يمثل الانقلاب على الديمقراطية في بيرو والبرازيل أحدث أساليب التآمر على إرادة الشعوب لمنعها من اختيار ممثليها عبر الصندوق الانتخابي، ولكن ليس بانقلاب عسكري صريح، وإنما بثورات مزيفة، بتحريك حشود من المعارضين الذين خسروا الانتخابات لإسقاط الرئيس المنتخب والإيحاء كذبا وزورا بأن الشعب هو الذي يريد ذلك!
قبل بداية العام الجديد قرر برلمان بيرو بتأييد من المحكمة الدستورية عزل الرئيس اليساري بيدرو كاستيلو وتعيين نائبته دينا بلوارتي بدلا منه، وبعد ذلك بأيام اقتحم مؤيدو الرئيس البرازيلي الخاسر في الانتخابات جايير بولسونارو مقار الكونغرس والمحكمة العليا والقصر الرئاسي لإسقاط الرئيس اليساري إيناسيو لولا دا سيلفا العائد للحكم للمرة الثانية.
في بيرو نجح الانقلاب وتم اعتقال الرئيس ولكن الشوارع مشتعلة بالغاضبين، وما زال الوضع لم يستقر حتى الآن، وتلاحق اتهامات الخيانة كل من شاركوا في الإطاحة بالرئيس الذي اختاره الشعب، أما في البرازيل فقد فشل الانقلاب لانحياز الجيش لخيار الشعب واحترام نتيجة الانتخابات وطرد المتظاهرين المعارضين من مقار الحكم.
بيرو تجربة لم تكتمل
في كلا البلدين اتفقت دوائر السلطة والحكم والنفوذ أو ما يعرف بالدولة العميقة على رفض نتيجة الانتخابات التي جاءت برئيس من خارج هذه الدوائر المتساندة والموالية لأمريكا، واعتبروا الرئيس المنتخب تهديدا لمصالحهم، ولمصالح الولايات المتحدة التي ترى أن أمريكا اللاتينية هي الفناء الخلفي التابع لها، وتتعامل مع الأحزاب اليسارية على أنها عدو استراتيجي.
رئيس بيرو كاستيلو لم يكن من النخبة التي تملك الثروة والنفوذ، وإنما من الطبقة الفقيرة، فهو مدرس ابتدائي، قاد إضرابات المعلمين وصعد في السلم السياسي حتى حمله الشعب على الأعناق إلى كرسي الحكم عام 2021، فقام بإصلاحات لحماية الفقراء، وزاد من مجانية التعليم وضاعف ميزانية الصحة، وسعى لتقوية دور الدولة في الاقتصاد فتآمروا عليه.
اتفق قواد الدولة العميقة على إفشال كاستيلو، وظلوا يعرقلون إصلاحاته، حتى قرروا عزله من خلال البرلمان وبرروا موقفهم بأنه لم يفز إلا بنسبة 50.13%، ولم يكن الحزب الذي ينتمي إليه يمتلك الأغلبية البرلمانية، وحبكوا مؤامرة للتخلص منه دون انتظار لانتهاء مدته، وقبل أن يصوت البرلمان تصرف كاستيلو بانفعال وقرر حله، ولكن كانت المؤامرة قد اكتملت، فأعلنت المحكمة الدستورية بطلان قراره واجتمع البرلمان وقرر عزله، وتم إلقاء القبض عليه.
لولا وإنقاذ البرازيل
الوضع في البرازيل يشبه الوضع في بيرو، فالرئيس لولا دا سيلفا جاء من قاع المجتمع، وعمل في الزراعة والحرف منذ طفولته، حتى إنه كان ماسح أحذية في فترة من فترات حياته، وهو لا ينكر تاريخه، إلا أن لولا يختلف عن كاستيلو في أنه استطاع خلال رئاسته السابقة لفترتين (2003 /2010) خلخلة النخب القديمة والطبقة المسيطرة بتقديم تجربة ناجحة في القضاء على الفقر، أشاد بها الداخل والخارج.
أنقذ لولا دا سيلفا البرازيل من الإفلاس وترك منصبه والميزانية بها فائض، وأصلح التعليم وشجع عليه وجعله متاحا للجميع، وأعطى كل الدعم للصناعة فزاد التصدير، واهتم بالزراعة وتنمية مزارع الماشية، وأعطى كل الدعم لرجال الأعمال الوطنيين ودمجهم في مشروعات التكافل الاجتماعي فحققوا مكاسب عكس ما كانوا يتوقعون، وتحققت العدالة الاجتماعية بنسبة كبيرة، وتحسنت أحوال المجتمع.
كانت مواقف لولا الخارجية تحظى بالإعجاب والاحترام، وجعل للبرازيل ثقلا في المحافل الدولية، ومن أبرز مواقفه دعمه لقضايا العرب في الأمم المتحدة، وخاصة قضية فلسطين، فقد أعلن اعترافه بدولة فلسطين فسار على نهجه معظم دول أمريكا اللاتينية، بعكس منافسه الخاسر بولسونارو الذي أعلن دعمه المطلق للإسرائيليين.
كابوس ترمب
رغم اعتراف أمريكا وأوربا بانقلاب بيرو ومباركة الخلاص من الزعيم اليساري كاستيلو بقرارات فوقية فإن التعامل مع انقلاب البرازيل كان مختلفا، لأنه يذكرهم بما فعل ترمب لذات السبب وهو الفوز بهامش بسيط من الأصوات (50.9%) واتخاذ ذلك مبررا لعدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات وتحريض المؤيدين على اقتحام مقار السلطة وتقويض الديمقراطية.
لقد سارع الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إدانة ما فعله مؤيدو بولسونارو ووصفه بأنّه “شائن”، وأكد دعمه للرئيس لولا الفائز في الانتخابات، وأعرب الاتحاد الأوربي وكبار ممثليه عن إدانتهم المطلقة لتهديد الديمقراطية البرازيلية، ونفس الموقف أكده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أعلن “دعم فرنسا الثابت” للرئيس لولا.
شعر بايدن والأوربيون بالخطر، فما حدث في البرازيل ليس بعيدا عن أمريكا؛ فترامب ودوائر المحافظين يقفون خلف بولسونارو، ويدعمونه بكل قوة، وإذا نجح انقلاب البرازيل فسيكون ذلك سابقة، وربما تكون المحطة القادمة في الولايات المتحدة، فهم لم ينسوا ما فعله ترمب عقب الانتخابات الرئاسية وتحريض أتباعه على اقتحام الكونغرس لمنع إعلان فوز بايدن.
لقد حاول ترمب الانقلاب لكنه لم ينجح، لكن استمراره رأسًا للحزب الجمهوري وعدم ظهور منافس له داخل الحزب وإصراره على الترشح مرة أخرى يجعل فكرة الانقلاب واردة، ويمثل تحديا وتهديدا، خاصة أنه يحظى بتأييد قطاع لا يستهان به من الأمريكيين البيض وأعضاء اليمين المتطرف الذين يرون أن أمريكا بلدهم وحدهم وأن تفوقهم العرقي مهدد بعد تحولهم إلى أقلية عددية بسبب زيادة عدد المهاجرين.
الانقلابات التي شهدها العالم في العقود الماضية كان يقف خلفها الأمريكيون والأوربيون وخاصة فرنسا، للإطاحة بالزعماء الوطنيين الراغبين في الاستقلال والتحرر، وتنصيب دمى ومتعاونين تابعين يحرسون المصالح الغربية، لكن يبدو أن السحر سينقلب على الساحر، إذ بدأت الدول التي كانت تحيك المؤامرات وتدبر الانقلابات تشعر بأنها ليست بعيدة عن الشرب من نفس الكأس التي سقتها الآخرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق