السودان.. كم مرة تمزقت الخريطة؟
- السودان هي امتدادي النيلي النبيل أي جنوب الخريطة الكبرى التي ما فارقت عيني وقلبي منذ وعيتها صغيرا ومع درسي الأول في عالم السياسة، ولم يكن لي ساعتها معرفة بالخط الفاصل بين وطن صغير يرفع قادته راية القطرية، ووطن ممتد جغرافيا وتاريخيا إلى عمق التاريخ واتساع الأرض، وطن انكمش في فترات حتى وصل إلى حدوده من الشرق حيث عراقنا إلى الغرب حيث المغرب ومن شمال سوريا والعراق حتى الجنوب في اليمن والسودان وعلى دوائر عرض مماثلة هناك في موريتانيا.
لا أدري كم مرة في سنوات عمري استيقظت باكيا الدم العربي الذي يسيل على أرض هذه الخريطة، هل كانت لحظة اقتحام صدام أرض الكويت تلك اللحظة الفاصلة في تاريخ هذه الأمة بجغرافيتها وتاريخها، أم قبلها في عشرية الجزائر السوداء في سنوات ثمانينيات القرن العشرين، أم عندما دخلت قوات التحالف الكويت في يناير/كانون الثاني 1991 لإجلاء القوات العربية العراقية عنها؟ حينها تلاشت أمام عيني كل الأحلام، جلست على حافة الهاوية أبكي وطنا يتمزق.
خريطة ممزقة
هذا الوطن الذي صار يتمزق دائما ليس على يد أعدائه، بل على أيدي أبناء رباهم العدو ليكونوا بديلا له، فصارت التمزقات تفتت خريطتي يوما بعد يوم، حماقة عربية تلي حماقة أخرى، والجميع يمزق، تارة باسم الحق وهو منهم براء، وتارة باسم الديمقراطية ولم يمارسوها يوما واحدا في حياتهم، إنما هي المطامع في السلطة والمال والنفوذ.
هل كانت تلك التمزقات حديثة على تلك المنطقة الجغرافية الواحدة؟ نعم إنها كتلة واحدة لا تتمزق، فلِمَ يسعى أبناؤها لتمزيقها؟ ألا يكفي هؤلاء ما فعله بهم الاستعمار بجعلهم دولا تتناحر مع بعضها بعضا، وبفعل سايكس بيكو صاروا أقطارا متناحرة؟ ألا يكفي الطامعين في السلطة والنفوذ ما فعله بلفور بقطع امتداد الخريطة بوعده المشؤوم في فلسطين ليمزق الكتلة العربية في آسيا ببقيتها في فلسطين، هل وعى من يملك السلطة ما فعلته الفتنة الكبرى في بداية الأمة الإسلامية بنا، وما حدث بعدها؟ ألم يفطنوا أن من سعى في الماضي في كل دول الخلافة هو من يسعى اليوم ليجعل من هذا الوطن أشلاء يتنافس على قطع منها بعض من طعموا خبزه، ولكنهم يدينون بالولاء لغير هذه الأرض؟
تاريخ دماء الأمة
تاريخ طويل من الدماء إسلامية/إسلامية، عربية/عربية، ولكن ما حدث في خمسين عاما مضت كان فوق الاحتمال، بدأت بتمزيق العراق وجعلها شيعا وفرقا، ديمقراطية الدبابة الأمريكية جاءت لتنفيذ أسوأ ما عُرف عنها، غابت عراقنا كثيرا عن الخريطة، وهي التي كان مأمولا منها الكثير، حماقة أودت بالدولة الكبرى إلى مجاهل التاريخ لتغيب، ثم جاء الدور على سوريا لتتمزق وتنكسر، ويصبح شمالها غير جنوبها، وشرقها بعيدا عن الغرب، إنها آفة أمة أصيبت في عقلها وغاب عنها تاريخها، تتوالى الكوارث علينا، أصيب جناح الأمة مفتاحها الشرقي إلى قلبها، حوصرت مصر قلب هذه الأمة من شرقها، هنا في فلسطين، وهناك في عراقنا وسوريا، ليس هذا غريبا، إنما الغريب ألا نعي هذا، مصر التي قادت تحرير الأرض من الهكسوس والمغول والصليبيين، وحاولت في فلسطين، مطلوب حصارها دوما، سواء من الداخل بمن يفتح بواباتها لأعدائه، أو من خارجها ليتم قص امتدادها.
تمزقت الخريطة في اليمن، ودماء عربية/عربية تسيل، وإسلامية/إسلامية تنهمر، أليس اليمن مفتاح البحر الأحمر؟ أليس اليمن بوابتنا الجنوبية؟ فلماذا لا يُصنع منه يمنان، شمالي وجنوبي، فلتتمزق بقعة أخرى على الخريطة، ولنبكِ دما على خريطة حافظ عليها رجال وفرطنا فيها، ويا طول ليل البكاء إذ لم نفق لندري أعداء الأمة من أصدقائها. ويجري هذا من الجنوب إلى الغرب في ليبيا، وما يحدث في تونس ليس بعيدا، فهي جزء من خريطة منكوبة بقوات دعم وقوات انتشار، وأطماع في ثروات ونفوذ لأبنائها، إذَن ليكن السودان محطة في هذا المسار التمزيقي.
حان وقت السودان!
لم يكف أن يتمزق السودان بمساحته الشاسعة إلى قطرين، السودان الذي لو تركوه لكان مزرعة العرب، وآمال ثروتهم الزراعية والحيوانية، السودان بنيله الممتد إلى ضلعه الشمالي في مصر كما يمتد جذر مصر إلى أعماقه هناك في السودان، مزقوا السودان إلى دولتين، شمال وجنوب، حاكمين، ولم يكفهم، تعمدوا إثارة الفتن، خلقوا جهات متصارعة في المتبقي بعد انفصال الجنوب، صنع الحكام كما يحاولون في كل جزء من الخريطة أدوات الصراع، غذوهم بالقائمة الطويلة من مشاعر الضغينة بينهم، ألم يحدث في التاريخ؟ حدث، ولكنها أمة لا تقرأ، وإن قرأ بعض أبنائها ووعى كان مصيره سجون من لا يقرأ ولا يعي.
لا يهم من يفعلها أولا، أهو حميدتي أم البرهان؟ وإذ بحثت في كل دولة عربية ستجدهما بأسماء أخرى، وإن تجولت في تاريخنا الدموي ستجدهما تحت ألقاب أخرى، أهو التاريخ يعيد نفسه، أم إن الشعوب لا تتعلم منه؟ إنها أزمة أمة، ولا يهم من يكسب، فالخاسر هو سوداننا، وخريطة الأمة مهما تباعدت أجزاؤها، قد يكسب بعض حكامها، ذهبا أو مزرعة هنا وهناك، لكننا نخسر بفعل الحماقة.
متى يلتئم شملنا؟
صاحب الضربة الأولى يكسب في المعارك العسكرية، لذا قد يكون إما نصرا لقائد قوات الجنجويد التي تعود نشأتها إلى حكم جعفر النميري (1969-1985) أو ما تسمى قوات الدعم السريع، أنشأها دعما له، فصارت الآن دعما علينا، قوة خارج جيش البلاد النظامي، ولا يعني هذا موقفا من أحدهما، لكني لا أحب انقسام الجيوش حتى لو فسدت أو انحرف قادتها، فهل ستكون الحركة الأولى على طاولة الشطرنج السودانية مقدمة لانشطار ثالث في الدولة الكبيرة، أم سيظهر فيها من يعي الفخ الذي وقعنا فيه؟ هل يولد سوار ذهب جديد، وتكون قوى التغيير صاحبة المشهد الأكثر ظهورا؟
متى يظهر لنا صلاح الدين؟ وهل يمكن أن يجمع أمة صارت خريطتها أشلاء دول، يبعث فينا روح الأمة الواحدة، لا يهم أن يكون إسلاميا أو عربيا، فكلاهما واحد لا فرق، الفرق دائما في مهمته، تلك الخريطة بحاجة إلى من يعيد لملمة أشلائها، ضم جنوبها إلى شمالها وغربها إلى شرقها، يطهرها ممن جاؤوا إليها، أو ذهبوا منها ثم عادوا ليعادوها.
ألا يكفي قهرنا ونحن عاجزون عن إيقاف سيل الدماء العربية؟ هل تكتمل الخطة بمحاصرة مصر؟ وإن كان فيها ما فيها من علل وأمراض، مصر قلب خريطتي التي ستظل كتلة واحدة حتى تعود مطلوب حصارها، هل يكتمل ويتم حصار نيلها ومنعه عنها، أم سيعقل من يمسكون زمام الحرب في السودان ليدركوا أننا كتلة واحدة: عراق، يمن، سوريا، مصر، وسودان؟ نأمل هذا، ولكن المؤشرات لا تعطي أملا، فما زال أمام الأمة مشوار طويل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق