إن قلت ما تخاف شي..جمال الجمل
(1)
لم أكتب مقالي في الأسبوع الماضي، لأنني خشيت من تأثير كلماتي المحبطة على "ثورة 11/11"، وكدت أؤجل كتابة مقال هذا الأسبوع لنفس السبب، فبرغم عدم وقوع الزلزال إلا أن "التوابع" تواصلت واستمر الحديث عن الحدث الذي لم يحدث: فريق الموالاة يشمت في عدم قدرة الشعب المنهك على التظاهر (محدش خرج)، وفريق المعارضة بأطيافها توزع بين التبرير، والتنصل، وإعطاء الدروس في كيفية التنظيم والترتيب للثورات المقبلة!
فكرت في آرائي وما يمكن أن أقوله، ولم أجد ما يشجعني على الكتابة، فأنا مثل الجميع: أتمنى التغيير والثورة ولا أقدر على إنجاز شيء من هذا، فأمنيات الفرد لا تكفي لإحداث التغيير، ولا تساوي الكثير في أي عمل جماعي مثل التظاهرات السياسية. وأزيد فأقول إن "الأمنيات الجماعية" نفسها لا تكفي لإنجاز مهمة معقدة كالثورات وإطاحة السلطات، لأن المهمة يلزمها الكثير من التنظيم، والتمويل، والوصول إلى درجة من التوافق والترتيب مع التيارات السياسية الفاعلة على الساحة، ولأن هذا لم يحدث، ولا تنبئ الأحوال بأنه سيحدث قريبا، فإن انتظار التغيير لمجرد غلاء المعيشة وتذمر الناس من السياسات، يدخل تحت عنوان "الأمنيات"، إذا لم يتدنّ التفكير إلى درك الأوهام أو خداع الناس وتبشيرهم بما لا نملك، وبما لم نرتب له بجدية وإخلاص.
(2)
هذا الكلام ثقيل وسخيف ويوحي بأن أحد العاجزين يحاول تجميل موقفه، فيستسهل إلقاء المواعظ على غيره ممن يحاولون التغيير وتغذية روافد الرفض والاحتجاج ضد نظام فشل في كل شيء إلا القمع والتخويف.."الأمنيات الجماعية" نفسها لا تكفي لإنجاز مهمة معقدة كالثورات وإطاحة السلطات، لأن المهمة يلزمها الكثير من التنظيم، والتمويل، والوصول إلى درجة من التوافق والترتيب مع التيارات السياسية الفاعلة على الساحة، ولأن هذا لم يحدث، ولا تنبئ الأحوال بأنه سيحدث قريبا، فإن انتظار التغيير لمجرد غلاء المعيشة وتذمر الناس من السياسات، يدخل تحت عنوان "الأمنيات"، إذا لم يتدنّ التفكير إلى درك الأوهام
(3)
اعترافي بسخافة إلقاء المواعظ لا ينفي أنها صحيحة، لكن لياقة التعامل مع الجماهير تقتضي في كثير من الأحيان تأجيل التصريح بالصحيح، لأسباب تتعلق بالحشد الجماهيري وعدم إحباط الناس، ولهذا لا بد لي أن أكمل اعترافي فأقول إن هذا المقال ليس للناس، لكنه لنفسي، ولمن هم في موقفي: أولئك الذين يدركون أن الثورة التي نحلم بها بعيدة ومجهدة، لأنها بلا قادة على الأرض، والأسوأ أنها بلا جنود (إلا القليل البعيد عن الضجيج). صحيح أن لدينا قائمين بالأمور يسدّون الفراغ في مواقع القيادة وفي الميدان المقفر، لكن هؤلاء ليسوا "أهل ثورة"، ولا يحملون قيمها، ولا يهتمون بما يراعيه كل ثوري أصيل في التزامه بما نعرفه وقرأناه عن "الأخلاق الثورية" ومطابقة السلوك للمجتمع المنشود لا للمجتمع الموجود.
فالساحة الآن تحت سيطرة نفس العينة من السلوك، لكنهم ينقسمون إلى فريقين متضادين: كلاهما يستخدم الخداع والأكاذيب، كلاهما يستخدم الناس في لعبة الكيد بصرف النظر عن المصلحة الفردية والمجتمعية للأفراد، كلاهما يشتم ويسب ويخرج عن الأخلاق في صراعه مع الآخر، حتى بات الصراع الثوري في مصر صراعا بين خروف ومعزة، كما انتهى الخطاب السياسي السائد. وفي هذا المثال الساقط تتجلى صورة الصراع المتدني، بحيث يشعر قطاع كبير من الطبقة الوسطى بحرج إذا شارك في صراع كهذا، لأن الكثير من أفراد هذه الطبقة المسحوقة هم بقايا برجوازيات صغيرة لا زالت تتمسك بالحد الأدنى من الأخلاق، ولا يتصور معظمهم أن يتحول مقاول شارك النظام في فساده إلى قائد ثوري تلبي الجماهير دعوته للتظاهر، بينما خطابه السياسي لا يرتقي كثيرا عن خطاب السيسي، بل إن السيسي لم يهبط بعد إلى خطاب من نوع "المعلقة" و"الأوزعة"، ومساعدة الأمن على الزج بالشباب في السجون بدون عائد سياسي مقبول..
(4)
هذه الإشارة المختصرة ليست غمزا شخصيا ضد أحد، ولا رفضا طبقيا لالتحاق كل الناس بالعمل السياسي، فقط أنبه إلى علاقة "الخطاب" بالعمل الذي نقوم به وندعو إليه، فالخطاب (أي خطاب) هو رسالة تصل إلى أصحابها وأشباهها، وتجهل عناوين بقية الفئات في المجتمع. وهذا يكشف أن الدعوة للثورة أو التغيير السياسي في مصر انزلقت إلى ما يسميه الباحث باتريك هايني "سلوك السوق"، فلم تعد تخرج عن التراشق والكيد واستثمار المواسم في "التنكيد" على الخصم، لتستمر اللعبة تراوح مكانها حتى تنتهي بزوال الطرفين كما أوحى لنا هيجل، وكما صور لنا صلاح أبو سيف مآل الصراع بين أبو زيد وهريدي في فيلم "الفتوّة"، بينما الثوري لا يخوض المعركة بنفس معايير الخصم وأدواته وسلوكه وأخلاقه، أو كما قال نيتشة في أحاديث زرادشت: لا تحارب الوحوش بنفس أسلوبهم، لأنك إذا فعلت، فلن تختلف عنهم في شيء..
صحيح أن لدينا قائمين بالأمور يسدّون الفراغ في مواقع القيادة وفي الميدان المقفر، لكن هؤلاء ليسوا "أهل ثورة"، ولا يحملون قيمها، ولا يهتمون بما يراعيه كل ثوري أصيل في التزامه بما نعرفه وقرأناه عن "الأخلاق الثورية" ومطابقة السلوك للمجتمع المنشود لا للمجتمع الموجود
(5)
لا أعتذر عن صراحتي المتخففة من المجاملات، فنقد المعارضة أولى عندي من نقد السلطة، لأن قبول النقد الذاتي هو أول الطريق للتصحيح وللتنظيف ولإثبات الجدارة في التصدي للتغيير الحقيقي، وليس استبدال الأسماء والوجوه لتقديم نفس العشوائية في السياسات ونفس التدني في الخطاب، ونفس الممارسة في الإعلام ونفس الفُجر في الخصام.
وفي تقديري أن هذا التشابه العميق بين النظام السائد وبين منافسيه على السلطة (وهم موزعون على كل التيارات) هو الخطأ الأكبر الذي أهدر فرصة الربيع العربي، والذي يهدد بإجهاض أي عملية تحول حقيقي نحو مجتمع جديد، لأن البدائل المطروحة لا تختلف عن السلطة كثيرا في جوهرها: لا تختلف في طريقة تعاملها مع القوى الإقليمية والدولية، ولا تختلف في نظرتها للجمهور، ولا تنتمي إلى القيم المرفوعة في شعارات الثورات منذ "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، وحتى "عيش حرية كرامة إنسانية".
فالسعودية موّلت الطرفين بحسب طبيعة علاقتها مع النظام في مصر، وأمريكا هي الإمام الذي يتبعه النظام كما يغازله الإسلاميون والليبراليون على السواء. لذلك تظل الثورة التي نحلم بها ونسعى من أجلها شريدة لا يهتم بها أحد، إلا كما اهتم السيسي بالسيدة منى، سائقة التروسيكل، أو كما اهتم ظاهريا بثورة يناير فسجلها كـ"مرجعية مكرمة" في دستوره، بينما يلعنها ويحذر منها في سياساته وخطابه العلني!!
(6)
أعرف أن هناك حسابات عملية، وأعرف أن الطموح للحكم مشروع، وأعرف أن السلطة لها جاذبيتها عند الجميع، لكنني أعرف أيضا أن الحالمين بثورة شعب من أجل حياته وكرامته وحريته، لا يهمهم الوصول إلى كرسي الحكم، لأن الكرسي لن يتسع لكل الناس، لذلك فإن الثوار لا يكترثون بألاعيب الانتخابات ولا يقدمون الوعود الكاذبة ولا يخدعون غيرهم بالشعارات، وإذا استخدموا لغة الإخوان سيقولون بصدق: نحن طلاب نهضة ولسنا طلاب سلطة ولن نترشح للرئاسة، وإذا استخدموا لغة الجنرال سيقولون: لن نقترب من الحكم ولن أسمح أن يقال إن جيش مصر تحرك من أجل السلطة..
لن تقوم لنا ثورة ولن ينجح لنا تغيير صائب إلا إذا أخلصنا لقيم الثورة (وليس لشخص)، وإذا التزمنا بأخلاقياتها (ولم نبرر سقطاتنا بأن خصمنا يفعل مثلها وأسوأ)، وحين يخرج المحتجون من أجل حريتهم ومعيشتهم وكرامتهم وليس من أجل صراع انتخابي بين الباشا والعمدة
الفارق أن الثوري الأخلاقي لا يخون ولا يحنث، ولا يخدع حتى من خدعوه، لأنه لا يتحرك من أجل سلطة ومنصب، بل يسعى لامتلاك مصيره وتعظيم حريته وصون كرامته وتحسين معيشته ومعيشة كل الناس من حوله، وفق قواعد اتفاقية ملزمة للجميع، ويُحترم القانون من غير قداسة للسلطة ورئيسها، لأن الرئيس عند الثوري ليس مقدسا يُهاب ولا زعيما يُتّبع ولا إماما يطاع، لكنه موظف خادم للشعب مقابل أجر، إذا أجاد كوفئ وإذا أخطأ وجبت محاسبته..
وبكل أسف أقول: لن تقوم لنا ثورة ولن ينجح لنا تغيير صائب إلا إذا أخلصنا لقيم الثورة (وليس لشخص)، وإذا التزمنا بأخلاقياتها (ولم نبرر سقطاتنا بأن خصمنا يفعل مثلها وأسوأ)، وحين يخرج المحتجون من أجل حريتهم ومعيشتهم وكرامتهم وليس من أجل صراع انتخابي بين الباشا والعمدة، أو صراع في مزاد بين أبو زيد وهريدي..
(7)
سيقول كثيرون إن هذا الكلام غير واقعي، وإن هذه الأفكار من خيال، لا بأس فأنا أؤمن أن الثورة ليست عملا واقعياً، لكنها إعادة صياغة للواقع بمقاييس الخيال، وأنا أحلم بما ليس موجودا، فمن السذاجة أن أحلم بالموجود، ومن الظلم أن أنشد ما أغضب منه عندما يفعله غيري، وأعتقد أن في البلاد كثيرين مثلي..
هل أنت أيضا كذلك؟
tamahi@hotmail.com
لم أكتب مقالي في الأسبوع الماضي، لأنني خشيت من تأثير كلماتي المحبطة على "ثورة 11/11"، وكدت أؤجل كتابة مقال هذا الأسبوع لنفس السبب، فبرغم عدم وقوع الزلزال إلا أن "التوابع" تواصلت واستمر الحديث عن الحدث الذي لم يحدث: فريق الموالاة يشمت في عدم قدرة الشعب المنهك على التظاهر (محدش خرج)، وفريق المعارضة بأطيافها توزع بين التبرير، والتنصل، وإعطاء الدروس في كيفية التنظيم والترتيب للثورات المقبلة!
فكرت في آرائي وما يمكن أن أقوله، ولم أجد ما يشجعني على الكتابة، فأنا مثل الجميع: أتمنى التغيير والثورة ولا أقدر على إنجاز شيء من هذا، فأمنيات الفرد لا تكفي لإحداث التغيير، ولا تساوي الكثير في أي عمل جماعي مثل التظاهرات السياسية. وأزيد فأقول إن "الأمنيات الجماعية" نفسها لا تكفي لإنجاز مهمة معقدة كالثورات وإطاحة السلطات، لأن المهمة يلزمها الكثير من التنظيم، والتمويل، والوصول إلى درجة من التوافق والترتيب مع التيارات السياسية الفاعلة على الساحة، ولأن هذا لم يحدث، ولا تنبئ الأحوال بأنه سيحدث قريبا، فإن انتظار التغيير لمجرد غلاء المعيشة وتذمر الناس من السياسات، يدخل تحت عنوان "الأمنيات"، إذا لم يتدنّ التفكير إلى درك الأوهام أو خداع الناس وتبشيرهم بما لا نملك، وبما لم نرتب له بجدية وإخلاص.
(2)
هذا الكلام ثقيل وسخيف ويوحي بأن أحد العاجزين يحاول تجميل موقفه، فيستسهل إلقاء المواعظ على غيره ممن يحاولون التغيير وتغذية روافد الرفض والاحتجاج ضد نظام فشل في كل شيء إلا القمع والتخويف..
"الأمنيات الجماعية" نفسها لا تكفي لإنجاز مهمة معقدة كالثورات وإطاحة السلطات، لأن المهمة يلزمها الكثير من التنظيم، والتمويل، والوصول إلى درجة من التوافق والترتيب مع التيارات السياسية الفاعلة على الساحة، ولأن هذا لم يحدث، ولا تنبئ الأحوال بأنه سيحدث قريبا، فإن انتظار التغيير لمجرد غلاء المعيشة وتذمر الناس من السياسات، يدخل تحت عنوان "الأمنيات"، إذا لم يتدنّ التفكير إلى درك الأوهام
(3)
اعترافي بسخافة إلقاء المواعظ لا ينفي أنها صحيحة، لكن لياقة التعامل مع الجماهير تقتضي في كثير من الأحيان تأجيل التصريح بالصحيح، لأسباب تتعلق بالحشد الجماهيري وعدم إحباط الناس، ولهذا لا بد لي أن أكمل اعترافي فأقول إن هذا المقال ليس للناس، لكنه لنفسي، ولمن هم في موقفي: أولئك الذين يدركون أن الثورة التي نحلم بها بعيدة ومجهدة، لأنها بلا قادة على الأرض، والأسوأ أنها بلا جنود (إلا القليل البعيد عن الضجيج). صحيح أن لدينا قائمين بالأمور يسدّون الفراغ في مواقع القيادة وفي الميدان المقفر، لكن هؤلاء ليسوا "أهل ثورة"، ولا يحملون قيمها، ولا يهتمون بما يراعيه كل ثوري أصيل في التزامه بما نعرفه وقرأناه عن "الأخلاق الثورية" ومطابقة السلوك للمجتمع المنشود لا للمجتمع الموجود.
فالساحة الآن تحت سيطرة نفس العينة من السلوك، لكنهم ينقسمون إلى فريقين متضادين: كلاهما يستخدم الخداع والأكاذيب، كلاهما يستخدم الناس في لعبة الكيد بصرف النظر عن المصلحة الفردية والمجتمعية للأفراد، كلاهما يشتم ويسب ويخرج عن الأخلاق في صراعه مع الآخر، حتى بات الصراع الثوري في مصر صراعا بين خروف ومعزة، كما انتهى الخطاب السياسي السائد. وفي هذا المثال الساقط تتجلى صورة الصراع المتدني، بحيث يشعر قطاع كبير من الطبقة الوسطى بحرج إذا شارك في صراع كهذا، لأن الكثير من أفراد هذه الطبقة المسحوقة هم بقايا برجوازيات صغيرة لا زالت تتمسك بالحد الأدنى من الأخلاق، ولا يتصور معظمهم أن يتحول مقاول شارك النظام في فساده إلى قائد ثوري تلبي الجماهير دعوته للتظاهر، بينما خطابه السياسي لا يرتقي كثيرا عن خطاب السيسي، بل إن السيسي لم يهبط بعد إلى خطاب من نوع "المعلقة" و"الأوزعة"، ومساعدة الأمن على الزج بالشباب في السجون بدون عائد سياسي مقبول..
(4)
هذه الإشارة المختصرة ليست غمزا شخصيا ضد أحد، ولا رفضا طبقيا لالتحاق كل الناس بالعمل السياسي، فقط أنبه إلى علاقة "الخطاب" بالعمل الذي نقوم به وندعو إليه، فالخطاب (أي خطاب) هو رسالة تصل إلى أصحابها وأشباهها، وتجهل عناوين بقية الفئات في المجتمع. وهذا يكشف أن الدعوة للثورة أو التغيير السياسي في مصر انزلقت إلى ما يسميه الباحث باتريك هايني "سلوك السوق"، فلم تعد تخرج عن التراشق والكيد واستثمار المواسم في "التنكيد" على الخصم، لتستمر اللعبة تراوح مكانها حتى تنتهي بزوال الطرفين كما أوحى لنا هيجل، وكما صور لنا صلاح أبو سيف مآل الصراع بين أبو زيد وهريدي في فيلم "الفتوّة"، بينما الثوري لا يخوض المعركة بنفس معايير الخصم وأدواته وسلوكه وأخلاقه، أو كما قال نيتشة في أحاديث زرادشت: لا تحارب الوحوش بنفس أسلوبهم، لأنك إذا فعلت، فلن تختلف عنهم في شيء..
صحيح أن لدينا قائمين بالأمور يسدّون الفراغ في مواقع القيادة وفي الميدان المقفر، لكن هؤلاء ليسوا "أهل ثورة"، ولا يحملون قيمها، ولا يهتمون بما يراعيه كل ثوري أصيل في التزامه بما نعرفه وقرأناه عن "الأخلاق الثورية" ومطابقة السلوك للمجتمع المنشود لا للمجتمع الموجود
(5)
لا أعتذر عن صراحتي المتخففة من المجاملات، فنقد المعارضة أولى عندي من نقد السلطة، لأن قبول النقد الذاتي هو أول الطريق للتصحيح وللتنظيف ولإثبات الجدارة في التصدي للتغيير الحقيقي، وليس استبدال الأسماء والوجوه لتقديم نفس العشوائية في السياسات ونفس التدني في الخطاب، ونفس الممارسة في الإعلام ونفس الفُجر في الخصام.
وفي تقديري أن هذا التشابه العميق بين النظام السائد وبين منافسيه على السلطة (وهم موزعون على كل التيارات) هو الخطأ الأكبر الذي أهدر فرصة الربيع العربي، والذي يهدد بإجهاض أي عملية تحول حقيقي نحو مجتمع جديد، لأن البدائل المطروحة لا تختلف عن السلطة كثيرا في جوهرها: لا تختلف في طريقة تعاملها مع القوى الإقليمية والدولية، ولا تختلف في نظرتها للجمهور، ولا تنتمي إلى القيم المرفوعة في شعارات الثورات منذ "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، وحتى "عيش حرية كرامة إنسانية".
فالسعودية موّلت الطرفين بحسب طبيعة علاقتها مع النظام في مصر، وأمريكا هي الإمام الذي يتبعه النظام كما يغازله الإسلاميون والليبراليون على السواء. لذلك تظل الثورة التي نحلم بها ونسعى من أجلها شريدة لا يهتم بها أحد، إلا كما اهتم السيسي بالسيدة منى، سائقة التروسيكل، أو كما اهتم ظاهريا بثورة يناير فسجلها كـ"مرجعية مكرمة" في دستوره، بينما يلعنها ويحذر منها في سياساته وخطابه العلني!!
(6)
أعرف أن هناك حسابات عملية، وأعرف أن الطموح للحكم مشروع، وأعرف أن السلطة لها جاذبيتها عند الجميع، لكنني أعرف أيضا أن الحالمين بثورة شعب من أجل حياته وكرامته وحريته، لا يهمهم الوصول إلى كرسي الحكم، لأن الكرسي لن يتسع لكل الناس، لذلك فإن الثوار لا يكترثون بألاعيب الانتخابات ولا يقدمون الوعود الكاذبة ولا يخدعون غيرهم بالشعارات، وإذا استخدموا لغة الإخوان سيقولون بصدق: نحن طلاب نهضة ولسنا طلاب سلطة ولن نترشح للرئاسة، وإذا استخدموا لغة الجنرال سيقولون: لن نقترب من الحكم ولن أسمح أن يقال إن جيش مصر تحرك من أجل السلطة..
لن تقوم لنا ثورة ولن ينجح لنا تغيير صائب إلا إذا أخلصنا لقيم الثورة (وليس لشخص)، وإذا التزمنا بأخلاقياتها (ولم نبرر سقطاتنا بأن خصمنا يفعل مثلها وأسوأ)، وحين يخرج المحتجون من أجل حريتهم ومعيشتهم وكرامتهم وليس من أجل صراع انتخابي بين الباشا والعمدة
الفارق أن الثوري الأخلاقي لا يخون ولا يحنث، ولا يخدع حتى من خدعوه، لأنه لا يتحرك من أجل سلطة ومنصب، بل يسعى لامتلاك مصيره وتعظيم حريته وصون كرامته وتحسين معيشته ومعيشة كل الناس من حوله، وفق قواعد اتفاقية ملزمة للجميع، ويُحترم القانون من غير قداسة للسلطة ورئيسها، لأن الرئيس عند الثوري ليس مقدسا يُهاب ولا زعيما يُتّبع ولا إماما يطاع، لكنه موظف خادم للشعب مقابل أجر، إذا أجاد كوفئ وإذا أخطأ وجبت محاسبته..
وبكل أسف أقول: لن تقوم لنا ثورة ولن ينجح لنا تغيير صائب إلا إذا أخلصنا لقيم الثورة (وليس لشخص)، وإذا التزمنا بأخلاقياتها (ولم نبرر سقطاتنا بأن خصمنا يفعل مثلها وأسوأ)، وحين يخرج المحتجون من أجل حريتهم ومعيشتهم وكرامتهم وليس من أجل صراع انتخابي بين الباشا والعمدة، أو صراع في مزاد بين أبو زيد وهريدي..
(7)
سيقول كثيرون إن هذا الكلام غير واقعي، وإن هذه الأفكار من خيال، لا بأس فأنا أؤمن أن الثورة ليست عملا واقعياً، لكنها إعادة صياغة للواقع بمقاييس الخيال، وأنا أحلم بما ليس موجودا، فمن السذاجة أن أحلم بالموجود، ومن الظلم أن أنشد ما أغضب منه عندما يفعله غيري، وأعتقد أن في البلاد كثيرين مثلي..
هل أنت أيضا كذلك؟
tamahi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق