أيُّ ماردٍ جبارٍ سَنَكُونُ؟!
يوم أن دَوَّنَ “توماس جفرسون” نبوءتَهُ الْمُحَلِّقَةَ في أجواء التفاؤل: “على أوربا القديمة أن تتكئَ على أكتافنا، وتسيرَ في ركابنا بقدر ما تستطيع، مقيدةً بآسار الملوك والرهبان؛ أيّ ماردٍ جبّارٍ سَنَكُون!”، لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية تملك من مؤهلات الانطلاقة الحضارية الكبرى أكثر مما يمتلكه اليوم عالمنا العربيّ والإسلاميّ، خلا أمر واحد فقط، هو الذي افتقدناه يوم أن افتقدنا حاكمًا يمثلنا، ألا وهو “استقلال الإرادة السياسية”؛ وهو العنصر الفاصل الذي توفر في كافّة “الآباء المؤسسين” الذين استجابوا جميعا لنداء “فلاديلفيا” واجتمعوا فيها الاجتماع الذي شهد ميلاد أكبر قوة في تاريخ البشرية.
يوم أن تتحرر الشعوب المسلمة من قبضة هؤلاء المستبدين العملاء، مثلما تحررت الولايات الأمريكية من قبضة المستعمرين الدخلاء، يوم أن تملك الأمة العربية والإسلامية إرادتها بهذا التحرر الكبير، يومها فقط لن يمنعنا من الوحدة الإسلامية الكبرى مانع من هذه الموانع المصطنعة، وستكون الأمّة بهذه الوحدة المتينة مهيأة لأن تطلق صيحة أعلى من صيحة توماس جفرسون: “على النظام العالميّ العجوز أن يتكئ على أكتافنا ويسير في ركابنا مقيدًا بآسار الفكر المنحرف عن منهج الله؛ أيُّ ماردٍ جبارٍ سَنَكُونُ”!
يومها ستحل “المدينة المنورة” محلّ “فلاديلفيا”، وسيأخذ دورَ “توماس جفرسون” و”جورج واشنطون” و”بنيامين فرانكلين” و”ألكساندر هاملتون” و”جيمس ماديسون” وغيرِهم قادةٌ أفذاذ، جاءوا على عَجَلٍ وشوقٍ من الشام ومصر والعراق واليمن وغيرها، قادةٌ لم تفرقهم الأهواء ولم يُعَوِّقْهم كيدُ الأعداء، قادة جاهدوا الخيانة والعمالة، وقاوموا مع شعوبهم الاحتلالَ بالوكالة، ثم أقبلوا إلى الاجتماع الرشيد بقلوب لم يجرؤ الهوى على غزوها، وعقول لم تقرب الدعشنة من تخومها، ونفوس ارتقت بها الهمّة إلى أعلى القمة، أقبلوا لا يمنعهم من الإقبال رغب في فتات الأثرياء ولا رهب من جهات الإملاء، أقبلوا يحدوهم صوت كتائب الحقّ: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
يومها ستعود للمسلمين بلادُهم وأوطانُهم وما فيها من خيرات، سيكون الموقع الاستراتيجي لمصر واليمن والمغرب وسائر الثغور الساحلية مصدرا للعزّ والعظمة لا ذريعة لتدخل الأجنبيّ وتحكمه في بلادنا، وسيكون النيل والفرات لنا، والوادي والهلال الخصيب وما حولهما وما بينهما من زرع وضرع، وسنملك نفطنا وغازنا وسائر مُقَدَّراتنا، ستزرع السودان بسواعد مصرية ويمنية وأفريقية مسلمة، وسيفيض منها الخير على الجميع، وسيندفع النفط من خليجنا ليعم البقاع والأصقاع المسلمة، ثم يفيض منها على من يشتري ويزيد حسبما نريد، وستملك الشعوب معادن بلادها وذهبها وسائر خيراتها، وسيتحقق التكامل والتكافل الذي لا يدع في بلاد الإسلام جائعًا ولا ضائعًا، وسنصير ماردا جبارا، ينحو إلى الحق والعدل.
وإذا كانت أمريكا قد اندفعت في ثورتها ثم نهضتها بوقود الفكر المنبثق من عصر الأنوار؛ فإنّنا سننطلق بالوقود العقديّ المنبثق من كتاب الله، سننطلق من بين دفتي المصحف وسنندفع في البشرية المعذبة اندفاع عصارة الحياة في الشجرة الجرداء، وسَيَطَّلع الله تعالى منّا على قلوب صافية وعزام ماضية وهمم عالية؛ فيهيء لنا الأرض ويذلل لنا السبل، ويروض لنا نفوس العباد وقلوبهم، وسيتحقق فينا وبنا وعد الله تعالى بالتمكين والاستخلاف، وسيدخل العباد على أيدينا في دين الله أفواجا.
ولئن كانت الثورات العربية قد وُئِدَتْ في مهدها فإنّها من تحت التراب ستنبت من جديد، وستزهر وتثمر وتملأ السهول والوديان، واسألوا التاريخ كيف تعوقت الثورات في أوربا وغيرها ثم انتفضت من جديد بعد أن يأس الناس من عودتها، سلوا التاريخ عن الثورة الإنجليزية ورديفتها الفرنسية وأختهما الأمريكية، سلوا التاريخ عن تلك الثورات وغيرها: كيف تعرضت في بداياتها للقمع والتخيير بين الأمن والحرية، بين الثورة المكلفة والاستقرار الكاذب، وكيف مرت بمراحل مختلفة متباينة قبل أن يستقر النصر؟
لكنّ ما نحلم به لن يتحقق حتى نتحرر من كل ما يعوق مسيرتنا، نتحرر من أسر الأوهام بتجديد الإيمان بالله والثقة بدينه وشرعه، ونتحرر من إملاءات أصحاب الأموال والثروات وأرباب الدعم والتمويل، ومن شروطهم اللولبية الزئبقية التي تجعل الرجال يدورون في غرفة من بضعة أمتار وهم يتخيلون أنهم جابوا الأقطار وملكوا المدائن والأمصار، ونتحرر من سلطان الأهواء والنزوات، تلك التي تورد أصحابها المهالك وتدفعهم إلى ارتكاب الجرائم وهم سادرون يظنون أنهم يحسنون صنعا.
لن يقيدنا العملاء إذا تحرر العلماء، ولن يتسلط علينا الأعداء إذا لم يخذلنا الأولياء والأصدقاء، وإذا والينا الله ورسوله والذين آمنوا فلن يجد الكافرون المجرمون علينا من سبيل، ومادمنا نتجنب جحر الضب ونتجانف عن سبيل المغضوب عليهم والضالين فسيهدينا الله سواء السبيل في كل أمر ننشده وفي كل فج نسلكه، وكلما ازددنا بالكتاب تمسكا وبالسنة اتباعا وبالرسل الكرام والعلماء العظام اقتداء وتأسيا فلن يقصم لنا ظهر ولن تلين لنا قناة، والله تعالى سيكون دائما في عوننا ما كنّا في عون إخواننا.
فأبشروا أيها المسلمون وبشروا، وأعدوا ليوم الحسم الذي تَعْلُون فيه فوق عدوكم، وتقتصون فيه لإخوانكم، وتقيمون دولة الحق على أنقاض صروح الباطل والطغيان، أعدوا أنفسكم وتطلعوا للشهادة، تقاربوا وتعاونوا في إنضاج مشروعكم ووضع رؤيتكم، وقوموا عن ثقة ببناء القاعدة الصلبة التي ستحمل هم التغيير ثم البناء، وخوضوا معركة الوعي والتجديد، ولا تتنطلقوا إلا من حيث انطلق الأوائل، فلن يَصْلُح آخرُ هذه الأمة إلا بما صَلحَ به أولُها، وإياكم والدعاوى المنهزمة التي تمجد النموذج الغربي وتجلد النموذج الإسلاميّ، فنحن على موعد من عودة الخلافة على منهاج النبوة، وما ذلك على الله بعزيز، وحسبكم هذا الوعد الربانيّ الصادق: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق