مصر.. ترحيل الأزمات وليس حلّها
العقد الأول من الألفية الجديدة شهد بيع العديد من شركات القطاع العام (شترستوك)
في الـ27 من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبعد شهور من المفاوضات، توصلت مصر إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي تقترض بموجبه ما يقرب من 3 مليارات دولار على مدى 46 شهرًا.
كما يسمح الاتفاق لمصر باقتراض ما يقرب من 5 مليارات دولار من شركاء إقليميين ومتعددي الأطراف حسبما جاء في الاتفاقية. كذلك طلبت مصر مليار دولار إضافيا من صندوق "الصمود والاستدامة" المنشأ حديثًا والتابع لصندوق النقد الدولي. أي أن بإمكان مصر أن تحصل على ما يقرب من 9 مليارات دولار من القروض خلال الشهور والسنوات القليلة المقبلة.
وقد هلّل المسؤولون المصريون لتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتم ترويج الأمر في الإعلام الرسمي والخاص التابع للدولة باعتباره "إنجازًا" يجب الاحتفاء به في واحدة من أكثر اللحظات تأملاً ومفارقة في تاريخ مصر الحديث. فلا أحد يحتفي بإضافة المزيد من الديون على كاهل بلاده ومواطنيه، إلا إذا كانت حالته الاقتصادية قد وصلت لمرحلة يائسة وبائسة. ولكن هل يساعد القرض الجديد في حل مشكلة مصر الاقتصادية أو أنه يزيد من تعقيدها وتفاقمها؟ وهل أزمة مصر اقتصادية ومالية أو أن لها أبعادًا أخرى؟
في البداية يجب التنبيه إلى أن الأزمة الاقتصادية الحالية في مصر ليست وليدة اليوم أو نتيجة فقط لسوء السياسات المتبعة، والخلل في الأولويات الذي طبع السنوات القليلة الماضية، خاصة منذ ثورة يناير، وإنما هي أزمة مركبة ومعقدة ممتدة على مدار أكثر من نصف قرن شهدت البلاد خلالها العديد من التقلبات والتحولات الاقتصادية غير الناضجة وغير المكتملة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بشكل عشوائي وغير منظم، وهو ما أسهم في تعميق الأزمة وترحيلها باستمرار بدلاً من حلها.
وقعت مصر بالفعل أول اتفاقات مع كلتا المؤسستين من خلال ما يسمى ببرامج "التكيف الهيكلي" والتي كانت تهدف لإصلاح وعلاج الخلل في القطاعين المالي والاقتصادي خاصة تخفيض عجز الموازنة
وقد بدأت الأزمة مع اتباع نمط الاقتصاد العام أو الاقتصاد الحكومي المخطط كفلسفة اقتصادية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث لعبت الدولة دورًا أساسيًّا في إدارة شؤون الاقتصاد، ليس فقط من خلال تقديم الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والمواصلات وغيرها ولكن أيضا في المجال المالي والتصنيعي.
ولتعزيز شعبيته لدى الجماهير، فقد قام نظام عبد الناصر بدعم الكثير من السلع الأساسية كالخبز والطاقة والزيوت والكهرباء وغيرها. وهو ما حمّل ميزانية الدولة وقتها الكثير من الأعباء، وأحدث خللاً هيكليًّا في ميزان المدفوعات، انعكس بالتالي على الميزان التجاري الذي ارتفعت فيه الواردات عن الصادرات بشكل ملحوظ ازداد وتفاقم بعد ذلك.
وفي عهد الرئيس الراحل أنور السادات انتقلت مصر بشكل مفاجئ وحاد باتجاه اقتصاد السوق، أو هكذا كان يسعى السادات، الذي يقوم على فتح الباب أمام القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية وذلك ضمن ما سُمي وقتها "سياسة الانفتاح الاقتصادي" أو سياسة "الباب المفتوح".
وهو ما تماشى أيضا مع تغيير التحالفات السياسية للنظام، وتحوله من الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي إلى الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وقد حاول السادات التخلص من سياسة الدعم الحكومي للسلع الغذائية حين قام برفع سعر الخبز، فثارت الجماهير وخرجت للشوارع فيما عُرف لاحقًا بـ"انتفاضة الخبز" التي وقعت في يناير/كانون الثاني 1977، وهو ما دفع السادات وقتها للتراجع عن قراره حتى تهدأ الأوضاع ولا تتطور إلى انتفاضة كبيرة أو ثورة شعبية تطيح به.
ولذلك فقد استوعب مبارك الدرس، ولم يقم برفع الدعم عن السلع الأساسية خاصة الخبز والطاقة والكهرباء وغيرها، وإنما استمر في سياسة الدعم، مع قيام الدولة بتخطيط وتنفيذ بعض المشاريع الخدمية والتنموية الكبرى كمشروع مترو الأنفاق ومشروع "الخطارة" الزراعي وغيره من المشاريع.
ولكن نتيجة لزيادة العجز في الميزانية وعدم كفاية العوائد من العملة الصعبة اضطر مبارك إلى اللجوء إلى المانحين الدوليين وأهمهم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
وقّعت مصر بالفعل أول اتفاقات مع كلتا المؤسستين من خلال ما يسمى ببرامج "التكيف الهيكلي" والتي كانت تهدف لإصلاح وعلاج الخلل في القطاعين المالي والاقتصادي خاصة تخفيض عجز الموازنة.
هذه البرامج اشترطت على مبارك تشجيع القطاع الخاص، وإصلاح القطاع المالي من خلال تحرير سعر الصرف، وتقليل تدخل الدولة في الاقتصاد. ولكنها في نفس الوقت طالبته برفع الضرائب وتقليل الدعم وتقليص الإنفاق الحكومي.
لذلك فقد شهد العقد الأول من الألفية الجديدة بيع العديد من شركات القطاع العام، وقطاع الأعمال لصالح القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب. ولكن هذه السياسات لم تصاحبها منظومة حماية اجتماعية حقيقية، خاصة للطبقتين الوسطى والفقير.
وأدى هذا الأمر إلى ارتفاع نسبة الفقر، وتراجع الدخل لدى شرائح كثير من المواطنين، وهو ما مهد الطريق لقيام ثورة يناير 2011 والتي كانت لها تداعياتها على الاقتصاد خاصة فيما يتعلق باحتياطي مصر من العملة الأجنبية.
في ظل هذه الأوضاع الصعبة التي مر بها الاقتصاد المصري، كان من المفترض على النظام الذي تولى الحكم في يوليو/تموز 2013 أن يتعلم الدرس، وأن يسعى لحل المشاكل البنيوية للاقتصاد المصري. ولكنه بدلا من ذلك أسهم في تفاقمها من خلال سياسات اقتصادية غير رشيدة كلمة السر فيها هي "الاقتراض الشره" كما وصفها مؤخرًا الباحث الأميركي روبرت سبرينغبورغ.
من غير المتوقع أن ينجح اتفاق مصر الأخير مع صندوق النقد الدولي في إنقاذ الاقتصاد من أزمته، أو يحل مشاكله البنيوية، بل على العكس من ذلك سوف يزيدها تعقيدًا وتفاقمًا
فمن أجل الترويج لنفسه إعلاميًّا والسعي وراء القبول الدولي، تبنى النظام مشاريع اقتصادية وعمرانية عملاقة لا تعود بالفائدة على المواطن العادي، ولا تتعاطى بجدية مع مشاكله الحياتية من مأكل ومشرب ومسكن وتعليم وصحة ومواصلات…إلخ، وذلك رغم الأموال الضخمة التي اقترضها، والتي تجاوزت أكثر من 150 مليار دولار.
لذلك ليس من المتوقع أن تقوم الاتفاقية الأخيرة مع صندوق النقد الدولي بإنقاذ الاقتصاد المصري من أزمته، ولن تحل مشاكله البنيوية، بل على العكس من ذلك سوف تزيدها تعقيدًا وتفاقمًا.
ولن تكون كذلك سوى "حقنة" مسكنة للألم بشكل مؤقت وليس علاجه بشكل جذري. ولعل هذا هو أصل المسألة، فالنظام الحالي لا يسعى بجدية إلى حل الأزمة الاقتصادية في مصر، وإنما فقط ترحيلها، وذلك قبل أن يتم الإعلان الرسمي عن الانهيار والإفلاس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق