خط أحمر بالكاز السرّي
(1)
الخط الأحمر، حسب تعريفات علم السياسة، تعبير سياسي للدلالة على خطّ وهميّ تحدّده إحدى القوى، ويكون بمثابة خطٍّ فاصل، لا يجوز أن يتجاوزه الخصم أو الخصم المحتمل، وإلا اعتبر ذلك بمثابة استفزازٍ يستدعي الرد، ولا يكون الخط الأحمر بالضرورة جغرافياً، فقد يتعلّق بجانب من جوانب نشاطات الخصم أو الخصم المحتمل.
ويندرج الخطّ الأحمر ضمن أساليب الردع والتهديد بالانتقام؛ لذا هو وسيلة هجومية غير مباشرة، تساهم في فرض القيود على الخصم وتقلّص هامش حرية حركته.
ويطلق أيضاً على الخط الهاتفي المباشر بين رئاسة الدولة في الكرملين بموسكو ورئيس الولايات المتحدة في البيت الأبيض في واشنطن.
وقد أنشئ هذا الخط بعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، بقصد تمكين رئيسي الدولتين العملاقتين من إجراء الاتصالات الفورية والعاجلة في الأزمات الدولية الطارئة والخطيرة، بغية إزالة سوء التفاهم وتسوية الأمور الملحّة.
وفي تفسير آخر، يرجع تاريخ استعمال المصطلح إلى "اتفاقية الخط الأحمر" عام 1928 بين أكبر شركات النفط في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، من أجل توزيع نفط الدولة العثمانية بعد تفتيتها. في وقت التوقيع، لم تكن حدود الإمبراطورية السابقة واضحةً.
ولعلاج المشكلة أخذ رجل أعمال أرميني، يدعى كالوست غولبنكيان، قلماً أحمر لرسم حدود الإمبراطورية بطريقة تعسّفية غريبة، وكانت هذه الخربشات هي الحدود النهائية للدولة التركية، وللدول التي نتجت من تفكيكها، وكانت هذه الاتفاقية بمثابة توزيع مصادر النفط على الدول المنتصرة في الحرب الأولى، وقد استمرت كذلك (!) حسبما يرى كثيرون، لا تتعدّى دولة على الحدود الحمراء المرسومة للدولة الثانية.
واستخدم العبارة بشكل خاص مجازا سياسيا وزير خارجية الكيان الصهيوني، إيغال آلون، عام 1975، عندما قال إن واشنطن "تمكّنت من رسم خط أحمر تعلم جميع الدول العربية أنه لا ينبغي تجاوزه، إن أميركا لن تضحّي بإسرائيل من أجل الدعم العربي". ومنذ ذلك العام، يردّد الرؤساء الأميركيون هذه المقولة، أي أن دعم إسرائيل والحفاظ على كل ما يضمن وجودها خط أحمر.
(2)
في العام 2011، أطلق ناشطون شباب وعمّال نقابيون وطلاب في الأردن حملة "كازك يا وطن"، تعبيراً عن رفضهم أسعار المحروقات المرتفعة وانعكاساتها الكارثية على كل مناحي الحياة، وسط أنباء محتملة، حينها، عن رفع أسعار عدد من المشتقّات النفطية، وحصر عطاء استيراد هذه المشتقات وتوزيعها وتسويقها في شركتين فقط، ما يعني احتكار سوق النفط في الأردن والتحكّم بأسعاره وفق مصالح هذه الشركات. وتستدعي تلك الحملة، على الفور، مسرحية دريد لحام "كاسك يا وطن". وبين الكاس والكاز مجرّد حرف، وتستدعي أيضا جملة من الإصطلاحات والمواقف والتعبيرات، متناقضة حينا ومتوافقة حينا آخر.
أتذكّر أمي حينما كانت تغضب وتصل إلى حدها الأقصى من الانفعال، كانت تقول: "بدّي أشرب كاز واسم حالي بلكي ارتحتوا مني". أو "بدّي أشرب كاز وأخلص من هالعيشة". وبالطبع، لم تنفذ تهديدها إطلاقا، ولم تكن لتفعل، لأنها كانت مؤمنة بالله رحمها الله، والانتحار حرام.
"رُبع كاز" مصطلح كان، ولم يزل، حاضرا بقوة في بيوت الفقراء
ليس بعيدا عن الكاز أيضا، ثمّة مصطلح لا يعرفه إلا الفقراء "رُبع كاز"، كان، ولم يزل، حاضرا بقوة في بيوت الفقراء، فلم يكن في وسع هؤلاء شراء أكثر من ربع لتر من هذه المادّة. وهو بهذا الحجم لا يزيد على حجم زجاجة صغيرة، كان يستخدم لإشعال البريموس، أو "بابور" الكاز، وفي أحايين استثنائية جدا ربما استعمل جزءٌ منه لإشعال مدفأة، أو ربما تستعار منه مجرد "رشّة" للمساعدة على إشعال كومة حطبٍ للتدفئة.
(3)
منذ فترة ليست قريبة، ذهب أحدهم إلى "الكازية" وللاسم دلالته هنا، فالفقراء لا يعرفون من المحطّة إلا الكاز، لذا أطلقوا اسم الكاز (خاص) على كل المحطة، وهي (العام) كان أحدهم هذا برفقة صديقه، جاء الكازية لتعبئة وعاءين كبيرين بالكاز، بعد أن تمّت تعبئتها تبيّن له أن عليه أن يدفع ما يقارب 35 دينارا ثمنا للكاز (كان هذا أيام العز، فالصفيحة اليوم بعد التخفيض أخيرا في الأردن تحتاج ما يزيد على 12 دينارا لملئها). لم يكن في حوزته غير 15 دينارا وفق تقديراته السابقة لأسعار الكاز، فلم يكن من الاثنين إلا أن غافلا عامل المحطة، وهربا تاركين وراءهما عبوتيْ الكاز، لأنهما وقعا في حرج المواجهة، ولا يستطيعان دفع ثمنهما. .. للعلم، وقعت هذه الحكاية قبل الرفوعات المعلنة أخيرا لمشتقّات البترول. أنا موقن أن هذين لم يصلا إلى الكازية منذ ذلك التاريخ، لأن أحد هذين الشخصين أقسم لي أنه لم يشتر منذ تلك الشتوية ولا حتى ربع كاز، وأقسم أيضا أنه لم يستعمل أي نوعٍ من أدوات التدفئة سوى الحرامات، حيث يعمد أفراد أسرته إلى لفّ أنفسهم بالغطاء السميك لمقاومة البرد. ببساطةٍ، يقسم على أنه لا يستطيع شراء الكاز لارتفاع ثمنه، هذا طبعا قبل تحرير السعر. تُرى ماذا أصبح حاله بعد التحرير، والرفع المتكرر؟
(4)
ما مناسبة كل ما تقدّم؟ في تصريحات حكومية سابقة في الأردن، إن تخفيض سعر المشتقات النفطية "خطّ أحمر". هذا قاله رئيس الوزراء، بشر الخصاونة، في اجتماع مع بعض النواب. وفجأة وبدون أي مقدّمات، أزيل الخط الأحمر، وتقرّر تخفيض سعر الكاز حتى نهاية الشتاء، وذلك بـ "تجميد" جني الضريبة على الكاز. بمعنى آخر، تم شطب الخط الأحمر السرّي بين ليلةٍ وضحاها، فمن يضع الخط يشطبه، فلم لا؟
"كازك يا وطن" .. هل تخيّلتم ماذا سيحصل، حينما يصل مواطنٌ ما إلى مرحلة الـ "خالص كازه"، حسب التعبير السائر على لسان العامّة، لفرط التناقضات التي نعيشها في بلاد العرب؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق