندو-باسفيك” التي تضم الدول المطلة على المحيطين الهادي والهندي لحصار الصين.
لكن مع ازدياد سيطرة اليسار على الحكم فإن الصين ستتفوق على أمريكا وستحظى بمكانة لها أهميتها الاستراتيجية في البرازيل وأخواتها، وهذا التعاون يفيد الطرفين؛ فالحكومات اليسارية تعمل على فك الارتباط بالجارة الشمالية المكروهة بسبب أطماعها، والصين من جهتها تحتاج إلى تطويق أمريكا التي تحاصرها في بحر الصين والمحيط الهادي.
أمريكا اللاتينية مع فلسطين
من الظواهر الجديرة بالتشجيع في أمريكا اللاتينية تبني قضية فلسطين كقضية محورية في كل الانتخابات، فزعماء اليسار يعلنون مساندتهم للحق الفلسطيني ويرفعون الأعلام الفلسطينية ويلوح بعضهم في المؤتمرات العامة بالكوفية الفلسطينية، وفي المقابل يرفع المرشحون المنافسون التابعون للولايات المتحدة أعلام “إسرائيل” ويجاهرون بتأييدهم الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة اليهودية!
لا يتوان زعماء أمريكا اللاتينية عن مساندة فلسطين في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، ويشجبون كل عدوان إسرائيلي على غزة، ويرسلون إشارات متواصلة إلى الدول العربية والإسلامية لتأكيد مواقفهم العادلة، لكن بسبب الهيمنة الأمريكية لا يتجاوب معظم حكام العرب بالقدر الكافي، بل تسبقهم إيران فتوطد علاقتها مع أولئك الزعماء.
الآن ومع حالة التمرد العالمي على هيمنة الولايات المتحدة، أمام العرب والمسلمين فرصة ذهبية لبناء علاقات إيجابية مع شعوب أمريكا اللاتينية والانفكاك من الأسر الأمريكي، فالعالم يتغير، وليس من المصلحة تجاهل قارة كاملة تتحرر، وبها شعوب تناصر قضايانا وتنتظر منا أن نبادلها المواقف ونساندها في سعيها لنيل الاستقلال، ففي ذلك فتح باب التحرر لنا ولباقي العالم.
****
إن شعوب أمريكا اللاتينية تشبه الشعوب العربية والإسلامية في المعاناة من الهيمنة الخارجية ولكنهم رغم الضغوط الشديدة عليهم وقربهم من القبضة العسكرية الأمريكية سبقونا فتمردوا ولم يستسلموا، وظلوا ينتزعون دولهم من مستنقع الإذلال والعبودية، الواحدة تلو الأخرى، وهم يتساندون الآن بشكل جماعي لنيل الاستقلال وإعادة بناء بلادهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق