الأحد، 5 فبراير 2023

إشراقات قرآنية›سورة الفاتحة

إشراقات قرآنية سورة الفاتحة
الشيخ د. سلمان بن فهد العودة

أسباب اختيار الحديث عن سورة الفاتحة

بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله سيدنا وإمامنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سنقضي بإذنه تعالى هذه الليالي المباركة، بعد صلاة العشاء من كل ليلة في هذا الأسبوع، في رياض من رياض الذكر والعلم، مع أشرف العلوم وأعظمها، مع الهدى والتنزيل والخير والرحمة، مع كلام سيدنا وإلهنا ومولانا جل وتعالى، نتدبر ونتأمل، ونتفكر ونتعجب، ونذكر ونشكر!
عندنا في هذه الليلة (سورة الفاتحة)، وقد اخترت هذه السورة لأسباب:
منها: وجازتها وقصرها.
ومنها: شدة الحاجة إلى معرفتها؛ فإنه ما من أحد إلا ويحتاج إلى قراءة هذه السورة، لا أقول: في كل صلاة، بل في كل ركعة، ففي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
ومنها: أن هذه السورة محفوظة لدى الجميع، فحتى صبيان الكتَّاب يحفظون هذه السورة ويرددونها، ولكن الكثير من الناس قد يخفى عليهم معناها، أو بعض معناها.
ومنها: شرف هذه السورة كما سوف يتضح، فإنها من أعظم وأفضل سور القرآن الكريم.

سبب تسمية سورة الفاتحة بهذا الاسم
لهذه السورة الكريمة أسماء:
منها: الفاتحة، أو فاتحة الكتاب، وقد جاء هذا الاسم في الصحيح، كما في الحديث الذي أسلفته، فسماها: فاتحة الكتاب أو الفاتحة؛ وسميت بهذا لأن الصحابة رضي الله عنهم جعلوها في صدر المصحف، فهي قبل سورة البقرة، باتفاق الصحابة والأئمة والقراء.. وغيرهم.
وقد يكون سبب تسميتها بالفاتحة أنها أول ما يقرأ في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام؛ فإنها تسبق غيرها من آيات الكتاب العزيز.


الموضوعات التي تضمنتها سورة الفاتحة

وهي فعلاً فاتحة افتتح الله بها كتابه عز وجل وأراد أن تكون في صدر القرآن، فهي كالمقدمة للمصحف، ولهذا ذكر المفسرون أن سورة الفاتحة اشتملت على معظم الأصول، والقواعد، والمعاني العظيمة في القرآن، فكأن هذه السورة تلخص مقاصد ومعاني الكتاب الكريم.
ولو تأملت هذا بعض التأمل لوجدته ظاهراً، فهذه السورة فيها:
التعريف بالله تعالى، وقد احتوت على خمسة من أسماء الله الحسنى.
وفيها: ذكر البعث والجزاء والحساب ويوم الدين.
وفيها: ذكر العبادة، وهي المقصد من خلق الناس.
وفيها: الاستعانة.
وفيها: الدعاء.
وفيها: التحذير من مسالك الضلال.
فقد اشتملت هذه السورة على معظم المقاصد القرآنية، بل اشتملت على مقاصد الكتب السماوية، وهذا الاشتمال اشتمال بياني ظاهر، وليس أمراً تعجيزياً أو ألغازاً أو تهويلاً، كما يقوله بعض المبالغين الذين يقولون: إن الكتب السماوية متضمنة في القرآن، والقرآن متضمن في سورة الفاتحة، وسورة الفاتحة متضمنة في ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5]، و((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] متضمنة في الباء، والباء متضمنة في نقطتها، فهذا كلام لا اعتبار به؛ لأن التضمن في القرآن هو شيء للتدبر والنظر والفهم، والنقطة لا معنى لها، والباء منفصلة لا معنى لها، وإنما المعنى لمجمل الآية، ومجمل السورة، ومجمل القرآن الكريم .


فائدة افتتاح المصحف بسورة الفاتحة

وأيضاً: الله تعالى جعلها الفاتحة لكتابه الكريم، فدل ذلك على مشروعية أن يستفتح الإنسان الكلام بشيء مناسب من جنسه، فتستفتح الخطب والمجالس والمجامع.. وغيرها بالكلام اللائق المناسب المختصر، فإن هذه السورة مختصرة، ليست مطولة، بل هي بضع آيات افتتح بها الكتاب الكريم، فهذا يدل على الاختصار.
بينما قد تجد كثيراً من الخطباء اليوم والمتحدثين، قد يضيع في دهاليز الافتتاح، وتكون الافتتاحية للخطبة أو المحاضرة أطول من مقصد المحاضرة أو مضمونها، وهذا خلل في البيان والفصاحة والبلاغة؛ فإن الافتتاح ينبغي أن يكون مختصراً، وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يختصر ويوجز في صدر الحديث، ويفتتح بالجوامع من الكلمات والأدعية.. وغيرها.
نعم ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول خطبة الحاجة، وهي: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا).. إلى آخره، ويقرأ فيها نوازع من الآيات القرآنية.
بعض العلماء قالوا: إن هذه الخطبة تقال عند النكاح -هي خطبة النكاح-، فهي تقال في مجلس النكاح، وقد بوب بعض الشراح وبعض أئمة الحديث عليها بهذا المعنى.
وبعضهم قالوا: إنها تقال في مجلس النكاح وفي غيره، لكن لم تدل النصوص على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليها محافظة تامة، ويقولها في كل مجلس وخطبة، وإلا لتواتر واشتهر نقلها، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينوع في ضروب الاستفتاح، وهذا لا بأس به.


وضوح معنى القرآن الكريم وعلاقة ذلك بسورة الفاتحة

أيضاً من الدروس المهمة في موضوع الفاتحة، وهو درس عظيم: أن القرآن الكريم كتاب مفصل محكم، كما ذكر الله تعالى: ((أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ))[هود:1]. فتجد غالب القرآن الكريم واضح المعنى، يفهمه العربي والعجمي، والكبير والصغير، ومن ذلك سورة الفاتحة مثلاً، فلا أحد يخفى عليه المعنى المباشر للآية، نعم، العلماء يتميزون بعمق الاستنباط، ويستنبطون معاني دقيقة، قد لا يغوص فيها غيرهم، لكن المعنى المباشر يفهمه كل أحد، أو غالب الناس، فإذا قلت: الحمد لله رب العالمين، فهم كل أحد معنى هذه الآية، وأن فيها ثناءً وشكراً لله تبارك وتعالى، رب الناس ورب الخلق، وهذا المعنى المباشر يفهمه كل أحد.
فيدل ذلك على أهمية الوضوح أيضاً في اللغة العلمية، وتسهيلها وإيصالها إلى الناس، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يموت -كما في صحيح مسلم - تكلم عن آية الربا وقال: (إنني ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، كما سألته عن آية الربا، حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدري، وقال لي: يا عمر! ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء، ثم قال: إني ندمت أني لم أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، وإني إن أعش أقض فيها بقضية يعرفها من يقرأ القرآن، ومن لا يقرأ القرآن) .
فانظر هذه الهمة العمرية، أنه يريد أن يسهل مسائل الفقه والعلم التي يحتاج إليها ليفهمها كل أحد، من يقرأ ومن لا يقرأ.
وهكذا كنا نسمع عن الخليل بن أحمد الإمام اللغوي، صاحب العين ، أول قاموس في اللغة العربية، وهو إمام جليل القدر، عظيم العلم، واسع الديانة، وهو الذي اكتشف علم العروض، ووضع قواعد البحور، كان يقول: إنه يهم بعملية حسابية تذهب بها الجارية إلى البقال فلا يظلمها، ولكن نازعته المنية دون ذلك.
فالناس اليوم بحاجة إلى أن يقتبسوا هذا الدرس العظيم من طريقة القرآن الكريم، وهي طريقة الوضوح والمباشرة في القضايا الكلية، نعم هناك أبواب من العلم الخاص، الذي لا يتيسر لكل أحد، لكن ما يتعلق بالقواعد الكلية المتضمنة لإيمان الناس، وتوحيدهم، وعبادتهم لله، ومعرفتهم به سبحانه، وما يتعلق بأركان الإيمان وقواعده وقضاياه، أن تسهل للناس بحيث يفهمونها.

أسماء سورة الفاتحة

من أسماء هذه السورة: سورة الفاتحة.
ومن أسمائها أيضاً: السبع المثاني، وهذا الاسم جاء في القرآن الكريم، في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ))[الحجر:87]. فعدها الله تعالى سبعاً، وهي سورة الفاتحة أي: سبع آيات، والمثاني جمع مثْنى أو مثنّى، والمثنى: هو الواحد وما يضاف إليه، يعني: الاثنان يسميان: مثنى، فهي مثنى أو مثنى، والمقصود بكونها مثاني: إما أنها تكرر مرة بعد أخرى في القراءة، وهذا نقل عن عمر رضي الله عنه، فسميت مثاني؛ لأنها تقرأ في الركعة الأولى، وتقرأ في الركعة الثانية، بخلاف غيرها من سور القرآن الكريم، ويحتمل ويجوز أن يكون معنى قوله: ((مِنَ الْمَثَانِي)) أي: أن هذه السورة فيها المعاني المتضمنة في القرآن الكريم، أي: أن الله تعالى كرر فيها القواعد والمقاصد العظيمة، المتضمنة في كتابه عز وجل، وهذا دليل على أنها سبع آيات.
وقد يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن من أسمائها: القرآن العظيم، وهذا من باب تسمية البعض باسم الكل، فإن الله عز وجل قال: ((آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ))[الحجر:87]. والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن سورة الفاتحة : (وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته). فسماها: قرآناً عظيماً، وهذا من باب تسمية البعض باسم الكل.
وأيضاً من أسماء هذه السورة: أنها تسمى بأم القرآن، أو أم الكتاب، وهذا جاء في السنة النبوية، في حديث أبي هريرة عند مسلم ، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري في البخاري في قصة اللديغ الذي قرءوا عليه بأم القرآن، فشفي وقام، كأنما نشط من عقال، ما به بأس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي سعيد : (وما أدراك أنها رقية). فهذا من أسمائها.
وأم الشيء هو أصله ولبه، فأم الكتاب أو أم القرآن أي: أنها أساسه، وقد يطلق الأم على الراية التي يجتمع عليها الناس، إذا كانوا في تجمع أو حرب، فتكون السورة حينئذ كأنها الراية أو العلامة البارزة في القرآن الكريم، وهي المتضمنة لجل معانيه.
وقد أوصل بعض المفسرين أسماء هذه السورة إلى أكثر من عشرين اسماً، كالأساس.. وغيرها، والذي نختاره أن هذه ليست أسماء، وإنما هي أوصاف لهذه السورة، وإنما أشهر الأسماء الذي ثبت في القرآن والسنة هو ما ذكرناه.


مكان نزولها

هذه السورة -سورة الفاتحة- مكية، ويكاد أن يكون هذا اتفاقاً عند المفسرين، وقد نقل عن مجاهد- وحسبك به في التفسير- أنه قال: إنها مدنية، ولكن هذا قول ضعيف جداً، والراجح أن السورة مكية، بل هي من أول ما نزل، بل حكى بعضهم: أنها أول ما نزل، وهل هذا مسلّم أنها أول ما نزل؟ كلا، بل أول ما نزل: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))[العلق:1]، لكن قد يحمل كلام من قالوا: إنها أول ما نزل، أي: أنها أول ما نزل سورة كاملة، بخلاف (اقرأ) فإنها نزل صدرها، ثم تأخر عجزها بعد ذلك.
وقيل: إن سورة الفاتحة هي خامس السور في ترتيب النزول، فهي بكل حال من السور المكية المتقدمة في النزول، والتي نزلت دفعة واحدة غير مفرقة، وما نقل عن مجاهد في أنها مدنية، وأيضاً ما نقل عن بعضهم من أنها نزلت بـمكة ، ثم نزلت في المدينة مرة أخرى، فضعيف ولا يثبت.


عدد آياتها

عدد آيات هذه السورة سبع آيات كما ذكره الله تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي))[الحجر:87]. والنبي صلى الله عليه وسلم نص على تفسير هذه الآية، فقال: (وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). وهذا قول كافة علماء العدد والتفسير.
وقد نقل في ذلك رأي غريب للحسن البصري أنها ثمان آيات، ونقل عن بعضهم أنها ست آيات، ونقل أنها تسع آيات. وكل هذه الأقوال ضعيفة.
وسبب اختلافهم أنهم اختلفوا أولاً في البسملة: ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ))، هل تعد من الفاتحة أو لا تعد؟
واختلفوا أيضاً في قوله: ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ))[الفاتحة:7]. هل يقف عندها وتكون آية، أو يتبعها بما بعدها. والصحيح هو ما عليه الجمهور من أن سورة الفاتحة سبع آيات.

اختلاف العلماء في كون البسملة آية من الفاتحة
فيما يتعلق بالبسملة: ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ)) هل آية من السورة أم ليست بآية؟
في هذا ثلاثة أقوال:
القول الأول لـمالك وفقهاء المدينة، وكثير من الأئمة والعلماء والصحابة: أنها ليست آية من سورة الفاتحة، وإن كان العلماء متفقين على أنها آية من القرآن الكريم، في قوله تعالى: ((إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))[النمل:30]. فهي آية من القرآن الكريم بلا خلاف، لكن هل هي آية من الفاتحة؟ هذا فيه ثلاثة أقوال كما ذكرت:
الأول: قول مالك وفقهاء المدينة وجماعة من الصحابة: أنها ليست آية من سورة الفاتحة، وإنما هي آية من القرآن الكريم.
وحجتهم في ذلك أحاديث كثيرة جداً، لعل سياقها يطول، لكن منها على سبيل المثال: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنه قال سبحانه: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2] قال الله تعالى: حمدني عبدي). ولم يقل في الرواية الصحيحة: إذا قال العبد: ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ))[الفاتحة:2].
وكذلك ما ورد عن جماعة من الصحابة منهم: عائشة رضي الله عنها، وحديثها في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح الصلاة بالتكبير، ويستفتح القراءة بـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2]). ولم يقل: بـ ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ))[الفاتحة:1]، فدل على أن هذا إما أن يكون علماً على السورة، أو تكون هي الآية الكريمة الأولى التي يقرؤها.
وكذلك ما نقل عن جمع (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر و عمر كانوا يستفتحون الصلاة بـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2]، لا يذكرون ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ))). وإن كان هذا اللفظ الزائد فيه نظر ، إلا أن كونهم يستفتحون الصلاة بـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2]، وهي التي يجهرون بها دليل على أن الفاتحة تبدأُ بهذه الآية: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2]. وأن البسملة ليست آية منها، والأدلة على ذلك كثيرة جداً.
القول الثاني: وهو قول للشافعي -يعني: رواية عن الشافعي - وأحمد بن حنبل أن البسملة آية من سورة الفاتحة؛ ولهذا يوجبان قراءتها على المصلي في صدر كل ركعة؛ لأنها آية من الفاتحة، وقد يستدلون بكتابتها في أول المصحف، كما يستدلون ب (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أصحابه وقال: إن سورة من القرآن آنفاً نزلت عليّ، ثم قال: (( بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ ))) .
القول الثالث: أن البسملة آية من كل سورة في القرآن الكريم، وهذا قول للشافعي أيضاً، وهو قول عبد الله بن المبارك رضي الله عنه.
والذي يظهر: أن القول الأول هو الأقوى؛ لوضوحه وقوة أدلته وكثرتها وسلامتها من المعارضة، أن البسملة ليست آية من الفاتحة، ولا في صدر السور الأخرى، ولكنها آية بالاتفاق -وهذا لا كلام فيه- في قوله: ((إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))[النمل:30].

عدم الإنكار على من قرأ بالبسملة في الصلاة وحكم قراءتها عند القراءة من المصحف في أول السور

أكثر الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بها في صدر قراءته إذا قرأ، ولو أن إماماً جهر بها فله في ذلك سلف، وقد جاء هذا عند النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها في صدر الصلاة: ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ))[الفاتحة:1]، ولا ينكر على من قرأها، بل هذا قول لجماعة من أهل العلم، أعني: من جهر بها.
وكثير من الأمصار يقرءون الفاتحة ويبدءون بـ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ))[الفاتحة:1]. فإذا كان الإنسان لم يتعود على سماع ذلك، فربما أنكره قلبه، فإذا فهم أقوال الأئمة والعلماء واختلافهم اتسع صدره لذلك، وعرف أن هذه مسائل فيها اجتهاد، ولا ينكر فيها على من أخذ بهذا القول أو ذاك.
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديموقد اتفق العلماء على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم إذا قرأ السورة ابتداءً، يعني: لو أن إنساناً أخذ المصحف، وهم ليقرأ القرآن الكريم من أول سورة البقرة مثلاً، فإنه يشرع له أن يستعيذ بالله من الشيطان، ثم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
لكن لو أنه قرأ السورة استمراراً وكان قرأ قبلها سورة قبلها أو جزءاً من سورة فهل يقول: بسم الله الرحمن الرحيم عند افتتاح السورة أو لا؟ هذا مما اختلف فيه القراء، فمنهم من يسمي ومنهم من لا يسمي، والأمر في ذلك واضح وسهل بحمد الله.

إشراقات في قوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله: (( بِسْمِ اللَّهِ )) الباء هنا يقولون: للملابسة، أو للإلصاق، بمعنى: أن القارئ يبتدئ باسم الله، متلبساً باسم الله، متبركاً باسم الله، فإن البركة في اسمه العظيم جل وتعالى.
وقوله: (( بِسْمِ اللَّهِ )) التقدير: أقرأ باسم الله، أو أبدأ باسم الله، ولكن لم يقل هذا، مع أن الله تعالى أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم في أول سورة نزلت: (اقْرَأْ) ، قال: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))[العلق:1]، يعني: ابدأ القراءة واستمر في القراءة باسم ربك الذي خلق، ((خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ))[العلق:2]، فقوله: (بسم الله) فيه امتثال لأمر الله تعالى، حينما قال: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ))[العلق:1].
ولكنه لم يقل: اقرأ باسم الله، أو اقرأ باسم الله الرحمن، أو ابدأ لا، قال: باسم الله، لماذا؟ أولاً: على سبيل الاختصار؛ لأن هذا مما يكثر ذكره ووروده، فناسب أن يكون فيه اختصار.
ثانياً: من أجل التنويع؛ لأن الإنسان قد يقرأ باسم الله، وقد يأكل باسم الله، أو يشرب باسم الله، أو ينام باسم الله، أو يدخل أو يخرج أو يقوم أو يقعد أو يتكلم، فيكون لكل مقام ما يناسبه من التقدير، يعني: أقرأ باسم الله، آكل باسم الله، أشرب باسم الله، أنام باسم الله، أستيقظ، أقوم، أقعد، أدخل، أخرج، فمن هنا لم يذكر متعلق الباء من الفعل، وإنما تركه هكذا معروفاً، يعني: في هذا المقام: أستفتح قراءتي بسم الله الرحمن الرحيم.سبب البدء بـ( بسم الله) عند قراءة القرآن الكريم
((بِسْمِ اللَّهِ))[الفاتحة:1]. والاسم هنا للبركة، أي: بركة الله تعالى، التي هي الخير الكثير المبارك، فإذا بارك الله في شيء، فلا حدود لفضله وبركته، فإذا بارك في القراءة كانت القراءة أجراً لصاحبها.
ويقال لقارئ القرآن يوم القيامة: (اقرأ وارق ورتل، كما كنت ترتل في الدنيا) ، وإذا بارك الله في القراءة كانت شفاءً لصاحبها، شفاءً لقلبه من أمراض الشهوات، والحقد، والحسد، والمعاني المرذولة، فطردت هذه السورة الكريمة كل معنى خبيث من قلب قارئها، وإذا بارك الله تعالى في هذه القراءة كانت نوراً وهدىً وبصيرة لصاحبها، فناسب أن يتبرك العبد بباسم الله العظيم، صاحب البركة وخالق البركة، عند استفتاح القرآن، وعند استفتاح هذه السورة.

معنى اسم الجلالة (الله) في قوله تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم)
((بِسْمِ اللَّهِ))[الفاتحة:1]. الله: هو الاسم العلم لذاته الشريفة العلية العظيمة تبارك وتعالى، وهو الاسم الذي تنسب إليه بقية الأسماء، كما في قوله سبحانه: ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ))[الحشر:22]، ((هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ))[الحشر:24].
فالله هو أشهر اسم لذاته العظيمة، قيل: هو الاسم الأعظم، ولا شك أنه من الاسم الأعظم، وإن لم يكن هو به فحسب، فقد ورد أن رجلاً قال: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب). فالله جزء من اسم الله الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب.
والله هذا الاسم العظيم، حتى في الجاهلية كان الناس يطلقونه على الخالق الواحد، الذي لا إله إلا هو.
وقد ورد في مسند الإمام أحمد وغيره، في قصة حصين والد عمران ، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال: فمن الذي لرغبك ورهبك؟) أي: الذي قلبك يرغب ويرهب ويخاف ويرجو، (قال: الذي في السماء، قال: فاعبد الذي في السماء، ودع التي في الأرض).
من معاني الله: المألوه، الذي تحن إليه القلوب؛ فإن القلوب مجبولة على حب الله، وكيف لا تحب من أسدى لها الجميل، وأعطاها النعم، وأجزل لها الفضل، وخلقها ورزقها، وأعطاها ومنّ عليها، وصبر عليها، وسترها؟ فالقلوب الصافية الصادقة مجبولة على حبه سبحانه، والحنين إليه، فهذا من معاني الإله، وهذا مستخدم حتى عند العوام، إذا قالوا: وَلَهَ فلان قد توله على فلان، أو تأله عليه، يعني: أن قلبه اشتاق إليه، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة، وهو في مسلم : (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه). فالقلوب الصافية تحب بارئها، وتأله إليه، وتشتاق إليه، وتحن إليه، وتطرب بذكره.
أيضاً من معاني (الله): أن تحار فيه العقول؛ فإن العقول لا تحيط بالله تعالى علماً، و ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ))[الأنعام:103]. ومهما سرح الإنسان بطرفه أو تخيل، فهو بمعزل وبمنأى وعجز تام عن أن يحيط بربه عز وجل، أو بأسمائه، أو بصفاته، ولهذا كان علي رضي الله عنه يقول:
العجز عن درك الإدراك إدراك والبحث في ذاته كفر وإشراكفالقلوب تحن إلى الله، والعقول تتحير فيه، وتؤمن به، وتصدق به، وتعلم أن آياته ودلالاته في الكون أعظم من أن تنكر، وأكثر من أن تذكر.
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدولله في كل تحريكة وفي كل تسكينة شاهدوفي كل شيء له آية يدل على أنه واحدفالعقول تؤمن به، لكنها لا تحيط به.
يذكر أن أحد الفلاسفة كان يكثر من البحث في ذات الله تعالى، فخرج يوماً يتجول على البحر وهو يفكر، فرأى طفلاً صغيراً، وقد حفر حفرة يأخذ ماءً من البحر، ثم يصبه في هذه الحفرة، ثم يأتي مرة أخرى فيكون الماء قد تسرب فيصبه مرة أخرى، فقال الفيلسوف لهذا الطفل الصغير: ماذا تعمل؟ قال: أنا أحاول أن أنقل هذا البحر الخضم إلى هذه الحفرة، هلا ساعدتني؟ فقال له: كيف تستطيع أن تضع هذا البحر الهائل في هذه الحفرة الصغيرة؟ قال: أكثر عجباً وجهلاً مني من يحاول أن يحيط بربه بعقله الصغير الكليل.
ولا شك أن الإنسان لو تأمل عقله، هذا العقل البشري مليء بالنواقص والنقائص والعيوب، ففكرة أن هذا العقل ينساق وراء التفكير في ذات الله تعالى، أو تخيله، أو تصوره، فإن هذا مما لا تحيط به العقول. وقد يتسلل الشيطان بالوسوسة إلى بعض الناس، فهنا نقول: الكلمة التي قالها بعض أهل العلم، وهي كلمة مفيدة جداً في دفع الوسواس الخناس، قال: كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك ، يعني: كل صورة تقع في ذهنك، ويخيلها لك الشيطان أن هذه الصورة للباري جل وتعالى، فالله ليس كذلك؛ لأنه مهما حاول الإنسان أن يتخيل- حتى لو أراد-، فهو لا يستطيع ولا يملك، والله تعالى لا تحيط به الأبصار، ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به العقول؛ ولهذا لا يقلق الإنسان حينما يصور له الشيطان بعض الصور السيئة في عقله، ويقول: هذه صورة لله؛ لأن الله ليس كذلك، هذه صورة رسمها الشيطان، وصورة اختلقها الإنسان من قبل نفسه، فلا يقلق الإنسان، وإنما يكفيه أن يلتزم الهدي النبوي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقرأ سورة: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))[الإخلاص:1]).
إذاً: هذا من معاني الله، أن العقول تحار فيه ولا تحيط به علماً.

معنى الرحمن والرحيم في قوله تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم) والفرق بينهما
قال تعالى: ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ))[الفاتحة:1]. فذكر ثلاثة أسماء: الله، والرحمن، والرحيم. ونلاحظ أن (الرحمن) و(الرحيم) مشتقة من الرحمة، لكن كلها كما يقال: صيغ مبالغة، فالرحمن والرحيم اسمان مشتقان من الرحمة، هل هما مترادفان؟ لا، وليس في القرآن ترادف مطلق إلا لحكمة ومعنى ودلالة، فبعضهم قالوا: الرحمن رحمة في الدنيا والآخرة، والرحيم في الدنيا.
وبعضهم قالوا: الرحمن رحمة عامة للخلق كلهم، برهم وفاجرهم، مسلمهم وكافرهم، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين.
والأقرب والأجود أن يقال: إن الرحمن اسم يدل على وصول الصفة للمرحومين، فهو يدل على تعلق الصفة بمن وصلت إليهم الرحمة من العباد.
أما الرحيم فهو اسم يدل على تعلق الصفة بذات الباري جل وتعالى، يعني: أن الرحمة صفة دائمة له، فالإنسان قد يرحم في بعض الحالات، ولكنه قاس أحياناً أو غليظ، بمعنى أن الرحمة ليست صفة له، ومع ذلك قد يرحم، ونحن نجد من الملوك والأباطرة.. وغيرهم، من قد تأتي عليه لحظة من اللحظات فيعفو عن مخطئ، أو يتجاوز، أو يعطي أحداً عطاء، فتكون منه حالة رحمة، وإن لم يكن هو رحيماً على الدوام.
بينما ما يتعلق بذات ربنا سبحانه فالرحمة صفة له، وهي فعل أيضاً يصل إلى عباده. فهذا أحسن ما يقال في الفرق بين الرحمن والرحيم.
وتلاحظ هنا أن الله تعالى افتتح بثلاثة أسماء، ونجد في قصة سليمان ، لما قال: ((إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))[النمل:30]. ما يدل على أن هذا هدي الأنبياء من قبل عليهم الصلاة والسلام، أنهم كانوا يستفتحون أمورهم وأشياءهم بالبسملة، وبهذه الأسماء الثلاثة، وقد جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمر ذي بال لا يفتتح ببسم الله فهو أبتر). وهذا الحديث منكر، ولكن أحسن منه الحديث الذي فيه: (... لا يفتتح بالحمد لله رب العالمين) .


تقديم البسملة في كل الأمور وكثرة تردادها


إذاً جرت العادة، وهذه طريقة القرآن أن يفتتح الإنسان المناسبات والمقامات بذكر البسملة، وذكر الحمد لله عز وجل، وقد كان أهل الجاهلية يستفتحون أحياناً باللات والعزى، وكان النصارى يستفتحون بالآلهة الثلاثة التي يعبدونها، فيقولون: باسم الأب والابن وروح القدس، ويسمونها بالأقانيم الثلاثة، فهم يعبدون ثلاثة آلهة، كما ذكر الله تعالى عنهم، أنهم قالوا: ((قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ))[المائدة:73]. فناسب أن يرد الله تعالى عليهم بهذه الآية الكريمة بقوله: (( بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ ))[الفاتحة:1]. فهو إله واحد، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وهو واحد أحد صمد، ((لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ))[الإخلاص:3]، ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ))[الإخلاص:4] خلافاً لما يزعمه النصارى .. وغيرهم.
في هذه الآية الكريمة (البسملة) معنى عظيم لا ينبغي أن نتجاوزها دون أن نقف عنده، هذه الكلمة من أكثر ما يردد، فالمسلم عند الدخول، عند الخروج، عند الأكل، حتى عند إتيان أهله، النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنه إذا أتى أهله قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فإنه إن يكتب بينهما ولد لم يضره الشيطان) .
هذه الكلمة من أكثر ما يردد.

إشارة البسملة إلى سعة رحمة الله تعالى
البسملة فيها ذكر اسم الرحمن الرحيم، وهذا فيه إشارة إلى سعة رحمة الله، ولا غرابة أن تذكر الرحمة مرتين في هذه الكلمة، وربنا سبحانه يقول في الحديث القدسي المتواتر: (إن رحمتي غلبت غضبي، أو سبقت غضبي). فربنا أرحم الراحمين، وهذا معنى عظيم ينبغي أن يكرر ويذكر الآن، خصوصاً في ظل إعراض كثير من الناس عن الخير وبعدهم عنه، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر ، وكذلك ذكره سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمهما الله جميعاً، وهو معنى واحد توارد عليه عدد من أهل العلم، قالا: إن الناس في زمن الإعراض أحوج ما يكونون إلى تذكيرهم بالرحمة؛ لأنك إذا ذكرتهم بالوعيد وهم معرضون، ربما زادهم ذلك إعراضاً ونفوراً، وربما ترك الإنسان بعض الخير الذي يفعله إذا بالغت في تخويفه، لكن إذا ذكر بالرحمة انفتح له باب الأمل، وباب الرجاء، وباب التوبة إلى الله عز وجل، وكان هذا سبباً في إقلاعه عن بعض خطئه . إذاً: هذا من المعاني المهمة.

إرشاد البسملة للمؤمنين إلى التراحم
كذلك من المعاني التي تستلهم من هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين ينبغي أن يتداولوا الرحمة فيما بينهم، أن يرحم الإنسان زوجته، والزوجة أيضاً ترحم زوجها، فهو متعب، مجهد، فترفق به، وهو يرحمها، فهي قعيدة بيته وأم أولاده، ولو جلس هو مكانها في البيت في الطبخ والنفخ، ومقاساة الأولاد ومشاكلهم لبعض الوقت ما أطاق وما صبر.
وكذلك ترحم الأطفال الصغار، تصبر عليهم ولا تعاجلهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في الرحمة أحاديث كثيرة جداً، حبذا أن يقرأها الإنسان بعد أن يعود إلى بيته، من كتاب رياض الصالحين ، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن). وهو الحديث المسلسل بالأولية. (ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء).
وحديث: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).
وحديث الشاة: (إن رحمتها رحمك الله). وأحاديث عظيمة جداً.
فينبغي أن نحرك الرحمة في قلوبنا، ونحركها في قلوب الناس، ونتدرب عليها، ونحرك ينابيعها، نرحم الناس من أجل أن يرحمونا، ونرحم حتى من ندعوهم إلى الله، فنصبر عليهم، ونوسع الصدر، ونحلم عليهم، ونتذكر من كان أغير منا على دين الله وعلى دعوته، وقد كذبوه وحاربوه، فخاف أن يعاجلهم الله بالعقاب والعذاب، فكان يقول: (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون). يخشى أن يعاجلهم الله.
ونتذكر سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وقد طرد من مكة البلد الحرام، ووصف بالافتراء على الله عز وجل، وقال قائلهم في حقه صلى الله عليه وسلم ما قال، وجاءه ملك الجبال يقول: (إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم -يعني: إذا ما آمنوا هم وأسلموا- من يعبده لا يشرك به شيئاً).


إشراقات في قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)


الفرق بين الحمد والمدح

ثم قال سبحانه: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2]. والحمد هو المدح، فهما مترادفان، وقد يكون بينهما بعض الفرق.
فالمدح أحياناً هو الثناء على الممدوح بأي صفة كانت، سواء كانت لازمة أو متعدية منه أو من غيره، يعني: قد تمدح الشمس بضيائها، وقد تمدح الوردة بجمالها، وقد تمدح الهواء العليل ببرودته، وقد تمدح الإنسان بكرمه، فالمدح أعم، بينما الحمد يكون غالباً للأفعال المقصودة، والأفعال التي يصل خيرها إلى الناس.
فالله تعالى ممدوح، يمدح بفضله؛ ولهذا في الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد أحب إليه المدح من الله تعالى، وما من أحد أحب إليه العذر من الله تعالى) .
وأيضاً: الله تعالى محمود، يحمده العباد على فضله وإنعامه ورحمته بهم.

من معاني الحمد تذكر نعم الله والاعتراف بها وشكرها
قوله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2]، الحمد هنا شكر لله على نعمه، وعلى عطاياه، وهو ليس فقط قولاً يقال، وإنما هو إخبار عن الحمد، كما يقول القائل:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبافالحمد يكون فعلاً وليس قولاً فحسب، يكون بالقلب، بالاعتراف بالنعمة، وأنها من الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ))[يوسف:106]، يعني: ينسبون النعمة إلى غير الله: ((يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا))[النحل:83]. فمن الحمد أن تعترف بأن النعمة من الله، ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ))[النحل:53].
ومن الحمد: أن تتذكر النعم، وبعض الناس يحاول أن يعد النعم، هل يستطيع؟ ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا))[إبراهيم:34].
يقول العلماء: إن جسد الإنسان فيه تريولونات الذرات، يعني: مليارات المليارات من الذرات، جسمك مركب من ذرات صغيرة، صغيرة جداً، تريولونات، كل ذرة فيها عدد من النعم؛ لأن العافية في هذه الذرة نعمة، وسلامتها من الأمراض نعمة، ولو جاءها أي مرض لكانت هذه الذرة سبباً في العطب والهلاك، فنعمة الله تعالى في الجسد فقط لا تعد ولا تحصى، مهما حاول الإنسان.
فمن الحمد أن يعود الإنسان نفسه دائماً أن يتذكر نعم الله، أنت الآن في عافية، لكن لو أصابك أدنى شيء، أو اكتشف الطب فيك أي شيء، ليس لك حيلة، نعمة الولد، السمع، البصر، الجسد، المال، الصحة، العافية، الوالدين، العقل، اللسان.
سبحان الله! لو أن إنساناً انقلع ظفره وصار لا ينبت، أو شعر اللحية صار غير منتظم في مكان دون مكان، أو الحاجب، أو خلل يسير ربما الإنسان يحرج، بينما يتقلب الإنسان في ألوان النعم والعطايا، (الله عز وجل يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها). فتذكر دائماً أنك تتقلب في نعمه، وعود لسانك الشكر بالقلب، العرفان، كلما قارفت نعمة من نعمه.
النوم، لو أن النوم ما جاءك، هل تستطيع أن تعيش؟ ما يمكن، أبداً، يقوم الإنسان الصباح وهو مجهد، بل العلماء يقولون: إن الإنسان لا يستطيع أن يمكث فترة طويلة بدون نوم، عشرة أيام، خلال خمسة عشر يوماً يموت إذا لم ينم، ((وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا))[النبأ:9]، فـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2].
عود لسانك شكر الله على النعم بالقلب، تواطؤ القلب واللسان.

من معاني حمد الله تعالى العمل

أيضاً من الحمد لله تعالى: الفعل، ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا))[سبأ:13]، يعني: أن يكون فعل الإنسان شكراً لله، فتوظف النعم، سواء كانت الصحة أو اللسان أو اليد أو المال أو السيارة أو الوظيفة أو الجاه، أو أي نعمة، توظفها في مرضاة الله، وفي نفع عباده، فهذا موسى عليه السلام يقول: ((قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ))[القصص:17]، لاحظ النعمة هنا، ((بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ))[القصص:17] أي: لا أساعد المجرمين، وإنما يساعد الفقراء، والمساكين، والمحتاجين، والضعفاء، والأيتام، والأرامل.. وغيرهم.

من معاني الحمد افتتاح الفاتحة والقرآن بالحمد لله
((الْحَمْدُ لِلَّهِ))[الفاتحة:2]. الحمد لله على التنزيل، وهذا مناسب؛ لأننا الآن نستفتح كتاب الله عز وجل، فمن المناسب أن يحمد العبد ربه على نعمة القرآن، الذي هو الكتاب الوحيد المحفوظ، ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))[الحجر:9]. كتب الأنبياء السابقين كـالتوراة و الإنجيل و الزبور والفرقان أين هي؟ بعضها انتهى من الوجود، وبعضها بقي وقد لعبت فيه يد التحريف، حتى إنك لا تجد عند النصارى ولا نصاً واحداً يروى عندهم بالإسناد، وتجد أن نصوص الكتاب المقدس -كما يسمى عندهم- لم تكتب إلا بعد مئات السنين من رفع أو وفاة أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام.
بينما عندك هذا القرآن المحفوظ تقرؤه نائماً ويقظان، وتجد صغار السن يحفظونه، وربما رأينا أطفالاً أبناء سبع سنوات، ثمان سنوات يحفظ القرآن عن ظهر قلب، بل رأينا أطفالاً في هذا السن يحفظ القرآن، ويحفظ أرقام السور، وأرقام الآيات في القرآن كله.
والكثيرون يقرءون المصحف الآن بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فالحمد لله على التنزيل، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على حفظه، والحمد لله على أن نكون عرباً، نفقه ونفهم القرآن، لو كان الإنسان أعجمياً، هل عنده من قوة الإيمان ما سوف يجعله يبحث ويدأب، حتى يصل إلى اللغة؛ ليضبط القرآن الكريم؟ وحتى لو فعل، فإن من الصعب عليه أن يفهم القرآن، كما يفهمه صاحب اللغة الأصلية إذا خوطب به، فهو يفهمه بالسليقة. فالحمد لله على التنزيل، هذا واحد.

من معاني الحمد حمده تعالى على الرحمة والخلق
وأيضاً من معاني الحمد هنا، الحمد لله على الرحمة؛ لأنه قال: ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ))[الفاتحة:1]. وبعد ذلك ذكر الرحمن الرحيم. فمن الحمد حمد الله تعالى على رحمته العظيمة بعباده، التي رحم بها عباده في الدنيا بالعطاء والرحمة والخير، والهوى والماء والغذاء، والصحة والعافية، ورحمته للمؤمنين أيضاً في الآخرة بالرضوان، والنعيم المقيم، والجنة.
من الحمد أيضاً: الحمد على الخلق، فإنه رب العالمين: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2] والرب من معانيه: الخالق، فأنت تحمده سبحانه على الخلق، وخلق الناس هي أول النعم من حيث الترتيب، وإن لم تكن هي أعظم النعم من حيث الأهمية والفضل.
فهنا البداية بهذه السورة بـ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2].

سبب اختيار لفظ (الرب) في قوله تعالى (رب العالمين) وما تشتمل عليه من معان
اختار سبحانه لفظ: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2]، لم يقل: مالك العالمين، وإنما قال: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2]. أي: الرب تشتمل معنى المالك، وتشتمل معنى الخالق، وتشتمل معنى المدبر، فلها ثلاثة معان، هو خالقهم، ولهذا فهو ربهم، وهو أيضاً مالكهم، فهم ملكه، وهو المتصرف المدبر لهم؛ ولهذا قال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2]. مع أن كلمة (رب) توحي بالرحمة، فهو يربيهم بالنعم والعطايا، ويصبر عليهم، ويمهلهم ولا يعاجلهم، ويرسل إليهم الرسل، وينزل الكتب، ويعطيهم المهلة، ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ))[فاطر:37]. فهذا من معاني الربوبية.

معنى قوله تعالى (العالمين)

قوله: ((الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2] هو جمع مفرده عالم، ولا يكاد يوجد له نظير في لغة العرب، وهو يطلق على الأجناس، فالناس عالم، والحيوانات عالم أو عوالم، والبحر فيه عوالم من الأسماك، بل ابن عباس نقل عنه أنه قال: [إن الله خلق ألف أمة في البر والبحر].
والعلماء والكتاب اليوم يتوسعون في لفظ العالم، فيطلقونه على الحيوان، وعلى النبات، وعلى كل شيء، فتقول: نحن مررنا بعالم من الأشجار، وعالم من الغابات، وعالم من المناظر الجميلة، وهذا لا بأس به.
إذاً: الله تعالى رب كل شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (ربنا ورب كل شيء). والدعاء الآخر: (رب كل شيء ومليكه). فالله تعالى هو رب العالمين: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2].
ثم قال: ((الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ))[الفاتحة:3]. وقد شرحتها وبينت الفرق بينهما.


إشراقات
في قوله تعالى: (مالك يوم الدين)


القراءات الواردة في قوله تعالى (مالك يوم الدين) والفرق بينها ومعناها


ثم قال سبحانه: ((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ))[الفاتحة:4]. وهذه إحدى القراءات، والقراءة الثانية لـعاصم و الكسائي : (ملك يوم الدين). فهما قراءتان سبعيتان متواترتان، بأيهما قرأ أجزأه. ((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ))[الفاتحة:4] أو (ملك يوم الدين).
وهل بينهما فرق؟
نعم بينهما فرق، (مالك) من الملك، يعني: أنه يملكها، فهي له، هو خالقها، وهي له سبحانه، فهذا معنى مالك، فهي من الملك، يعني: بكسر الميم، يعني: أنه يملك هذه الأشياء فهي له.
أما (ملك) فهي من الملك، يعني: السلطان، والسيادة، فأنت مثلاً في الدنيا تقول: من هو مالك هذا البيت؟ هو فلان بن فلان، لكن من هو ملك هذه البلاد؟ هو فلان بن فلان.
إذاً: هذا فرق بين الملك والمالك.
الله تعالى هو الملك وهو المالك. فإذا تأملت بعض العلماء والمفسرين يتساءلون: أيهما أبلغ (ملك) أو (مالك)؟ نقول: كلتاهما قراءتان بليغتان، وهما بمثابة آيتين من القرآن الكريم، كما يقول العلماء: إن القراءتين كالآيتين.
فـ(ملك) إذا تأملت فيها وجدت فيها الهيبة؛ لأن المقام مقام يوم الدين، فالله تعالى هو الملك؛ ولهذا قال: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ))[غافر:16]. (وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة، وهو على المنبر، فاهتز المنبر - كما يقول ابن عمر- بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قلنا: ليخرن به، أو يسقط به). فملك تعطي الهيبة، المقام مقام ملك وسلطان، والنفوس مستسلمة، والألسنة صامتة ومستخذية للقوي المالك جل وعز.
و(ملك) لها معنى آخر أشمل أيضاً؛ لأن الإنسان قد يكون ملكاً، ولا يكون مالكاً للأشياء، أنا أملك وأنت تملك، ولكن يوم القيامة الله تعالى هو الملك، الذي له السلطان والأمر والنهي، وهو المالك الذي له هذه الأشياء، فهي ملكه وخلقه وفي قبضته، ولا أحد ينازع فيها؛ ولهذا يقول: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ))[غافر:16].

معنى (الدين) في قوله تعالى (مالك يوم الدين)
قال تعالى: ((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ))[الفاتحة:4]. الدين: هو الجزاء والحساب، تقول: كما تدين تدان، يعني: مثل ما تعمل تجازى، وهذا معروف عند العرب:
فلما حصحص الشر وأمسى وهو عريان ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوافالدينونة معناها: الجزاء، إن خيراً فخير، أو شراً فشر، فالدين هو الجزاء.
((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ))[الفاتحة:4]، يعني: مالك يوم الجزاء والحساب.
((وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ))[الانفطار:17-19].
إذاً: يوم الدين هو يوم الدينونة، يوم مجازاة النفوس.
ونحن نجد في الدنيا أن كثيراً من الناس الصلحاء قد يموت، وهو لم يحصل على جزائه، بذل وجاهد وضحى ونفع، ومع ذلك ربما مات مريضاً، فقيراً، مجهولاً، مغموراً، لم يحفظ له مقامه، فالجزاء عند الله تعالى.
وبالمقابل نجد في الدنيا من قد يكون عنده بغي وعدوان، وظلم وبطش، وتمرغ في الشهوات، وعدوان على العباد، ومع ذلك يموت ولم يقتص منه، فاقتضت حكمة الباري تعالى أنه ليس بالضرورة أن تكون الدنيا دار جزاء، وإنما الدنيا دار ابتلاء، والآخرة هي دار الجزاء والحساب.

إشراقات في قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)
ثم قال سبحانه: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5]. وهذا التفات في الخطاب، فالآيات الأولى هي كلام عن الله سبحانه وتعالى، وتضمنت خمسة من أسمائه الحسنى: الحمد (لله)، (رب) العالمين، (الرحمن)، (الرحيم)، (ملك) يوم الدين، أو (مالك)، بل يمكن نقول: ستة إذا أضفنا (ملك) و(مالك)، تضمنت خمسة أو ستة من أسماء الله الحسنى.
فائدة تقديم الضمير على الفعل في قوله تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين)

ثم بعد ذلك التفت الخطاب إلى السؤال والدعاء، فقال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5]. ولاحظ هنا: (إياك) ضمير المخاطب، وقد قدم الضمير، وهذا عند أهل اللغة معروف أنه يعني الحصر، يعني: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5]، معناها: لا نعبد إلا إياك، فهي تماماً مثل كلمة: لا إله إلا الله، يعني: فيها نفي وإثبات، فيها نفي العبادة عن كل أحد، وإثباتها لله تعالى وحده بلا شريك.

معاني قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين)

قوله تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] تشتمل على معنيين:
المعنى الأول: نعبدك يا رب!
المعنى الثاني: لا نعبد غيرك.
ولو قال: نعبدك ونستعينك، لاحتمل أن يكون المعنى يعبده ويعبد غيره، فلما قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] دل على الحصر والقصر والتوحيد، وأنه لا يعبد إلا الله تعالى. ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5].

لطيفة حول التعبير بنون الجماعة في قوله تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين)
هنا لاحظ نون الجماعة في قوله: (نعبد) لم يقل: إياك أعبد، وإنما قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5]، وفي هذا إشارة إلى روح الجماعة في الإسلام، روح الجماعة عبر التاريخ، فأنت تسلك طريقاً لست أول من سلكه، قبلك الرسل والأنبياء، وأيضاً حتى وأنت اليوم حي ترزق، هناك الآلاف والملايين من الناس يشاركونك في هذه العبادة، عبادة الله تعالى، فيتحدث المسلم ليس بلسانه فقط، وإنما بلسان الجماعة.
ومن اللطائف أن بعضهم يقول: هنا تكون كأنك دعوت الله، وذكرت الله ليس بلسانك الذي عصيت الله فيه، ولكن بألسنة الخلق. يعني: أنت لم تتكلم عن نفسك فقط، وإنما تكلمت بلسان الجميع، والآخرون تكلموا أيضاً كذلك، فقد يكون لسانك لساناً عاصياً، يلغ في الناس، في أعراضهم، في الغيبة والنميمة والكذب، وقول الزور وشهادة الزور، والفحش واللعن والشتم والسب، ويمكن تستغفر بعد ذلك، لكن الآن يوجد شيء من ذلك، بينما إذا قلت: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] كأنه مخاطبة من الجميع، من كل العابدين لله تعالى، أنهم يخاطبونه بهذه النون. وهذا يحيي روح الأخوة الدينية بين المؤمنين، وأنهم ليسوا آحاداً ولا أفراداً، وإنما هم جماعة؛ ولهذا في القرآن الخطاب دائماً خطاب جماعي: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:3].

بيان كون قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) دافعة للرياء والكبرياء
وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذه الآية: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5]، قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] تدفع الرياء، ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5] تدفع الكبرياء. وهذا معنى جميل، فإن قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] يدفع الرياء عن القلب، المرائي هل يعبد الله؟ لا، لا يعبد الله، وإنما يعبد الناس الذين يراءونهم، كما قال سبحانه: ((يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا))[النساء:142]. وكما قال سبحانه: ((فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ))[الماعون:4-6].
وكما قال في الحديث القدسي سبحانه يوم القيامة (اذهبوا للذين كنتم تراءونهم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟). دعك من الوسواس، بعض الناس يعبد الله، ولكن يأتيه الشيطان ويشككه في نيته، حتى يترك العمل، لا تلتفت لهذا، لكن الإنسان الذي يعمل وهو يريد من الناس أن يمدحوه ويريد الثناء، يروى عن الأصمعي : أن أعرابياً جاء وصلى صلاة في المسجد فأحسنها، فلما انصرف من صلاته قال له الأصمعي : لله أنت يا أعرابي! أي صلاة صليتها! صلاتك عظيمة، فيها خشوع وحضور، قال: نعم، فكيف لو عرفت أني مع ذلك صائم.
ويذكر أيضاً: أن رجلاً ضاع له بعير، فذهب يبحث عنه، فمر برجل جالس، قال له: الليلة الماضية ما رأيت بعيري الذي فقد، قال: والله أنا الليلة الماضية كنت أصلي هنا قيام الليل، وأحسست كأن شيئاً مر من ورائي، قد يكون هو بعيرك، فقال: أما بعيري فسوف يرده الله علي، لكن ابحث عن صلاتك هل تجدها؟
إذاً: هذه الآية تدفع الرياء، ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5]؛ لأن الذي يستحضر أنه يخاطب ربه -ولاحظ هذا المعنى، كم هو صعب أن الإنسان يخاطب الله وهو شارد الذهن، سبحانك يا رب وبحمدك!- وهو في واد آخر، أو وهو يقول: والله ما أدري قرأت أو لم أقرأ، لكن بسبب الاعتياد والتكرار والإلف والانشغال في الدنيا، وعدم استحضار العبد لقلبه في صلاته، يصبح يردد هذه المعاني وهو غافل، مع أن العبد يخجل أن يخاطب أمه أو أباه، أو أخته أو أخاه، أو زميله أو أستاذه، بكلام وهو منصرف عنه، فلا بد أن تعطيه وجهك وتقبل عليه، فالله تعالى أولى أن يلتفت العبد ويقبل عليه بقلبه وقالبه وهو يقول: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] ، يعني: هذه الصلاة.
ولهذا قال سبحانه: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5] قال الله تعالى: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل). فهو يعبد الله، وحق الله على العبد أن يعبده.
إذاً: فهي تدفع الرياء.


معنى العبادة

العبادة معناها: الذل والخضوع والطاعة لله عز وجل بما أمر.
وقد عرفها الإمام ابن تيمية في كتاب العبودية بالتعريف الذائع: هي اسم جامع لما يحبه الله تعالى ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهو تعريف حسن.
إذاً: العبادة لله، وهذا معنى عظيم جاء به الإسلام؛ ليحرر الناس من العبودية لغير الله، لا يعبدون حجراً ولا شجراً ولا بشراً ولا قمراً، ولا نبياً ولا ولياً ولا قبراً ولا أحداً، لا يعبدون إلا الله، فتكون قلوبهم متعلقة به سبحانه، بينما تجد في العالم الإسلامي اليوم، في كثير من البلاد والأمصار قد تجد القبور، وتجد الطواف بها، وتجد النذر عندها، وتجد دعاء المقبورين، والاستغاثة بهم، وسؤالهم أكثر مما يسألون الله عز وجل، مع أنهم يقولون بألسنتهم: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5]. ولكن بسبب بعد العهد، وغلبة الجهل، وقلة الداعي والمعلم.

سبب ذكر الاستعانة بعد العبادة في قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين)
ثم قال سبحانه: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5]. فهذا كما يقول ابن تيمية : يدفع الكبرياء؛ لأنك لما حمدت الله في صدر السورة، واعترفت له بأنه رب العالمين، ومالك يوم الدين، ناسب تماماً ألا تعبد إلا الله، الذي له الدنيا والآخرة، وهو خالق الخلق، فلما قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] تبين أن البشر ضعيف وهزيل، وليس له قدرة ولا طاقة، ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[التكوير:29]. ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالإنسان ليس له قوة ولا حول إلا أن يستعين بالله؛ ولهذا بعدما قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] قال: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5]، يعني: أستعينك على عبادتك، وأستعينك على أمور ديني ودنياي، فهذه تدفع الكبرياء؛ لئلا يغتر الإنسان، أو يظن بأنه قد وصل أو بلغ، وإنما الواقع أنه ((لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ))[عبس:23]. لم يؤد شكر نعمة الله تعالى عليه كائناً ما كان عمله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه، وقد قام الليل حتى تفطرت قدماه: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكورا)؟ هذا بعض شكر نعمة الله عز وجل.
إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةً عليّ له في مثلها يجب الشكرفكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5].


مراتب العبادة عند الرازي, والرد عليه في ذلك

وقد ذكر الرازي صاحب مفاتيح الغيب في هذا الموضع: أن العبادة على ثلاث مراتب:
الأولى: قال: مرتبة من يعبدون الله طمعاً في الثواب، وخوفاً من العقاب، وهؤلاء كأنما عبدوا الثواب والعقاب.
المرتبة الثانية: من عبدوا الله للتشريف، لشرف العبودية، وهؤلاء خير من الأولين.
الثالثة: من عبدوا الله؛ لأنه الله، لألوهيته، وهذه أعلى المنازل.
وما ذكره الرازي في هذا المقام خطأ؛ لأن الله تعالى ذكر عن الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام -وهم أفضل العباد- أنهم: ((كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))[الأنبياء:90]. فعبدوا الله تعالى حباً، وعبدوه خوفاً، وعبدوه رجاءً، وعبدوه خشوعاً، كما في الآية.
وقد قال بعض الأئمة والسلف: [من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري خارجي، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد].
والعبد لله تعالى تتقلب أحواله، تمر به حالات يعبد الله وهو يرجو الثواب، وحالات أخرى يعبد الله وهو يخاف العقاب، وحالات يرتقي إيمانه فيعبد الله تعالى محبة له، وهذه كلها لا تناقض بينها، بل هي تتكامل، والحب أشرف المنازل، كما ذكر ذلك الأئمة كـالغزالي و ابن القيم و ابن تيمية .. وغيرهم، فالحب بمنزلة الرأس للطائر، والخوف والرجاء بمنزلة الأجنحة للطائر. المهم أن العبد يعبد ربه حباً له، وخوفاً ورجاءً وطمعاً، كما قال سبحانه: ((وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ))[الأعراف:56].


دلالة قوله تعالى (وإياك نستعين) على كون العبد يعمل وإشادة الآيات الكثيرة بالعمل

في قوله: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5] معنىً مهم ولطيف، وهو أن العبد يعمل، والمطلوب منه أن يعمل في دينه ودنياه: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). هذا في أمر الدين وفي أمر الدنيا؛ ولهذا لما تقول: (نستعين) معناه: أنك تعمل، الذي لا يعمل لا يستعين، وإنما الذي يستعين هو الإنسان الذي يعمل، فهو يطلب العون والمدد من الله تعالى، فالذي يقصر في عمل الآخرة مثلاً، ولكنه يأتي بما يقدر عليه منها، يطلب من الله العون، وكذلك أمر الدنيا، ومن هنا جاءت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم تشيد بالعمل، حتى اعتبر العمل جزءاً من الإيمان، فالإيمان قول وعمل، ولا يذكر الإيمان في القرآن إلا ومعه العمل، هذا يفترض أن يجعل عند المسلمين رغبة في العمل، وحرصاً على العمل، واجتهاداً في العمل، حتى في القرآن الكريم سنة وناموس لا يتخلف: ((مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا))[النساء:123-124].
كذلك عمل الدنيا من أجل أن نكون أقوياء في التجارة، في الاقتصاد، في الجوانب العسكرية، في العدة، في العتاد، في أمور الحياة المختلفة، نحتاج إلى عمل، والإسلام يحفز على العمل، وكان الصحابة رضي الله عنهم كما كان عمر رضي الله عنه يقول: [إني أكره الرجل ليس في عمل الدنيا، ولا في عمل الآخرة، وإني أرى الشاب فيعجبني، فإذا قيل: إنه بطال لا عمل له، سقط من عيني] .
بينما تجد اليوم أن كثيراً من أمم الأرض، التي ليس عندها هذا الهدي، عندها رغبة في العمل، وتجتهد في العمل لمصالح الدنيا، أما المسلمون فالكثير منهم يؤثرون القعود، تجد مثلاً في المساجد الشحاذين الذين يتسولون، ولو أنه بدلاً من التسول اشتغل مثلاً ببيع أو شراء، أو عمل ولو أن يبيع الماء، كان أحفظ لمكانته ووجهه في الدنيا والآخرة، وأسلم له من عذاب الله، وأعز من أن يكون في ذلك، أو أن يترك الإنسان العمل، حتى إن أحد الشباب يتندر على أحد إخوانه ويقول: أنا أكرهك مثلما أكره يوم السبت. لماذا تكره يوم السبت؟ إنه يذكره بالعمل، يوم السبت بداية العمل، إن كان وظيفة، أو كان دراسة، أو كان عملاً، لماذا نكره العمل؟ لماذا لا يكون العمل عندنا عبادة نتقرب بها إلى الله؟ ونشعر أن الله تعالى مطلع علينا، وأنه يثيبنا ويأجرنا.
وقد ذكر الطبراني وغيره بإسناد لا بأس به: (أن رجلاً مر من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يسعى سعياً مجهوداً حثيثاً، فقال الصحابة: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على زوجة يعفها، فهو في سبيل الله) .
وكذلك: (الرجل الذي جاء يسأل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاه فأساً وحبلاً، وأمره أن يحتطب ويبيع). فالإسلام يحض على العمل، سواء كان عملاً تعبدياً محضاً، كالصلاة والقرآن، أو كان عملاً دنيوياً، بل الله تعالى يأجر العبد على العمل الدنيوي، ويثيبه عليه، ويأجره بما أنفق، وبكف وجهه عن الناس، وبالإنفاق على زوجته، على أولاده، وبنفع المسلمين وسد حاجاتهم.

إشراقات في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)
ثم قال سبحانه: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6]. وهذا من الدعاء، والله تعالى يقول: (هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). ولاحظ هنا الدعاء عام، ما قال: اهدني، قال: ((اهْدِنَا))[الفاتحة:6]. وهنا الأنانية ابتعدت؛ لأن المسلم أصبح يستشعر ارتباطه بإخوانه المسلمين فيدعو هنا، ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6]. رغم أنفك، شئت أم أبيت، لما تقول: ((اهْدِنَا))[الفاتحة:6] تكون دعوت لكل مسلم يصلح له الدعاء، حتى لو كنت معه على خلاف أو نزاع أو خصام أو بغضاء أو مشاكل، مع ذلك أنت تدعو له مكرهاً، حتى تعود قلبك على التخلص من كل المعاني المرذولة . ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6]، فتدعو الله تعالى بالهداية.بيان الصراط المستقيم المذكور في قوله (اهدنا الصراط المستقيم)
وقد يقول قائل: ما هو الصراط المستقيم؟ قيل: هو القرآن. وقيل: هو الإسلام. وقيل: هو البصيرة. وكل هذه المعاني كما ذكر الأئمة والمفسرون صحيحة، فالصراط المستقيم هو: الطريق أو السبيل القائم المعتدل الموصل إلى المطلوب. وكما يقول علماء الهندسة: إن الطريق المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين ، يعني: ليس فيه عوج ولا التفاف ولا أمت، وإنما هو طريق لاحب واضح سهل قريب. فهنا قال: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6].

مراتب الهداية في القرآن الكريم

والهداية أربع مراتب في القرآن الكريم:
المرتبة الأولى: الهداية العامة للخلق كلهم، ((قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))[طه:50]. هدى حتى الطيور والحيوانات.. وغيرها، والبشر، هداهم إلى ما خلقوا له، هداهم إلى عملية الأكل، الشرب، التزاوج، معرفة المصالح الدنيوية.. وغير ذلك، هذا من الهداية. ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الذي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى))[الأعلى:1-3]. قدر لكل أحد ولكل مخلوق ما يناسبه وهداه إليه.
هذه هداية عامة، وبموجبها يعرف الطفل الصغير كيف يلتقم الثدي، هذه من الهداية، وهذه من الرحمة.
الثانية: هداية الدلالة والإرشاد والبيان، وهذا متضمن في الكتاب والسنة، فإن الله تعالى بواسطة الكتاب والسنة، وبإرسال الرسل، وإنزال الكتب هدى الناس إلى الطريق المستقيم، هداية البيان آمنوا أو كفروا، كما قال سبحانه: ((وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى))[فصلت:17].
الثالثة: هداية التوفيق والإلهام، ومعناها: أن الله تعالى يأخذ بيد العبد، بيد من شاء من عباده، من علم الله تعالى أنهم أهل للهداية، يأخذ بأيديهم إلى الصواب، فيهديهم إلى الحق: ((فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ))[البقرة:213]، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء في قيام الليل، (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
إذاً: هذه هي المرتبة الثالثة، هداية الإلهام والتوفيق.
المرتبة الرابعة: هي هداية الآخرة إلى الجنة أو إلى النار، أما أهل الجنة فإن الله تعالى: ((يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ))[يونس:9]. فهذه نهاية الهداية، وهذه ثمرتها.
وأما أهل النار فهل نقول: هدوا إلى النار؟ هل نقول ذلك؟ نعم: ((فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ))[الصافات:23-24]. فيقال: هداه إلى الجنة، أو هداه إلى النار، بمعنى: دله عليه. فهذه أربع مراتب للهداية.


وجه سؤال المسلم الهداية إلى الصراط المستقيم مع كونه مهتدياً ومعنى ذلك

وهاهنا سؤال تقليدي كثيراً ما يطرق، وهو جدير بالوقوف عنده: المسلم الذي يصلي لربه ويقرأ القرآن، ومع ذلك هو يدعو بالهداية، أليس هو مهتدياً أصلاً؟ فلماذا يدعو بالهداية؟
الجواب على هذا من وجوه:
أولاً نقول: من معاني هذا الدعاء: طلب الثبات، فإن الإنسان ولو كان مهدياً الآن، فإنه لا يدري بم يختم له، وماذا يكون حاله غداً، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما كان يقول: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك).
وكان من دعائه: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب! صرف قلبي على طاعتك).
إذاً: من معاني اهدنا أي: ثبتنا على الهدى.
من معاني (اهدنا) أيضاً: البصيرة والزيادة، فإن الإيمان يزيد وينقص، ((وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا))[التوبة:124]. فالإنسان كلما تعلم شيئاً جديداً، أو علماً، أو خبرة أو عملاً صالحاً أضافه ازداد هدى، ولهذا لا يعرف أن الإنسان يتوقف عند حد معين من الأعمال الصالحة، حتى قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99]، يعني: ما يقف الإنسان عند حد معين، الذي أراه فينا جميعاً -إلا من رحم الله- أن الإنسان يظن أنه خلاص انتهى، لم يبق عليه شيء، لا، أنت بدأت لكن أمامك مشوار طويل، [ومن استوى يوماه فهو مغبون]. ينبغي أن يكون يومك خيراً من أمسك، وأن يكون غدك خيراً من يومك، بحيث يكون عند الإنسان ترق، وإذا كان الله يعلمنا هذا المعنى في كل ركعة: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6]. فهل لنا عذر أن نصد ونغفل ونظن أننا وصلنا، وأننا لسنا بحاجة إلى المزيد، أبداً أنت كما يقول:
فقل لمن يدعي في العلم معرفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءفحينما يقول: (اهدنا) يطلب المزيد من العلم، المزيد من العمل، المزيد من الإخلاص. وكل هذه مقامات لا تتحقق إلا للقلة، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يعبد ربه حتى يأتيه اليقين، يعني: حتى قبضت روحه عليه الصلاة والسلام إلى الملأ الأعلى، وهو في ترق مستمر في الإيمان، في العلم، في العبادة، فما بالك بآحاد الناس وأفرادهم.
أيضاً من معاني قوله: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6]: طلب الهداية في آحاد المسائل وأفرادها، يعني: الإنسان يومياً عنده عشرات القضايا، عنده مشروع زواج، وعنده مشروع تجاري، وعنده مشروع طلب علم، وعنده دراسة، وعنده أشياء كثيرة جداً يهم بها، ويفكر فيها، وهو متردد، ولهذا كثير من الناس يسألون عن الاستخارة، وهي في حديث جابر في صحيح البخاري : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم دعاء الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن الكريم أن يستخير الله تعالى ويسأله: إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ودنياي، وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه).
هنا أذكر بقصة في السيرة لطيفة وعجيبة: لما كان في صلح الحديبية، والمسلمون جاءوا لا يظنون إلا أنهم سيدخلون المسجد الحرام، آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون، جاءوا بهذه الروح، وسيدهم وإمامهم وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم، مع ذلك حصل الرجوع، وحصل الصلح الذي نظروا إليه على أنه دنية، وفيه ذل، حتى قال عمر رضي الله عنه ما قال، هذا موقف من مواقف الحياة، وما أكثر مواقف الحياة، الكثير منا يركبون رءوسهم، والله ما هو متأكد ما القضية عليه، خير أم شر، ربما على الأقل أنه سمع الناس يقولون شيئاً فقاله، لكن أين الخير؟ أين الشر؟ أين الحكمة؟ أين المصلحة بهذا أو ذاك؟ ينبغي على العبد ألا تكون ثقته برأيه مفرطة، اجعل ثقتك برب العالمين، وما يقدره وما يقضيه وما يكتبه.
الصحابة رضي الله عنهم داخلهم همّ وغم، وهمْ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، ومع ذلك ما الذي حدث؟ نزل القرآن الكريم، يقول الله تعالى، اسمع، تخيل نفسك في الموقف، وأنت عائد على بعيرك، حزيناً، مغموماً، مهموماً، ليس فقط أنك حرمت من الطواف بالبيت والعمرة، بل رجعت أدراجك ومعك هذا العقد، الذي في نظرك أنه عقد غير مقنع، يعني: على الأقل ليس ما يتمناه الإنسان، فينزل القرآن الكريم في اللحظة نفسها: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا))[الفتح:1]، فيقول الصحابة: (أو فتح هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم.). ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ))[الفتح:2]. ثم قال: ((وَيَهْدِيَكَ))[الفتح:2]. يهديك أيش؟ ((صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا))[الفتح:2]. (( اهْدِنَا)) أيش؟ ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6]. ((وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا))[الفتح:2]. إذاً: هذا هو الصراط المستقيم.
الصراط المستقيم أن يهديك الله في مواقف صعبة، أو غير صعبة في حياتك، من أمورك الشخصية والعائلية، والوظيفية، والعلمية والعملية والدعوية، والاجتماعية والسياسية والعسكرية، إلى ما يعلم الله أنه الخير. وهو الصراط المستقيم، فيختارك الله له، ويختاره لك ويرضيك بذلك، بحيث يكون عندك الرضا، الذي كان في قلب محمد صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه من القرآن ما نزل، هذا معنى تربوي مهم وعظيم، فإن كثيراً من الناس يفرطون. يعني: أعرف شاباً أحب فتاة وتعلق بها، وكان يتصل بي يقول: لو لم أتزوج هذه لن أتزوج في حياتي أبداً، وهي مثل ذلك وربما كتب بينهما الزواج، فلا تمر سنين طويلة إلا ويحصل بينهما الانفصال؛ لأنها كانت أوهاماً من الحب، لما التقيا وتقاربا بدأ كل واحد يكتشف عيوب الآخر ويؤاخذه، وشيئاً فشيئاً حتى كان هناك ركام من الكراهية والبغضاء، هذا ليس هو الصراط المستقيم، ولو أنه فوض أمره إلى الله لكان أرضى بما كتب الله تعالى وقدر وقضى. فهذا كله من معاني ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6].
من معاني ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6]: -كما أشرت- أن يرزقك الله البصيرة، والبصيرة جاءت في القرآن الكريم في قوله: ((.. أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي))[يوسف:108]. وهي والله معنى لطيف، يمكن يصعب التعبير عنه، ولكنها معنى في القلب والنفس، تقتضي بذل الجهد ثم التفويض إلى الله تعالى، وأن تكون عند الإنسان سكينة، وقد رأينا أقواماً ممن رزقوا البصيرة، ليسوا بأكثر الناس علماً، ولا يظهر أنهم أشد الناس حماساً، وليسوا أفصح الناس ألسناً، ولكن عندهم قلوب تستلهم وتستوحي الحق، فيسددها الله تعالى ويرشدها ويحفظها، فتلقى الصواب في غالب الأحيان، ولذلك على الإنسان ألا يعتمد على نفسه، بل يعتمد دائماً وأبداً على ربه.
((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6]. هذا الدعاء العظيم الذي الإنسان بأمس الحاجة إليه، وهو يذكره بالصراط المستقيم المنصوب في الدار الآخرة على متن جهنم، والذي يعبره الناس بحسب أعمالهم؛ ولهذا لم يقل: اهدنا الطريق أو السبيل، وإنما قال: (الصراط) تذكيراً بصراط الآخرة المعتدل.

إشراقات في قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم ..)
وفسر سبحانه وتعالى هذا الصراط المستقيم القائم بأنه ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))[الفاتحة:7]. وهذا بدل أو عطف بيان من قوله: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6]. هذا الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم.
((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))[الفاتحة:7]. ولاحظ هنا لفظ الجماعة أيضاً، لم يقل: الذي أنعمت عليهم، وإنما (الذين).
إذاً: أنت أمام جماعة من الناس، وقد بين سبحانه من هم هؤلاء، بقوله: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا))[النساء:69]. فمن هؤلاء محمد صلى الله عليه وسلم. ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى))[الضحى:5]، ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ))[الضحى:11]. فهذا ممن أنعم الله عليه.
وأبو بكر الصديق منهم؛ لأنه صدّيق هذه الأمة، وهو سبحانه يقول: ((مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ))[النساء:69].
إذاً: اتباع طريق أبي بكر وطريق الخلفاء الراشدين وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الهدي هو أيضاً من اتباع الطريق المستقيم.
أهمية القدوة المستوحاة من قوله (صراط الذين أنعمت عليهم..) وحاجة الناس إلى القدوة والأسوة

وفي هذه الكلمة العظيمة: ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))[الفاتحة:7] فيه معنى عظيم، بل معان، فيه قضية القدوة والأسوة والأنس، وأن الإنسان لا يستغني عنها، أن الإنسان يحتاج إلى قدوة؛ ولهذا الله تعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل يبلغون ويطبقون ويعملون، قال سبحانه: ((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا))[الأنعام:9]، يعني: الرسول، ((لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ))[الأنعام:9]. فالقدوة والأسوة مهمة جداً، أن يتأسى الإنسان ويقتدي، ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ))[الأحزاب:21]. والقوم يحتاجون إلى أسوة في كل زمان، نعم هناك الأسوة العامة، القدوة بالرسول صلى الله عليه وسلم، لكن في كل عصر يحتاج الناس إلى أسوة، ولو لم تكن لها مقام الكمال، وإنما في جانب معين، فتتأسى بفلان في صبره ودأبه، وهذا تتأسى به في علمه، وهذا في عمله، وهذا في اجتهاده، وهذا في أخلاقه، وهذا في بذله؛ لأن الناس بحاجة إلى أسوة وقدوة ينظرون إليها؛ ولهذا أقول: من الخطأ والخلل الكبير تحطيم وتدمير الأسوات والقدوات في مجتمعاتنا الإسلامية، أو افتراض الكمال والعصمة لها، أو الانسياق وراء أحياناً بعض المحاولات الإعلامية المغرضة التي تحاول أن تشوه صورة علماء الأمة، دعاتها، مخلصيها، قادتها، بشتى التهم، بينما نحن لا نقول: لهم عصمة، وليسوا بأنبياء، ولكنهم من أتباع الأنبياء، ويفترض كما يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب لبعض عماله وقال له: [ولِّ الفقهاء، فكتب إليه وقال: قد وليناهم فوجدناهم خونة، فقال: ويحك! ولهِّم، إن كانوا خونة فغيرهم أخون منهم] .
حقيقية نحن لا نريد أن يفهم من هذا الكلام، أننا نعطي ثناءً مطلقاً لمن كان ينتسب إلى الخير؛ لأن الخير واسع، وليس الخير فقهاً فقط، ولا مجلس علم، قد يكون خير الإنسان في دنيا أو في تجارة، أو في إصلاح، أو في سياسة، أو في إدارة، أو تعليم، أو إعلام، أو ما شاء الله، وكلها أبواب من أبواب الخير، لكن المقصود أن يحرص الناس على حفظ مقامات الكبار، سواء كانوا معلمين أو آباء، أو لهم فضل أو مكانة؛ لئلا تتدمر وتتحطم القدوات، وتبقى الأجيال بلا أسوة ولا قدوة، بينما الله تعالى علمنا أهمية القدوة والأسوة بقوله: ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))[الفاتحة:7].


سؤال الله تعالى الإنعام عليك كما سأله السابقون ممن أنعم عليهم

في هذه الآية أيضاً الإشارة إلى قضية السؤال والدعاء لله تعالى بما سبق من فضله، وهذا معروف في كثير من المواقف، يعني: هنا كأنك تسأل الله تعالى بما أنعم على السابقين أن يجعلك معهم، ويلحقك بهم، فأنت لما استحضرت هذا المعنى: ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))[الفاتحة:7] كأنك تدعو الله تعالى أن يلحقك بهم، ويجعلك منهم، فهو توسل إلى الله تعالى ببعض نعمه، كما تقول: اللهم إني أسألك مثلاً بما أعطيتني من الإيمان والتوحيد، أن تزيدني من نعمك، وأن تمنَّ عليّ بالمغفرة. ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))[الفاتحة:7].


من صفات الذين أنعم الله عليهم الصدق العلمي، والصدق العملي

والذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين جمعوا بين أمرين:
الأمر الأول: الصدق العلمي والمعرفي، وهو الهدى.
والأمر الثاني: هو الصدق العملي والسلوكي، وهو دين الحق، ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ))[التوبة:33].
إذاً: الكمال يكون في شيئين: يكون بالعلم الصحيح، العلم المؤصل المبني على أصوله، العلم الذي يؤخذ من محله، ويعتنى فيه بما اعتنى الله تعالى به، ويوضع للأصل مقامه، وللفرع مقامه، وتوضع الأشياء في نصابها بغير إفراط ولا تفريط ولا مبالغة. هذا جانب.
والجانب الثاني: العلم النافع والعمل الصالح، العمل الصالح أيضاً بألوان الأعمال المطلوبة، التي فيها خير الإنسان في دينه ودنياه، هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم.

أسباب تخلف الأمة ودخول النقص والخلل عليها
ولهذا نقول: إن كل نقص أو خلل يدخل على الأمة اليوم، أو في أي عصر من العصور، فهو من أحد أمرين:
إما من العادات العلمية الفاسدة، مثل: التقليد والمبالغة في التقليد الذي جاء على عصور الإسلام، وأصبح الناس يقلد بعضهم بعضاً، وحتى طلبة العلم يقلدون في الأقوال، وينقلون دون تبصر ولا تحر، ولا دليل ولا نظر، ولا إعمال للعقل والنظر، وإنما يقلدون: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
وكذلك من العادات العملية الفاسدة: الإفراط في الفروع وإهمال الأصول، حتى تجني عليها، والإنسان طاقته محدودة، فإذا أفرط وبالغ في العناية بالتفاصيل، وتفاصيل التفاصيل، لم يكن لديه من الوقت والجهد والهمة ما يعتني به بالأصول الكبار، وسأزيد هذه النقطة وضوحاً بعد قليل في سر عظيم من أسرار هذه السورة.
المهم أن الخلل يأتي من العادات العلمية المنحرفة، أو من العادات السلوكية والعملية المنحرفة، سواء كانت في جانب العبادة أو في غيرها، كما ذكرنا ونوهنا.
ولهذا قال سبحانه: ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ))[الفاتحة:7]، يعني: هذا الصراط صراط المنعم عليهم، ليس صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضالين.

المقصود بالمغضوب عليهم والضالين وسبب ضلالهم
أما المغضوب عليهم: فهم الذين عرفوا الحق وأعرضوا عنه، فغضب الله عليهم، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن الكريم عن اليهود ، ((مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ))[المائدة:60]. وكان معهم بعض العلم والأثارة من هدي الأنبياء، ولكنهم أعرضوا وكفروا، فغضب الله عليهم، ولاحظ هنا: أنه لم يقل: الذين غضب الله عليهم، وقال: ((الْمَغْضُوبِ))[الفاتحة:7]؛ لأن المقام مقام رحمة، فناسب أن يطوى في موضوع المغضوب عليهم، ولا يذكر من هو الذي غضب وهو الله تعالى، كما قال: ((مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ))[المائدة:60]. وهذا من أسرار الإعجاز، مثلما في سورة (قل أوحي): ((وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا))[الجن:10]. فلما كان الأمر أمر رشد ذكر اسم الله تعالى، أما لما ذكر الشر قال: ((أريد))[الجن:10]. فبناه لما لم يسمّ فاعله، بناه للمجهول كما يقال.
إذاً: المغضوب عليهم هنا ذكروا في القرآن على أنهم اليهود ، وهم مثال، فنقول: ليست الآية حاصرة أو مقصورة على اليهود، بل المغضوب عليهم، هم أمم الأرض الذين يعرفون الحق، ثم يصدون عنه، وقد يكون هناك من هو مثل اليهود أو شر منهم، ونحن نجد في أمم الأرض من تكون عندها معرفة وعلم، ومع ذلك تصد عن سواء السبيل، وتعرض عنه، فلهم هنا جانب من هذا الوصف، وهو المغضوب عليهم.
والضالون أيضاً جاء هذا الوصف في القرآن الكريم موصوفاً به النصارى ، الذين ((ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ))[المائدة:77]. وقد جاء في حديث عند ابن حبان وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليهود مغضوب عليهم و النصارى ضالون). وهذا الحديث وإن حسنه بعضهم، إلا أنه لا يقتضي قصر الآية على هذا المعنى، وإنما هذا فقط مثال، وإلا فكما قال سفيان : [إن من ضل من علماء هذه الأمة ففيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادها ففيه شبه من النصارى]؛ لأن النصارى عبدوا الله تعالى على جهل وضلال، وهم في الصوامع والأديرة.. وغيرها كما هو معروف.
طيب، هنا الله سبحانه وتعالى لما قال: ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ))[الفاتحة:7]، لاحظ أن الأمرين اللذين بهما نجا من نجا، وهدي من هدي ممن أنعم الله عليهم هما: العلم والعمل، وهما اللذان ضل بهما من ضل، فـاليهود ضلوا بترك العمل، والنصارى ضلوا بترك العلم، وباجتماعهما تتحقق للإنسان الهداية والنعمة.

وجه سؤال الهداية إلى صراط المنعم عليهم قبلنا نحن المسلمين مع اختلاف الشرائع
وهنا قد يقول قائل: نحن الآن ندعو الله تعالى أن يهدينا طريق الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهم ممن سبقوا قبلنا، كـإبراهيم وهو أبو الأنبياء، وموسى ، وعيسى وهود ، وشعيب ، وزكريا ، ويحيى ، وآدم قبلهم، فهو نبي معلم مكلم، فهؤلاء الذين أُمرنا أن نأخذ طريقهم وهدايتهم، قد يكون عندهم في كتبهم وفي شرائعهم ما ليس موجوداً عندنا، وقد يكون عندنا ما ليس موجوداً عندهم، فكيف طلب إلينا أن ندعو الله بهدايتنا إلى طريقهم وصراطهم؟
فالجواب: أن أمر الهداية هنا متعلق بالأصول التي أطبق عليها الأنبياء، وهي أصول التوحيد والإيمان، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر والجنة والنار.. وغير ذلك من المعاني والأصول العظام، وأصول التشريع وقواعده العظيمة.
ونأخذ من هذا فائدة مهمة: وهي أن الخلاف في الأصول يكون خلاف هدى وضلال، أما الخلاف في الفروع إذا كان على أصله، فهو هنا لا يتعلق به هدى وضلال، وإنما يتعلق به أنه خطأ وصواب، أو راجح ومرجوح، وهذا معنى واضح جداً في الآية، فأنت تطلب طريق الذين أنعم الله عليهم ممن سبقوا، والأمر أمر يتعلق بالإيمان والتوحيد.
أما ما يتعلق بالاختلاف الفقهي، فقد وجد عند الصحابة، ووجد عند الأئمة الأربعة وغير الأربعة، واختلف الناس اختلافاً كثيراً، ولا شك أن هذه الأمور مبناها على الاجتهاد والتحري والنظر والدليل، ولا ينبغي أن تكون هي الفيصل التي تقسم الناس إلى طوائف وفئات ومجموعات وأحزاب؛ لأننا حزب واحد، وهو حزب ((الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ))[النساء:69]. هؤلاء هم الذين ينبغي أن نقتفي أثرهم، ونتبعهم فيما أجمعوا واتفقوا عليه؛ ولهذا أقول: تصلح هذه الآية دليلاً لاعتبار الإجماع، وأنه من أدلة التشريع، وهي عندي لا تقل وضوحاً في دلالتها على الإجماع ووجوب اعتباره من الآية الأخرى التي استدل بها الإمام الشافعي ، وهي قوله تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا))[النساء:115].
ثم يقول القارئ: آمين، و آمين ليست آية بالاتفاق، وإنما هي دعاء: اللهم استجب، وقد جاء في صحيح مسلم وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ومد بها صوته، وقال: من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). والقراءة المشهورة لها: آمين، وبعضهم قد يقولها بغير مد: أمين. فزاد الله ما بيننا قربى.
آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها ألفين آمينااللهم اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين.


الأسئلة


حكم قراءة المأموم للفاتحة في الصلاة

السؤال: هذا سؤال عن قراءة الفاتحة، ربما لم أذكر هذا الموضوع؟
الجواب: بالنسبة لقراءة الفاتحة فيها خلاف شهير، والذي نختاره في الصلاة السرية أن يقرأها الإنسان، ويجب عليه قراءتها إذا أدرك الإمام قبل الركوع.
أما في الجهرية فإن سكت الإمام قرأ، وإن لم يسكت الإمام فعليه أن ينصت؛ لقوله تعالى: ((وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))[الأعراف:204].
هناك أسئلة كثيرة بعيدة عن الموضوع، والوقت ربما يضيق عنها، فحكم قول آمين هذا ذكرناه.

إحالة على كتاب في القراءات للنظر فيه فيما يتعلق بالأحرف السبعة

السؤال: نزل القرآن على سبعة أحرف، وأرجو توضيح ذلك؟
الجواب: هذا موضوع يطول جداً، لكن توجد كتب ينصح بقراءتها، هناك كتاب للشيخ عبد العزيز القاري عن القراءات القرآنية، يمكن للأخ أن يستفيد منه.

حكم تطبيق بعض السنن المترتب عليها إيذاء الآخرين

السؤال: تطبيق بعض السنن التي قد ينتج عليها إيذاء للآخرين، مثل التورك حال الزحام وغير ذلك؟
الجواب: على الإنسان أن يدري أن من السنة عدم أذية الناس، فإذا ترتب على تطبيق بعض السنن إيذاء لمن حوله فيتجنب ذلك.

معنى قول المحدثين فلان جاوز القنطرة, وحكم ذلك
السؤال: ما حكم قول: فلان جاوز القنطرة؟
الجواب: هذا يختلف، إذا كان المقصود من حيث الحكم عليه، كأئمة الحديث أحياناً يقولون: فلان جاوز القنطرة، يعني: في الثقة والعدالة والإمامة، فهذا لا بأس به، وإلا فإن الإنسان الذي في الدنيا لا يقال عنه ذلك.


ما يدرك به الركعة والجماعة

السؤال: متى يدرك الشخص الجماعة، هل هو بالركوع؟
الجواب: تدرك الركعة بإدراك الركوع، و أما بم تدرك الجماعة فقولان: قيل: بإدراك الركوع من الركعة الأخيرة، وقيل: بإدراك جزء من الصلاة ولو قل. وهذا الأخير هو الذي يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) .

حكم التسمي بأسماء الله تعالى
السؤال: هل يجوز أن يسمى الإنسان باسم من أسماء الله؟
الجواب: أسماء الله على نوعين: منها ما لا يسمى به إلا الله، وهو (الله) و(الرحمن)؛ ولهذا قال سبحانه: ((قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى))[الإسراء:110]. ولم يعرف أن أحداً من العرب كان يسمى بهما، إلا مسيلمة الكذاب ، فإنه سمى نفسه الرحمن، بعد ذلك مدحه الشاعر أو مدح غيره بقوله:
وأنت غيث الورى لا زلت رحماناوإلا حتى في الجاهلية لم يكن العرب يسمون بها.
أما بقية الأسماء فيمكن أن يوصف أو يسمى بها الإنسان، مثل قوله تعالى: ((إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا))[الإنسان:2]. وفي سورة يوسف ذكر: ((إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ))[يوسف:23] يعني: سيدي، وهكذا.


تربية النفس وعلاج أمراض القلوب من خلال آيات القرآن الكريم


السؤال: شباب الصحوة قد اهتموا كثيراً بطلب العلم، وهذا جيد، ونجد كثيراً من العلماء يقومون بذلك، ولكن هؤلاء وأنا منهم نحتاج شرح كتاب في التهذيب وتربية النفس، ومعرفة العلاج من أمراض القلوب، وهذا طلب ملح؟
الجواب: جزاك الله خيراً، وقد أصبت كبد الحقيقة، ولعل تناول هذا الموضوع من خلال آيات القرآن الكريم مما هو مفيد ونافع أيضاً.


حكم حمد الله والثناء عليه بفواتح سورة الفاتحة

السؤال: عند الدعاء نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله، فهل يصح أن نحمد الله ونثني عليه بـ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ))[الفاتحة:2-4]؟
الجواب: نعم.

عجز العقل البشري عن معرفة الغيبيات إلا من خلال الوحي
السؤال: بما أن الله تعالى هو خالقنا، وأوجد فينا العقل والتفكر، وقال: ((وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا))[الإسراء:85]، هل نستطيع أن نقول: إن عقل الإنسان أصلاً لا توجد فيه القدرة أو الخيال، لكي يحاول وصف الله سبحانه؟
الجواب: نعم، عقل الإنسان قد يكون قوياً في مجال العلوم الدنيوية، والاكتشاف والخبرة والمعرفة، لكن فيما يتعلق بالغيبيات، فالعقل هنا عاجز؛ لأنه يعمل في غير مجاله، ونحن نجد في علوم الدنيا الآن أن هناك عند الإنسان في البيت مثلاً أجهزة كهربائية، بعضها للتبريد، وبعضها للغسيل، وبعضها للكي، وبعضها للتنظيف، ولا يمكن لآلة أن تقوم مقام الأخرى.
وهكذا الإنسان، فالعقل يعمل في مجال العلوم الطبيعية والمادية والمعرفة، وفي مجال التحرير واختيار الأقوال.. وما أشبه ذلك، لكن فيما يتعلق بالغيبيات العقل هنا عاجز إلا من خلال الوحي.

بيان ما يساعد على تدبر القرآن, ودور علم القراءات في ذلك

السؤال: هل طلب علم القراءات مما يساعد على تدبر القرآن؟
الجواب: والله الذي يساعد على تدبر القرآن قراءته وفهم التفسير، وعلم القراءات قد يساعد أحياناً إذا اهتم الطالب بهذا، وقد ينشغل الطالب بالقراءات وضبطها وتجويدها، ومخارج الحروف، ويغفل عن معاني القرآن.


علاج الغضب

السؤال: يا شيخ! أنا سريعة الانفعال، شديدة الغضب، والسبب هو كثرة أعمال المنزل، وكثرة المسئولية الملقاة على عاتقي، والسبب الآخر: هو برود زوجي وتركه جميع مسئوليات التربية ورعاية الأبناء. وسؤالي: هل علي إثم إذا قمت بالسب والشتم عند انفعالي، مع أنني أندم؟
الجواب: نسأل الله تعالى أن يغفر لك ويسامحك، وأن يعينك أيضاً على هدوء نفسك، وتربيتها على عدم الغضب، وإذا شعرت بالغضب فتجنبي مثيراته، واذهبي إلى الوضوء، وإلى الصلاة، وإلى الاستغفار، وإن كنت قائمة فاقعدي، ويوماً من الأيام قلت لبعض الإخوة أو الأخوات: إذا غضبت فاذهب وانظر إلى وجهك في المرآة، فسوف تجد شخصاً آخر غير الشخص الذي تعرف، فالغضب يتقد في الجوف، وتظهر آثاره على الوجه، والغضب في الأصل مذموم؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغضب، ولا يضرب أحداً إلا أن تنتهك حرمات الله، فيغضب لذلك، أو أن يضرب في سبيل الله.

حكم لبس القفازين للمرأة أثناء خروجها
السؤال: ما حكم لبس القفازين أثناء خروج المرأة؟
الجواب: جائز، مباح.

كيفية تأديب الطفل الذي يقل عمره عن ثلاث سنوات
السؤال: ما حكم ضرب الطفل، ورفع الصوت عليه، الذي يقل عمره عن ثلاث سنوات؟
الجواب: لا ينبغي ضربه في مثل هذا السن، ولا رفع الصوت عليه، بل ينبغي أن يعلم ويؤدب، وحتى إذا ضرب يكون ضرباً بالإصبع أو بشيء خفيف، ويبين له أن هذا الأمر غير مطلوب.


حكم الصلاة التي لا خشوع فيها

السؤال: حكم الصلاة التي لا خشوع فيها؟
الجواب: إذا أدى أركان الصلاة وشروطها، فالصلاة صحيحة، والله تعالى مدح المؤمنين بقوله: ((الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ))[المؤمنون:2].


ليس كل مالك ملكاً

السؤال: هل نستطيع قول: كل مالك فهو ملك، وليس كل ملك فهو مالك؟
الجواب: لا، قد تكون أنت مالك لسيارتك، ولست بملك، فلا يمكن أن يقال هذا.

حكم الدعاء بـ(إياك نعبد) في القنوت من صلاة الوتر
السؤال: قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] هل يقال في دعاء صلاة الوتر؟
الجواب: هذا مما نقل عن عمر رضي الله عنه: [اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد] .

حكم الدعاء في القنوت بصيغة الجمع للإمام والمنفرد
السؤال: دعاء القنوت بصيغة الجمع: (اللهم اهدنا فيمن هديت)؟
الجواب: هذا أيضاً جاء عن الحسن بن علي عند الترمذي .
السؤال: هل إذا كنت وحدي؟
الشيخ: نعم، تدعو بصيغة الجمع لك ولإخوانك المسلمين، حتى لو لم يكونوا حاضرين.


أهمية القراءة

السؤال: يقول: علم عن كثرة القراءة، حبذا لو نصحتنا ببعض الكتب القيمة التي هي على قدر عال من القيمة، خاصة أن منا من يحب ذلك؟
الجواب: أنا لست مكثراً في القراءة، ولكني أجاهد نفسي عليها حتى هذا اليوم، وأعتبر أن هذه نعمة من الله، أن الإنسان لا يعتبر القراءة مرحلة انتهى منها إلى غيرها، بل لا يزال كما يروى عن الإمام أحمد ، أنه كان يتنقل بين حلقات العلم، ويقول: [مع المحبرة إلى المقبرة]. القراءة عادة حميدة، وأول ما نزل من القرآن: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))[العلق:1]. مما يدل على أهمية القراءة في العلم والمعرفة والعبادة والتكوين والرقي بالإنسان، والقراءة أيضاً إذا صحت فيها النية فهي عبادة، ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99].
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق