الجمعة، 11 نوفمبر 2022

إخراج الأمة المسلمة

 إخراج الأمة المسلمة

الأمة ليست أكواما بشرية -صالحة أو غير صالحة- وإنما هي نسيج اجتماعي تحكمه سنن الله، وقوانينه في بناء الأمم وصحتها ومرضها ووفاتها، وتتلاحم فيه مكونات الأمة، وتعمل متكاملة بحيث يكون حصيلة هذا كله إخراج الأمة المسلمة، وقيامها بوظائفها طبقا لحاجات الزمان والمكان.

إخراج الأمة المسلمة هدف من أهداف التربية الإسلامية

وما لم توجه العناية إلى بلورة هذا الهدف، وتربية -إنسان التربية الإسلامية- عليه فإن الجهود التي تبذل لتحقيق: هدف تربية الفرد المسلم لن تكون ذات قيمة؛ لأن الأفراد الصالحين -المصلحين هم عنصر واحد من عناصر تتفاعل لتجسد -الأمة المسلمة- في بناء اجتماعي واقعي يلبي الحاجات والتحديات القائمة. وإلى هذا البناء كانت الإشارة في الحديث النبوي القائل: “المؤمن للؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا”1.

و”المؤمنون في توادهم وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى”2.

وكما أن البنيان المرصوص ليس كومة من الحجارة، وإنما هو جدر متينة من الحجارة المصقولة المشدودة بعضها إلى بعض بالإسمنت، والحديد حسب قوانين هندسة البناء، وعدد الأعمدة، والجسور والعقود، وعمق الأساس، وسمك الجدار، ومقدار الارتفاع، وظروف المناخ المحيط.

وكما أن الجسد لا يتداعى أعضاؤه بالسهر، والحمى للعضو المصاب إلا إذا كان يغذي الجسد قلب نابض بالحياة، ويدبر أموره دماغ سليم، وأجهزة معافاة للهضم والتنفس، وشبكة نشطة من الشرايين والأوردة والأعصاب، ويغذيه دم نقي متوازن التركيب والعناصر.

فكذلك الأمة ليست أكواما بشرية -صالحة أو غير صالحة- وإنما هي نسيج اجتماعي تحكمه سنن الله، وقوانينه في بناء الأمم وصحتها ومرضها ووفاتها، وتتلاحم فيه مكونات الأمة، وتعمل متكاملة بحيث يكون حصيلة هذا كله إخراج الأمة المسلمة، وقيامها بوظائفها طبقا لحاجات الزمان والمكان.

وتتكامل المرحلتان -مرحلة تربية الفرد المسلم، ومرحلة إخراج الأمة المسلمة- بحيث تكون الأولى مقدمة للثانية، ولا تغني واحدة دون الأخرى. ولذلك كان التركيز في المرحلة المكية على تربية الفرد المسلم، بينما كان إخراج الأمة المسلمة هو محور العملية التربوية في المرحلة المدنية.

الفرق بين الأمة المسلمة والأمة الإسلامية

غير أن البحث في المصادر الإسلامية يكشف أن لـ”الأمة” في التاريخ الإسلامي مفهومين: مفهوم نظري في القرآن والسنة، وهو مفهوم يقدم النموذج الذي يجب أن تكون عليه الأمة، وقد اخترت في هذا المقال أن أطلق عليه اسم “الأمة المسلمة”.

ومفهوم عملي يمثله كيان “الأمة” الذي برز عبر العصور الإسلامية ابتداء من عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى الوقت الحاضر، وقد اخترت أن أطلق عليه اسم “الأمة الإسلامية”.

وتبين وقائع التاريخ أن المفهوم العملي للأمة قد تطابق مع المفهوم النظري لزمن معين -هو عصر الرسول، وعصر الخليفتين أبي بكر وعمر- ثم أخذ في الابتعاد تدريجيا، حتى انتهى إلى مخالفته تماما مثبتا بذلك ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال: – “تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما”3.

– “خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”. “قال عمران راوي الحديث: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة”، “ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن”4.

مؤسسات التربية الإسلامية ودورها في إخراج الأمة المسلمة

وهذا يعني -بشهادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن “الأمة الإسلامية” لم تكن طوال التاريخ “أمة مسلمة” راشدة، وإنما أخذت -منذ وقت مبكر- بالانحراف عن نموذج الأمة في القرآن والسنة حتى خالفته تماما، وإن مؤسسات التربية الإسلامية في العصور التي تلت عصر النبوة، والخلافة الراشدة تركت -أو أجبرت على ترك- “فقه” إخراج الأمة المسلمة، وما يتطلبه هذا الإخراج من نظم وتشريعات ومؤسسات تقي الأمة من التسلط، وتحميها من عوامل المرض وأخطاء الوفاة. ثم نسيت هذا الهدف، ثم انحسرت لتقتصر على تربية الفرد الصالح -غير المصلح الذي يهيأ منذ الطفولة للانتقال إلى الآخرة دون التدرب على عبور محطة الدنيا. وهذا النموذج في التربية هو الذي ورثته مؤسسات التربية الإسلامية في العصور الحديثة، حيث ما زالت هذه المؤسسات تعمل على أساس أنه: “إذا صلح الفرد صلحت الأمة”، وما زالت مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية، والحركات العاملة في ميدان العمل الإسلامي تتقبل هذه المقولة، وتتعامل معها وكأنها آية من آيات الكتاب، وليس كفرضية من الفرضيات البشرية التي قد تثبت، أو لا تثبت بالاختبار والتجريب في مختبر الآفاق والأنفس. فكانت النتيجة العملية لهذه الممارسات التربوية الخاطئة هي تكدس الأفراد المسلمين في أكوان بشرية ليس لديها علوم محددة عن “فقه” بناء الأمم وتنسيق المقدرات البشرية والمادية. ولذلك أصبحت لعبة سهلة بأيدي قوى الاحتلال الخارجي، التي ما زالت تصنع من شظايا الأمة المسلمة المتوفاة مزقًا من الكيانات المهيضة التي تطلق عليها اسم -الأمم الإسلامية- وتحدد لها “جنسياتها” و”ثقافاتها” ومحاور “الولاء” فيها طبقا لنظريات عصبية مختلفة، وتصمم لها تطبيقاتها الخاوية الضعيفة في شئون السياسة، والإدارة والاجتماع.

والمحصلة النهائية لجهل المؤسسات التربوية الإسلامية بإخراج الأمة المسلمة هي أن هذه المؤسسات ما زالت تعمل على إعداد أفراد صالحين -غير مصلحين لتقذف بهم إلى بيئات غير صالحة حيث تدخل فضائلهم الفردية في صراع مع علاقات اجتماعية غير فاضلة، إلى أن ينتهي بهم الأمر إلى الازدواجية في السلوك وإلى التلاؤم، والتآكل ثم الوقوع ضحية والانفعالات، والانفجارات التلقائية، والجهاد المرتجل أو المصطنع الذي كثيرا ما ينتهي إلى الانتحار الاجتماعي، أو السحق تحت ضغط الإحباطات والنكسات دون أن ينتبه أحد إلى أن المطلوب هو “فقه” جديد -أو علم جديد- يتكامل فيه علم إخراج الأمة المسلمة، وعوامل صحتها ومرضها وموتها، وبعثها إلى آخر ما يتعلق بها.

لكل ذلك أصبحت الحاجة ماسة وشديدة إلى استكشاف -فقه إخراج الأمة المسلمة- وبلورة أصوله، وتنبيه الباحثين الإسلاميين إلى دخول ميدانه في ضوء الغايات العليا التي ترشد إليها توجيهات القرآن الكريم، والسنة الشريفة والشئون المتجددة في الآفاق والأنفس. وهذا ما هدفت إلى الإسهام فيه الفصول التالية من هذا الباب.

مفهوم الأمة المسلمة

الأمة مصطلح من المصلحات التي ولدت بميلاد الرسالة الإسلامية مثل مصطلح “الصلاة” و”الزكاة” و”الإيمان” و”الإسلام” و”الكفر” و”النفاق” وهكذا.

والأمة تعني -لغويًّا- الجماعة من الناس التي تؤم جهة معينة5. وأما المعنى -الاصطلاحي، فقد تكررت الإشارة إليه في القرآن، والحديث ليدل على معان عديدة أهمها:

  • المعنى الأول، ورد مصطلح “الأمة” ليدل أن الأمة هي: إنسان + رسالة.

و”الرسالة” هنا هي مثل أعلى يقدم النموذج الأمثل للجوانب الخيرة في سلوك الفرد، والجماعة ليأتم به الناس ويسعدوا، ويقدم الصورة الشاملة للجوانب الشريرة ليتجنبها الناس ويسلموا من آثارها. ويشير القرآن الكريم إلى هذه -الرسالة في مواضع عديدة باسم- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأما عن “الإنسان” فقد يكون فردا واحدا مثل الإشارة إلى إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النمل: 120] .

ومثل قوله -صلى الله عليه وسلم- في زيد بن عمرو بن نفيل: “يبعث أمة وحده”؛ لأنه لم يشرك في دينه شيئا6.

ومثل قول عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه فروة الأشجعي حين قال: كنت جالسا مع ابن مسعود فقال: إن معاذًا كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين.

فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنما قال الله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) . فأعاد قوله: إن معاذا. فلما رأيته أعاد عرفت أنه تعمد الأمر فسكت.

فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟

قلت: الله أعلم!

قال: الأمة الذي يعلم الخير ويؤتم به ويقتدى. والقانت: المطيع لله. وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه معلما للخير مطيعا لله ورسوله7.

وقد يكون -الإنسان- جماعة من العلماء الدعاة الذين يحملون رسالة إصلاحية مثل قوله تعالى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف: 159] .

وقوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) [آل عمران: 104] .

وقد يكون -الإنسان- طائفة أو قبيلة لها معتقدها، ونهجها مثل قوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) [الأعراف: 160].

وقوله أيضا: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ) [الأعراف: 168] .

وقد يكون -الإنسان- جيلا له فكر واحد ولون حضاري واحد مثل قوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة: 134، 141] .

وقوله -صلى الله عليه وسلم- في جيل الصحابة الذي رباه: “إن لكل أمة أجلًا، وإن لأمتي مائة سنة، فإذا مرت على أمتي مائة سنة أتاها ما وعدها الله”8.

وقد يكون -الإنسان- مجموعة متميزة بالتزامها مثل الرسالة ومبادئها. مثل قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران: 110] .

وبسبب هذا التميز قال عمر بن الخطاب عند ذكر هذه الآية: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا! وفي تفسيرها قال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة9!

وقد يتسع مفهوم -الإنسان- حتى يشمل الإنسانية كلها إذا اجتمعت على فكرة واحدة ومنهاج واحد. مثل قوله تعالى:

(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) [يونس: 19] .

(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) [الزخرف: 33] .

  • والمعنى الثاني، فقد ورد مصطلح “أمة” ليعني -منهاج حياة- وما يتضمنه هذا المنهاج من معتقدات، وقيم وممارسات وتقاليد مثل قوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: 22] .
  • والمعنى الثالث، فقد ورد مصطلح “أمة” ليعني -فترة زمنية- مثل قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف: 45] .

(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [هود: 8] .

  • والمعنى الرابع، حيث ورد مصطلح “أمة” ليعني مجموعة من الناس لها مهنة واحدة. مثل قوله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص: 23] .
  • والمعنى الخامس، حيث ورد مصطلح “أمة” ليشير إلى المخلوقات الأخرى من الحيوانات والطيور، والحشرات التي تنتمي إلى جنس واحد. مثل قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأنعام: 38] .

ولقد كشف علم الحيوان إن لكل نوع منه لغة تخاطب، وتقاليد في العمل والقيادة، ونمطا في الاجتماع وأسلوبا في الحياة.

ولقد تكرر شرح مصلح “الأمة” عند بعض المفسرين ليشير إلى المعاني التي مرت. فهو عند الطبري: “الجماعة والقرن من الناس”10. وهو “دين وملة”11. وهو “الناس كانوا على دين واحد فاختلفوا” وهو “الإمام يقتدى به في الخير”12. وهو “الأجل المحدود أو مجيء أمة وانقراض أخرى”13. وهو “الطريقة: أي كنتم خير أهل طريقة”14.

بعض الملاحظات حول مفهوم “الأمة”

ومعناه: الملاحظة الأولى، إن المعنى الاصطلاحي المتكامل لـ”الأمة” يتضمن عناصر أربعة: الأول، العنصر البشري، والثاني، العنصر الفكري. والثالث، العنصر الاجتماعي. والرابع، العنصر الزمني. فالأمة مجموعة من الناس تحمل رسالة حضارية نافعة للإنسانية، وتعيش طبقا لمبادئ هذه الرسالة. وتظل تحمل صفة -الأمة- ما دامت تحمل هذه الصفات. أما حين تفقدها فقد يطلق عليها اسم “الأمة”، ولكنها لن تكون النموذج الإسلامي للأمة تماما، كما يطلق اسم “دين” على أن دين، ولكن الدين المقبول عند الله هو الإسلام.

والملاحظة الثانية، إن العنصر الرئيسي في مفهوم الأمة هو عنصر -الرسالة- أي العطاء الذي تقدمه جماعة من الناس إلى بقية مجموعات الإنسانية ليساعد على بقاء النوع البشري ورقيه.

والملاحظة الثالثة، لا يشترط في العنصر البشري -أو المكون الأول للأمة- الروابط الدموية، أو الجغرافية، ولا الكم العددي. فقد يكون هذا العنصر فردًا واحدًا، وقد يكون فئة أو جماعة أو جيلا، أو أجيالا أو الإنسانية كلها ما دامت تحمل رسالة، ويوحدها فقه شامل لهذه الرسالة وتطبيقات فاعلة تنتج عنها نظم، وتطبيقات حضارية في ميادين الحياة المختلفة تسهم في بقاء النوع البشري ورقيه.

والملاحظة الرابعة، إن الأمة تتدرج في نشأتها، ونموها كتدرج نمو الجسد الإنساني فكما يبدأ الجسد نطفة، ثم علقة ثم يولد طفلا ثم يصبح صبيا، ثم يقوى شابا ثم يبلغ رجلا ثم يعود شيخا، وكما إن الإنسان الكامل هو الذي يبلغ النضج الجسدي والنفسي، والعقلي ويقوم بوظائفه كاملة. فكذلك الأمة تبدأ فردا واحدا، ثم تصير مجموعة صغيرة ثم قوما ثم شعبا حتى تنتهي بالدائرة الإنسانية كلها. والأمة الراشدة هي التي تبلغ درجة الرشد الحضاري والنوعي، وأبرز شارات هذا النضج هو حمل رسالة الدعوة للخير بمعناه الواسع وإشاعته، والنهي عن المنكر بمعناه الواسع ومحاربته.

والملاحظة الخامسة، إن الأمة الراشدة لا ينال من وحدتها تنوع الشعوب، والقبائل فيها ولا اختلاف الألوان والمهن والأماكن ما دامت هذه التنوعات لا تخرج عن وظيفتها في تسهيل التعارف، وما دامت ولاءاتها تدور في فلك الرسالة وحده، ولا تدور في فلك الأشخاص والأشياء، وما دام يعمل هذا التنوع كما يعمل التنظيم الإداري القائم على الوحدة في الغاية، والتنوع في الاختصاصات والوسائل.

والملاحظة السادسة، إن الأمة كيان صناعي يمكن بناؤه وهدمه. فهي تخرج إخراجا للقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا الإخراج يقتضي منها بذل الجهد، والمقدرات لتطوير المؤسسات التربوية والإدارية للقيام بالدراسة والتخطيط المستمر لإحكام تطوير الأمة، وإخراجها بما تتطلبه وظيفتها حسب حاجات الزمان والمكان. وإلى إخراج هذه المؤسسات كان التوجيه الإلهي، مثل قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104] .

والملاحظة السابعة، إن استمرار الأمة في الحياة مرهون باستمرار حملها للرسالة، وما يتفرع عنها من تطبيقات في مجالات الحياة المختلفة. فإذا ضعفت عن حمل هذه الرسالة، أو توقفت فاعليتها أو تقلصت تطبيقاتها انتهى وجود الأمة وحل محلها أمة أخرى لا علاقة لها بسابقتها، وإن ربطتها بها روابط الدم والأرض واللغة والثقافة، وهذا ما فهمه كبار الصحابة الذين عايشوا بدء الرسالة وتطبيقاتها من قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) .

ولقد كان الخليفة عمر حريصا على تأكيد هذا الفهم، والتصور عن الأمة المسلمة حين قال في شرح الآية المذكورة:

“لو شاء الله لقال: أنتم، فكنا كلنا. ولكن قال: “كنتم” في خاصة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

وفي مناسبة أخرى قال: “كنتم خير أمة أخرجت للناس”، تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.

وفي حجة حجها قرأ هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها.

وعن ابن عباس في تفسير الذين هم خير أمة أخرجت للناس، قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.

وعن أبي هريرة في تفسير الآية المذكورة: كنتم خير الناس للناس تجيئون بهم في السلاسل تدخلونهم في الإسلام15. ليدخلوا الجنة.

والملاحظة الثامنة، إن سعة دائرة الأمرة يحددها -مدى التواصل والاتصال- الذي تحدده تكنولوجيا العصر. فحين كان الإنسان يسير على قدميه، ويتواصل مشافهة مع بني جنسه تحددت دائرة الأمة بالحدود الجغرافية، التي أمكنه التحرك داخلها. وحين ركب الحمير، والخيل اتسعت الدائرة لتشمل أكثر من قريته، وحين اكتشف العربات التي تجرها الخيول ورموز الكلمات والكتابة ازدادت سعة دائرة الأمة لتشمل القارة حتى إذا وقف على عتبة ركوب الفضاء، والتواصل بالتلكس والتلفون والفاكس رسمت الرسالة الإسلامية للأمة دائرة تتسع للإنسانية كلها.

ويرتبط بهذا التطور الجغرافي لسعة رقعة الأمة تطور اجتماعي مواز يوسع دائرة القيم في كل طور فينقلها من القيم الأسرية إلى القبلية ثم القومية ثم العرقية ثم العالمية. وإلى هذا التدرج في الاتساع كانت الإشارة النبوية في أن كل رسول بعث إلى قومه، وأنه -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الناس كافة.

ولكن المشكلة في التطور المشار إليه أن البشرية كانت -وما زالت- تعجز عن مواكبته فتقع في خطأين اثنين: الأول، إن فئات كثيرة من البشر كانت، وما زالت تمارس الرفس والحران، فترفض الانتقال من قيم طور انتهى أمده إلى قيم طور حل زمنه. والثاني، إن نوازع الهوى المرتبط بمصالح أهل المال والسلطان كانت، وما زالت تشوه مفهوم الأمة فتنتقل -الرسالة أو الفكرة- من المحور إلى الهامش، وتحل محلها روابط الدم أو الوطن أو المصالح المادية، وبذلك يطلق مصطلح “الأمة” على من لا ينطبق عليه مواصفات الأمة كما حددها القرآن والحديث.

لذلك كان من أبرز مسئوليات المؤسسات التربوية الإسلامية أن تقوم في كل جيل بمراجعة المفاهيم المتحدرة من الآباء عن معنى -الأمة- ومكوناتها وروابطها بغية تجديد -المفاهيم- الصائبة، وتزكية المفاهيم المتداولة مما علق بها من نقص أو تشويه.

الهوامش

(1) البخاري، الصحيح، كتاب المظالم.

(2) مسلم، الصحيح، كتاب البر، جـ16، ص140.

(3) سنن أبي داود، جـ4، ص98 رقم 4254. مسند أحمد، جـ1، ص290، 292.

(4) صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة.

(5) القرطبي، التفسير، جـ2، ص127.

(6) القرطبي، التفسير، جـ2، 127.

(7) الطبري، التفسير، جـ14، ص190.

(8) كنز العمال، جـ14، ص193 نقلا عن الطبراني في الكبير.

(9) الطبري، التفسير، جـ4، ص43-44.

(10) الطبري، جامع البيان، جـ1، ط3 “القاهرة: مكتبة الحلبي، بلا” ص563.

(11) الطبري، نفس المصدر، جـ25، ص60، 61.

(12) الطبري، نفس المصدر، جـ2، ص334-336.

(13) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، جـ2، تفسير آية 128 من سورة البقرة، ص127.

(14) الطبري، التفسير، جـ4، ص46.

(15) الطبري، التفسير، جـ4، ص43، 44.

المصدر

كتاب: “أهداف التربية الإسلامية” د ماجد عرسان الكيلاني ص175-187.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق