“عفريت الكيزان” في حرب السودان
ما إن اندلعت المواجهة المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي بدأتها الثانية حتى انطلقت على الفور اتهامات بحق الإسلاميين السودانيين (الكيزان) بأنهم هم الذين أججوا تلك الحرب بغية العودة إلى الحكم الذي خلعهم منه خصومهم السياسيون بالتعاون مع الجيش.
إقحام اسم الإسلاميين في المعركة يعطيها مذاقا سياسيا رغم أنها معركة نفوذ بين عسكريين، كما يجلب دعما إقليميا ودوليا من كل المتربصين بالتيار الإسلامي الذين يعتبرون أن مهمتهم وأموالهم وكل إمكانياتهم مخصصة لمحاربة الإسلاميين أينما وُجدوا.
ركب قائد الدعم السريع “حميدتي” هذه الموجة، وخاطب الغرب باللغة الإنجليزية، صارخا أنه يحارب نيابة عنهم الأصوليين المتطرفين، ودعا المجتمع الدولي إلى التدخل ضد غريمه الفريق البرهان الذي وصفه بأنه إسلامي متطرف، مدعيا أن قواته (الدعم السريع) تحارب الإسلاميين المتشددين الذين يأملون إبقاء السودان معزولا في الظلام وبعيدا عن الديمقراطية، ومقدما نفسه باعتباره حامي حمى الديمقراطية في السودان..لا أصدّق شخصيا أن حميدتي الذي لا يحمل شهادات دراسية هو من كتب تلك التغريدة، فلا هو يجيد الإنجليزية، ولا هو صاحب أيديولوجية معادية للتيار الإسلامي بالأساس، فقد كان جزءا من منظومة حكم هذا التيار لسنوات طوال، وشقيقه الأكبر ونائبه عبد الرحيم دقلو هو أحد “الكيزان” الكبار، لكن من الواضح أن محركيه الإقليميين الذين أنشأوا له حسابه على تويتر هم من كتبوا له تلك التغريدات، ضمن معركتهم الممتدة ضد الإسلاميين في كل مكان.
التخويف بالإسلاميين
لم يكن حميدتي وحده من استحضر “عفريت الكيزان” ليخيف به المجتمع الدولي ويستدر به دعمه، بل سبقته إلى ذلك قوى الحرية والتغيير، التي ما فتئت تبني سرديتها على مواجهة فلول (الكيزان)، ولا تزال تغذي هذه الرواية لدى حميدتي غافرة له هجومه عليهم في اعتصام مقر القيادة إبان أيام الثورة، وقتله العشرات منهم، ومشاركته لاحقا في الانقلاب الجديد في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، الذي أوقف المسار الانتقالي، فهذه القوى (الحرية والتغيير) ترى أن هدفها في الانتقام من “الكيزان” يعلو كل هدف آخر، حتى لو كان الثمن هو اندلاع حرب أهلية وتمزيق الوطن مجددا.
من الطبيعي أن تتصدى أي قوى سياسية للعدوان عليها وفقا لقدراتها وحساباتها، وحين وجدت القوى الإسلامية نفسها أمام حرب استئصال لم تقتصر على حزب البشير “المؤتمر الوطني” فإنها تحركت دفاعا عن وجودها، وشكلت ما سُمي التيار الإسلامي العريض، ودخلت في تحالف نداء أهل السودان الذي ضم معها الطرق الصوفية، وبعض المجموعات القبلية، ثم أصبحت مع بعض الأحزاب العلمانية الأخرى والحركات المسلحة أكبر كتلة سياسية رافضة للاتفاق الإطاري الذي وقعته مجموعة الحرية والتغيير (قحت) مع المجلس العسكري، الذي قسم الحكم بينهما مستبعدا باقي القوى بما فيها الإسلامية التي لم تكن جزءا من نظام البشير.
قوى متجذرة في السودان
القوى الإسلامية متجذرة في السودان، ولا يمكن تجاوزها في السلم أو الحرب، فهي من أقدم المكونات الدينية والسياسية والاجتماعية، ولا يكاد بيت سوداني يخلو من أحد منتسبيها، وقد شاركت في الحياة العامة مبكرا قبل الاستقلال، مع بدء نشاط الإخوان المسلمين عام 1946، مرورا بتأسيس الجبهة الإسلامية للدستور التي ضمت إلى جانبهم بعض الأحزاب العتيقة عام 1955، ثم جبهة الميثاق الإسلامي 1964-1969، ثم الجبهة القومية الإسلامية 1985-1989، التي حلت ثالثا بعد الحزبين التاريخيين (الأمة والاتحادي)، وصولا إلى الحكم الكامل بعد ذلك ولمدة 30 سنة، ورغم تولي الحركة الإسلامية ممثلة في حزبها (المؤتمر الوطني) الحكم، إلا أن جزءا معتبرا من ناقديها ومعارضيها كان من قوى إسلامية أخرى سواء منشقة أو مستقلة عنها مثل المؤتمر الشعبي، أو الإخوان المسلمين، أو جماعة أنصار السنة، أو حركة الإصلاح الآن، أو حركة “السائحون”، أو حزب دولة القانون والتنمية إلخ.
حين يدعي حميدتي أن تحرك قواته كان بهدف دعم الديمقراطية ونقل السلطة إلى المدنيين فهو يهذي بالتأكيد، فمن يصدّق أن قائد مليشيا مسلحة مطلوبا للعدالة الدولية لم يعرف يوما معنى الديمقراطية أو العمل السياسي التنافسي يمكن أن يصبح بين عشية وضحاها داعية ديمقراطية؟! وكيف يمكن لرجل تلطخت يداه بدماء السودانيين في دارفور وفي اعتصام القيادة وغيرها أن يصبح بين عشية وضحاها ملاكا طاهرا، حريصا على تسليم السلطة للمدنيين؟!
خطة الانقلاب الخاطف
حاول حميدتي تحت راية هذه الشعارات البراقة أن يسيطر على السلطة كاملة بانقلاب عسكري خاطف يوم السبت الماضي، خطط له بالتعاون مع كفلاء إقليميين ودوليين، لكنه لم يتمكن سوى من السيطرة على بعض المواقع قبل أن يفيق الجيش ويبدأ هجوما مضادا، وهنا لجأ كفلاؤه الإقليميون خاصة الإمارات والكيان الصهيوني إلى تحضير “عفريت الإسلاميين” لتخويف الغرب ودفعه لمساندة حميدتي، فانطلقت أبواق الدعاية عبر القنوات والمواقع وصفحات التواصل محذرة من عودة الإسلاميين إلى الحكم في السودان، وزاعمة أنهم يشاركون فعليا في العمليات العسكرية الحالية.
لا يخفي الإسلاميون السودانيون دعمهم للجيش في معاركه مع قوات الدعم السريع التي انحازت إلى قوى الحرية والتغيير الخصم الرئيسي للإسلاميين، والتي تستهدف استئصالهم بشكل كامل من خلال ما عُرف بلجنة تفكيك النظام السابق، ومن خلال استبعادهم من ترتيبات الفترة الانتقالية، وهنا نستحضر الدور الأصيل لقوى الحرية والتغيير في إيصال السودان إلى هذه الحرب الداخلية، ففي الوقت الذي تعهد فيه العسكر بمرحلة انتقالية عقب خلع البشير لمدة 6 أشهر فقط لتسليم السلطة للمدنيين عبر انتخابات تنافسية إلا أن تلك القوى (الحرية والتغيير) طلبت مدة أطول، وصلت حتى الآن إلى أكثر من 4 سنوات، فقدت الثورة خلالها زخمها، وتمكن المكون العسكري من إعادة ترتيب صفوفه وتحسين قدراته، وهنا انتقل الصراع على النفوذ داخل المكون العسكري نفسه، وحين شعرت قوى الحرية والتغيير بضعف موقفها بعد ظهور جبهة شعبية واسعة ضدها فإنها تحالفت مع حميدتي ليمكنها مجددا من فرض رؤيتها للمرحلة الانتقالية والانفراد بحكم السودان بدون انتخابات، وكانت النتيجة ما نراه الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق